الأصول الاقتصادية والتجارية للديمقراطية

"ستيفن مارتن فريتز" و"دينيس موريل" يتأملان فى كيفيه نشأة الديمقراطية. والمقال يحمل وجهة نظر جديرة بالاهتمام حول علاقة الانشطة التجارية والاقتصادية بنشأة وانتشار الديموقراطيات. كما يناقش سبب عدم نجاح محاولات فرض الأنظمة الديمقراطية على النهج الغربى فى دول لا يتوافر فيها الحد الادنى من الآليات الخاصة بحرية التجارة والصناعة والأسواق المفتوحة. 


المقال:

عندما كان "بايدن" رئيسًا، حذر من أن خصومه السياسيين يشكلون تهديدًا للديمقراطية. كما وجهت اتهامات مماثلة للرئيس البرازيلى السابق "جايير بولسونارو". 

وبحسب العديد من المراقبين والخبراء يبدو وكأن تهديد الديمقراطية أصبح ظاهرة عالمية. 

تجرى العادة أن يقوم المحافظون بانتقاد خصومهم السياسيين باعتبارهم متساهلين مع الجريمة، على حين ينتقد الليبراليون منافسيهم بحجة عدم اهتمامهم بالفقراء؛ إلا أن اتهام المعارضة بأنها "تهديد للديمقراطية" يبدو نهجاً جديدًا. 

ولكن هل هذا صحيح؟

الحقيقة أن التحذيرات من قبيل "ستنتهى الديمقراطية إذا لم تستمعوا إلى!" تكاد تكون قديمة نفس قدم فكرة أن الأغنياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقرًا.

فمنذ تأسيس أول ديمقراطية فى أثينا، اعتاد المفكرون تحذير المواطنين من أن زوالها بات وشيكاً. 

رغم ذلك فلقد عاشت الديمقراطية لقروناً عديدة فى اليونان وفى روما، ولم يتحقق قط ذلك التحذير.

كيف تظهر الديمقراطية:

لتحديد ما إذا كانت الديمقراطية مهددة أم لا، يتعين علينا أن نفهم كيف تنشأ الديمقراطيات فى المقام الأول.

في كتابه "حياة اليونان" (1939)، يقدم لنا المؤرخ "ويل ديورانت" دليلاً على كيفية نشأتها: 

"فى عام 459 قبل الميلاد، أرسل "بريكليس"، الذي كان حريصًا على السيطرة على محصول الحبوب المصرية، أسطولًا كبيرًا لطرد الفرس من مصر. بعد فشل الحملة، تبنى "بريكليس" سياسة الإستيلاء على العالم من خلال التجارة بدلاً من الحرب".

هكذا لم يكن من قبيل الصدفة أن تظهر الديمقراطيات القديمة فى مواقع الإنتاج أو عند مفترق طرق التجارة. فقد أرغم السعى إلى الربح التجار ـ وهم عادة رجالاً متعصبين وكارهين للأجانب ـ على المقايضة بأدب مع تجار من بلدان أخرى. وإذا كان الشرط الأول للبائع هو القدرة على اكتشاف مواضع الربح فى أى صفقة، فإن الشرط الثانى لابد وأن يكون التسامح مع الملابس والعادات الغريبة لأى زبون يدخل من الباب. ذلك أن نجاحه سيعتمد على معاملة الجميع على قدم المساواة، سواء أحبهم أم لا. 

إذن فالتجارة تحول التعصب إلى تسامح. 

بعد قرون من الزمان وبفضل نفوذها التجارى استطاعت روما، كاليونان قبلها، ان تصبح هى القوة المهيمنة . 

لكن فى نهاية المطاف، أدت حروب روما الدائمة إلى نقل نسب أكبر من الثروة والسلطة ليد الدولة، الأمر الذى أدى لتدهور التجارة فى الإمبراطوريتين معا.

عند سقوط روما فى القرن الخامس الميلادى، خيم على أوروبا ظلام دامس دام قرابة ألف عام. 

وفى القرن العاشر، أدت التجارة الواسعة النطاق إلى تشكيل الجمهوريات البحرية الإيطالية فى "البندقية" و"جنوة" و"بيزا"، مما أدى لولادة الديمقراطية مرة أخرى ولكن لفترات قصيرة هذه المرة، ذلك أن المعارك التى لم تنتهى كانت كفيلة بانهاءها. 

ومع ذلك، كانت تلك التجربة كفيلة بتأكيد نفس المبدأ: تولد الديمقراطيات كتعبير سياسى عن المجتمعات التجارية.

الأن دعونا نستكشف لماذا يؤدى النشاط التجارى إلى ظهور قيم المساواة والديمقراطية والحكم الذاتى والحرية.

إن توسع التجارة يغير العلاقات بين الناس، ويشكلها لتتناسب مع عقلية أصحاب العمل. فمعظم العلاقات التجارية، علاقات سطحية، يتم قياس نجاحها بمعيارى المكسب والخسارة فقط. 

التاجر لا يهمه لون بشرتك، ولكن لون نقودك. لا يهمه كثيرًا إذا كنت أجنبيًا أم جاره فى الشارع المجاور. لا يهتم بإلتزامك الأخلاقى، أو يهتم بمن هو الإله الذى تعبده. طالما أنك مهتم بشراء ما يبيعه، فذلك أكثر من كاف. 

وبهذه الطريقة تتطور المسائل فى التجارة، لتصل إلى القبول العام تقريباً بكل شىء، طالما أدى ذلك الى ممارسة تجارية جيدة. 

فالاعمال التجارية تعزز فى النهاية مفاهيم التسامح الاجتماعى والسياسى الأوسع. 

وعندما تبدأ الطبقات التجارية فى اكتساب المزيد من السلطة فى المجتمع، عندئذ يحدث التغيير. 

يشير "ستيفن مارتن فريتز"، فى كتابه (القطعان البشرية،  2020)، الى ذلك بقوله: "يبدأ الحراك الاجتماعى عندما يذهب نجار إلى مطعم لتناول وجبة، فتصبح النادلة خادمته المؤقتة. فى اليوم التالى، عندما يظهر نفس النجار فى منزل النادلة لتثبيت خزائنها، تصبح النادلة هى صاحبة العمل ... وبهذه الطريقة، ينظر كل منهما إلى الآخر باعتباره متساويًا اجتماعيًا".

التاريخ نتاج للتجارة وعمليات الإنتاج:

إن التجارة لا تقوم بخلق الثروة والديمقراطية فحسب: ولكنها تخلق التاريخ أيضاً. 

ففى الدول ذات الإنتاجية المنخفضة والمعاملات التجارية الضعيفة، لا يتغير شيء. فبدون التجارة، يسود الفقر وتنعدم الفرص، ويختفى الحراك الاجتماعى. لا جديد يحدث، فالابن سيصبح مزارعاً مثل أبيه، والابنة ربة منزل مثل باقى النساء الأخريات، وتبدو الأمور وكأن التاريخ نفسه قد توقف. 

فى ظل هذا الركود، تصبح العلاقات طويلة الأمد راسخة. فعندما يخدع جدك جدى، فإن عائلتك ستظل فى ذاكرة الأجيال باعتبارها غير جديرة بالثقة. وبالتالى يصبح تاريخ العائلة مهماً للغاية. 

وعندما يتم اختيار أحدهم كمسؤول حكومى، سيحاول المناورة ليحصل أقاربه على مناصب مماثلة، وبذلك تتطور التسلسلات الهرمية وتظل دون تغيير لسنوات عديدة. 

الدول الفقيرة ستنتج منظومة هرمية التسلسل بشكلٍ حتمى، تصبح فيها بعض العائلات أكثر جدارة وأهمية من غيرها. 

وستتطور التقاليد الطبقية، فتصبح أفكاراً مثل "الشرف" و"السمعة" ذات أهمية قصوى، بحيث تحل إلى حد كبير محل النقود كعملة للمجتمعات الفقيرة.

أما فى النظم الديمقراطية فكل ذلك ينقلب رأساً على عقب، فهذه النظم تتغير وتتشكل سياسياً بشكل دائم ومستمر.

 ذلك أن التجارة الواسعة النطاق تضمن وفرة من الاختراعات الجديدة بما يؤدى إلى تغييرات فى نمط الحياة.

تتطور الأمور بشكل سريع، ويتحرك الناس من مكان إلى آخر، طبقا لمصالحهم المالية. 

وعلى هذا فالديمقراطية هى التقدم الحضارى السريع، المصحوب بحدوث الكثير من التغييرات خلال فترات زمنية قصيرة نسبياً. وفى غضون بضعة أجيال، يصبح الجيران يكادوا لا يتعرفوا على جيرانهم. 

وقد يكون الرجل الذى يقف خلفك فى الطابور فقيراً أو صاحب منصب حكومى؛ أنت لا تعرف، ولا تهتم. 

تتلاشى أهمية اشياء من قبيل الشرف و السمعة. فمثل هذه الأمور لم تعد تعنى الكثير، فلا احد يعرف ماضينا أو يهتم به، بل وقليلون حتى الذين يعرفون أسمائنا.

الحكم الذاتى والحرية:

نظراً لتلاشى نفوذ الملكيات الديكتاتورية، وجدت المجتمعات الفرصة كى تنتقل الى شكل آخر من أشكال الحكم. فعندما تكون الموارد التى يتم فرض الضرائب عليها قليلة والأنشطة التى يتم مراقبتها وتنظيمها أقل، يقل عدد المشرفين الحكوميين ويتراجع تأثير البيروقراطيين.  

يخلق هذا فرصاً لرواد الأعمال، فالتاجر المغامر الذى يفتح متجراً لبيع سلع جديدة قد يزيد ثروته ببطء. ولأن الحكومات ترغب فى الحصول على المزيد من الثروة، فغالباً ستمنح الشركات الجديدة مجالاً اوسع للعمل. 

هكذا ستتوسع الشركات وبسرعة أكبر من قدرة الحكومة على السيطرة عليها، فيصبح التحول إلى الديمقراطية امرا متاحاً. 

ولأن الأنظمة الاستبدادية لا تعرف كيفية التحكم فى الشركات الجديدة، تضطر إلى توظيف أعضاء من مجتمع الأعمال نفسهم لاقتراح اللوائح التنظيمية. وبالتالى يتولى المنتجين حكم أنفسهم، وفى ظل هذه الظروف من "الحكم الذاتى"، يمكن للإنتاج والتجارة أن يزدهرا.

واذا كان من السهل أن نرى الصلة ما بين التسامح والحكم الذاتى، فإن الصلة ما بين التجارة والحرية ليست بنفس القدر من الوضوح.

"الحرية" مصطلح يتم تداوله غالبًا أثناء الفترات الديمقراطية، ونادرًا ما يتم الترويج له فى العصور الأرستقراطية حيث تنعدم تقريبا الخيارات.

ذلك أن الحرية تتطلب القدرة على إتخاذ خيارات متنوعة ومختلفة، وكلما زادت الخيارات المتاحة لنا، كلما كنا أكثر حرية. 

والإنتاج المادى يخلق ملايين الخيارات.

يمكننا أخذ مثال الولايات المتحدة وكندا اللذان لا يختلفان كثيراً فى الجغرافيا ونوعية السكان. ومع ذلك، فالناس فى الولايات المتحدة أكثر ثراء بنحو عشرة فة المائة، لانه وباختصار، يتمتع الأميركيون بمزيد من الخيارات مقارنة بالكنديين. وينطبق الشىء نفسه ولكن بصورة أكبر على الاختلافات بين الولايات المتحدة والمكسيك. 

ولكن الصورة تغدو واضحة حقا عندما ننظر إلى الاختلافات بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. فاللغة والمناخ متماثلان. ولكن هناك تفاوت هائل  فى مقدار الإنتاج والتجارة، ونوعية الاختيارات، ومدى اتساعها. 


الطريق الوعر إلى الديمقراطية:

كان لانفجار الثورة الصناعية الأثر المباشر لبزوغ عصر الديمقراطية العالمى الحديث، وما تبعه من مبادئ الحرية والمساواة.

فى منتصف القرن الثامن عشر، كان أصحاب مصانع النسيج فى بريطانيا هم أول من طبقوا العلم والتكنولوجيا على نطاق واسع، وهو الأمر الذى رحبت به الحكومة فى البداية. فمعظم أعضاء الحكومة من الأرستقراطيين الذين كانوا حريصين على فرض الضرائب على تلك الثروة المتزايدة الناتجة عن ذلك. 

اصبحت العديد من ديمقراطيات اليوم تفعل ما فعلته بريطانيا سابقا، وتضع الأولوية للممارسات التجارية، قبل العادات والنظم التقليدية.

لقد أصبح لزاماً على القيود الثقافية أن تفسح المجال لاحتياجات أصحاب المصانع و اقطاب الصيد التجارى وأصحاب الاعمال. 

فى كتابه "الديموقراطية فى أمريكا" 1840، لاحظ "ألكسيس دى توكفيل"، أن أحد جوانب الاختلاف بين الديمقراطيات والأرستقراطيات فى أوروبا هو أن "الجميع في الديمقراطيات يعملون".

ولكن الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، لم يكن سلسا، بل كان فى كثير من الأحيان دموياً. 

فقد استغرق الأمر من البريطانيين قرنين من الزمان لكبح جماح الهيمنة الملكية وإطلاق العنان لثورتهم الصناعية.

كانت البداية عام 1649 بقطع رأس "تشارلز الأول" ولم يكتمل المسار إلا فى القرن التاسع عشر فى عهد "الملكة فيكتوريا". 

وفي فرنسا، كان الانتقال فوضوياً بنفس القدر، وطويلاً أيضاً. بدأ بتوسع التجارة، وصعود اليعاقبة الباحثين عن المساواة، وقطع رأس "لويس السادس عشر" فى عام 1793؛ ثم تراجع خطوة إلى الوراء مع دكتاتورية "نابليون"، ثم انطلق إلى الأمام مرة أخرى مع الجمهورية الثالثة، واستقر أخيراً فى ديمقراطية مستقرة بداية القرن العشرين. 

وكثيراً ما يشعر المحللون السياسيون المعاصرون بالإحباط إزاء الوتيرة البطيئة التي تتخذها روسيا والصين لإتمام عملية الانتقال. ولكن إذا استغرق الأمر من بريطانيا وفرنسا قرنين من الزمان للتحول من الاستبداد إلى الديمقراطية، فلماذا تكون روسيا أو الصين قادرة على القيام بذلك بسرعة أكبر؟

 هناك نمط يتكرر فى كل الديمقراطيات الناشئة، فأوائل من يقتحمون مجالات الصناعة والتجارة يصبحون أثرياء بشكل خيالى، مما يخلق حالة من الشك والقلق عند أصحاب رؤوس الأموال القدماء. وإذا اكتسب التجار قدراً أعظم من القوة والمكانة الاجتماعية قبل اكتمال عملية التحول الديمقراطى، فغالبا كان الحرس القديم يسوقون الأسباب لسجنهم أو قتلهم لمصادرة ثرواتهم. 

إن الزعماء والمفكرين السياسيين الذين لا يفهمون أن دولاب الإنتاج والتجارة هو المحرك الأساسى الذى يخلق العقلية الديمقراطية يتصورون أن الديمقراطية يمكن فرضها على الناس. ويذهبون إلى أن الدول الفقيرة إذا لم تتمكن من فهم فوائد الديمقراطية فإنها سوف تنهض وتطالب بها لنفسها. والافتراض هنا هو أن غزو دولة ما وحشد مواطنيها إلى صناديق الاقتراع من شأنه أن يؤدى إلى خلق الديمقراطية بطريقة سحرية. 

ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن الناس يمكن إقناعهم أو تعليمهم أو تحويلهم إلى الديمقراطية. فبدون تعزيز قاعدة عريضة من الإنتاج والتجارة ـ كما حدث في اليابان وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية ـ فإن تلك الجهود محكوم عليها بالفشل، لأن الحرية السياسية، كما رأينا، مشتقة من عمليات الإنتاج الحر.

هل يمكن لأمة من الجهلاء أن تكون ديموقراطية؟:

لقد أعرب المفكرون السياسيون فى أحيان كثيرة، عن قلقهم بشأن استمرار الديمقراطية. 

فوضع العملية الانتخابية فى أيدى أناس غير متعلمين بالقدر الكافى قد يصبح فى نهاية المطاف امرا كارثياً. وفى كتابه "تأملات في الحكومة التمثيلية" (1861)، اقترح "جون ستيوارت ميل' أنه على الرغم من أن كل شخص بالغ فى النظام الديمقراطى ينبغى أن يكون له حق التصويت، إلا أنه يجب منح الأكثر ذكاءً وعلماً صوتين أو ثلاثة.

لكن لماذا إذن لم تنهار الديمقراطيات عندما يتم انتخاب القادة بواسطة هؤلاء الناخبين ذووى التعليم المحدود واحيانا الجهلاء؟ 

السبب واضح للغاية. 

فالأمر المهم فى الديمقراطيات ليست درجة تعليم الافراد؛ ما يهم حقاً هو مدى سلاسة العمليات التجارية فى المجتمع، ومدى السهولة التى ينجز بها كل الأفراد عملياتهم التجارية مع الآخرين. 

ليست السياسة هى أهم شئ فى الحياة؛ بل الاقتصاد، الإنتاج والتجارة هما الأهم. 

إن الرئيس أو الحاكم ليس هو من يوفر احتياجاتنا؛ بل تقوم بذلك المحال والمتاجر الكبرى، من يقوم بذلك هو الأسواق. لذا، فعلى سبيل المثال، قد يُسمح للمواطن العادى ان يقوم باختيار الرئيس القادم للولايات المتحدة؛ ولكن لا أحد سيثق فى نفس المواطن إذا قام باختيار المدير الإقليمى القادم لشركة تجارية او منشأة اقتصادية، او صناعية.

الديمقراطية تنشأ بطريقة قريبة من نظرية "ديفيد ريكاردو"  فى كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسى والضرائب" (1817) عن طريق ما أسماه "الميزة النسبية": 

فالناس ليس مطلوب منهم ان يكونوا حكماء او علماء؛ وانما فقط متخصصون. 

التخصص هو ما يسمح لنا القيام بسلاسل انتاج وفيرة، مع اقل قدر مطلوب من العلم او المعرفة. 

فكل منا يعرف القليل جداً على المستوى الفردى؛ ولكن من خلال عمليات  تقسيم العمل سواء فى الإنتاج أو التجارة، يمكننا أن نجنى الكثير. ذلك أن كل ما نحتاج معرفته موجود فى مكان ما فى رؤوس الآخرين...

ربما كان هناك شخص متعمق فى الفلسفة ودارس للآداب العالمية ومطلع على الموسيقى الكلاسيكية، ولكن مجتمع  التخصص الانتاجى ليس فى حاجة إلى مثل هذا الشخص المتعلم على هذا القدر الرفيع.  

فهو كما وصفه "ألبرت جاى نوك"  الرجل "الفائض عن الحاجة".   

(مذكرات رجل فائض عن الحاجة، 1943).

الديمقراطية والنظم الاجتماعية:

تقوم النظم التجارية بإعادة تشكيل أفكارنا حول الغرض من الحكومات. 

فى الماضى، تصور الفلاسفة أن وظيفة الحكومات هى أساسا الأخلاق. فبالنسبة للمفكرين الأوائل، كانت الحكومة موجودة للمساعدة فى جعل كل منا إنساناً أفضل ــ أن نكذب أقل، ونكون أقل غروراً، وأن  نؤمن بالله ونحبه. ومن خلال جعل الناس أفضل، نخلق أمة أفضل.


 لا تزال بعض الحجج الأخلاقية مستمرة فى الديمقراطيات الحديثة، فتجرى المناقشات حول اشياء من قبيل ماهية الزواج ، وتقنين المخدرات، والتغير المناخى، والإجهاض إلخ. 

ولكوننا كائنات اجتماعية، ما زلنا حريصين على إقناع الآخرين بآرائنا. ولكن على النقيض من الأنظمة الاستبدادية ــ تنبع مثل هذه القرارات من المشاركة الكاملة للسكان البالغين. قد يؤدى ذلك الى نزاعات وصراعات عقائدية لا نهاية لها، ومع ذلك، فهذا ليس ضعفاً فى الديمقراطية، بل هو منبع قوتها. 

فعلى النقيض مما قد يعتقده البعض من أن الديمقراطية فى خطر؛ فإنه إشارة لازدهار الديمقراطية. 

الديمقراطيه فى جوهرها تعنى الاختلاف. 

لعل اقل مظاهر الديموقراطية أهمية تأتى مع صناديق الاقتراع. 

ففى السوق السياسية، نقوم بشراء الممثلين والقادة كما نشترى الصابون فى السوق التجارى. الفرق الوحيد اننا نستخدم اصواتنا بدلا من استخدام المال. وبغض النظر عن السياسى الذى نختاره، تسير الأمور على نفس المنوال تقريبا بعد الانتخابات كما كانت قبلها. ما يحدث فى المراكز التجارية، وليس الهيئات التشريعية، هو المهم.

لقد أتى حق الانتخاب بعد اكتساب الناس القدرة على الإنتاج والتجارة. كان التصويت تاريخياً يقتصر في البداية على أصحاب العقارات من الذكور، ولم يمتد إلى جميع الرجال إلا في وقت لاحق. ثم عندما أخذت النساء مكانهن فى التجارة والصناعة بجانب الرجال، اكتسبن مكانهن بجانبهم فى صناديق الاقتراع أيضا. ومع انتشار الثروة على نحو متزايد، يتحدث البعض الآن عن منح حق التصويت للأطفال. ولماذا لا؟ طالما استمرت المصانع والمتاجر والأسواق فى العمل بحرية، فلن يكون لذلك أى أهمية كبيرة حقا.

في نهاية المطاف، ليست الديمقراطيات سوى منتج تجارى أساساً. 

الثقافات الديمقراطية تقوم على مبادئ الحرية، فى الحياة والتجارة والاعمال. مبدأ ان تعيش وأن تسمح للآخرين بالعيش. 

وتصبح الحكومة هكذا مؤسسة لا يتلخص هدفها الأساسى فى جعل شعبها صالحاً، بل في جعلهم مزدهرين اقتصاديا. وعلى هذا، فبينما قد تهيمن الشعارات الأخلاقية، سواء الليبرالية أو المحافظة على الحملات السياسية، فإن التشريعات الرامية إلى "تحسين حياة الناس" تركز فى الأغلب على أمور من قبيل دعم الشركات، والضرائب، وإعادة توزيع الثروات.

كيف تموت الديمقراطية؟

اذا عدنا مرة أخرى إلى التاريخ، سنكتشف أن الديمقراطيات لا تموت ببساطة؛ بل إنها فى الحقيقة تُقتَل. 

فعندما يغير المجتمع تركيزه من الإنتاج والتجارة فى أوقات السلم والرخاء إلى الصراعات والحروب، يتم إعادة توجيه للصناعة نحو غايات مدمرة اجتماعياً ـ فتحدث إعاقة لنظم الإنتاج المتنوع، وتصبح الخيارات المتاحة للمواطنين أقل فأقل.

على امتداد التاريخ، تصبح الديمقراطيات مهددة عندما يتم إعادة توجيه الثروات لخدمة الأهداف العسكرية. كما يمكن للميول القومية والمشاعر المعادية للأجانب أن تخنق الهجرة المطلوبة للتنمية، مما يخلق نقصاً فى العمالة مما يرفع التكاليف على الصناعة.  

وإذا أصبحت الاحتجاجات في الشوارع، التى تعتبر طبيعية وعادية فى المجتمعات الحرة، عنيفة للغاية، فإن المواطنين الخائفين غالبا ما يسمحون بمنح الحكومات سلطات شرطية مفرطة قد تتوسع فى نهاية المطاف إلى سيطرة قاسية على الاقتصاد. 

يخبرنا التاريخ أن الناس عادةً ما يقايضون الحرية بالسلامة.

لقد نجحت العديد من الديمقراطيات المختلفة فى انشاء صناعة وتجارة وأسواق حرة، الأمر الذى جعل الملايين من البشر أغنياء وأحراراً، واستطاعوا تجنب القيود المتنوعة التى تحاول فرضها عليهم السلطات السياسية أو الدينية أو الثقافية. وإذا استطاعت الاسواق والمؤسسات الاقتصادية تجنب القيود التى يحاول البعض ان يفرضها عليها، فإن مستقبل الديمقراطية يبدو مشرقاً. وسوف يضمن نجاحها المستمر المزيد من الثروة، والحياة الأطول والأكثر صحة، والاستقلال والأمن للجميع.


 


ستيفن مارتن فريتز هو فيلسوف ومؤلف كتاب Our Human Herds: The Theory of Dual Morality، والقصة القصيرة الفلسفية الخيالية بعنوان TimeNell.

دينيس موريل هي معلمة متقاعدة ومصممة مناهج دراسية ولديها خلفية في الفلسفة واللغويات، وهي مؤلفة مشاركة لكتابين عن النظرية التعليمية.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة