إنه عصر ميكانيكا الكم

 بعد مائة عام من تطور ميكانيكا الكم، لا يزال علماء الفيزياء يحاولون تفسير أغرب وأهم آليات عمل الكون.

وهو ما سيقوم بشرحه لنا هنا، مع شئ من التفصيل: دان فالك

لا يمكن لكل شخص أن يلعب "البلياردو" بشكل احترافى، لكن الجميع تقريباً يفهمون كيف يتم اللعب: حيث يستخدم اللاعب عصا خشبية لضرب الكرة البيضاء، والتى تتدحرج على طاولة مغطاة باللباد حتى تصطدم بكرات أخرى، أو ربما أكثر من كرة واحدة؛ وفى النهاية (إذا كنت ماهرًا)، تسقط واحدة أو أكثر من الكرات فى الجيب. 

كان بإمكان "إسحاق نيوتن" كتابة دليل ممتاز للعبة البلياردو، حيث أن كل الفيزياء التى يتم تطبيقها فى اللعبة، موجودة فى قوانين الحركة التى وضعها فى أواخر القرن السابع عشر.

وكان سيكون من الرائع أيضاً لو كان الكون يعمل وفقًا لهذه القوانين.

إلا أن "الفيزيائيين" اكتشفوا فى أواخر القرن التاسع عشر، أن الكون للاسف لا يسير بهذه البساطة. 

حيث يبدو أن الذرات والجزيئات والجسيمات دون الذرية، لا ترغب فى إتباع نفس القواعد، أو الكثير من قوانين العالم الذى نراه. 

كانت أول علامة على أن شيئًا ما غير طبيعى يحدث عندما أدرك الفيزيائى الألمانى الرائد "ماكس بلانك" فى عام 1900، أن الإشعاع المنبعث من الأجسام الساخنة، والمعروف باسم "إشعاع الجسم الأسود"، لا يمكن تفسيره بقوانين "نيوتن" — ولا حتى بقوانين الكهرومغناطيسية التى نشرها الاسكتلندى "جيمس كليرك ماكسويل" فى عام 1865. 

لذلك قرر "بلانك" فى يأس، ان يقترح " بأن الطاقة لا تتدفق بشكل مستمر، بل فى كتل صغيرة ومنفصلة، أو "كمّات". 

وحصل "بلانك" نتيجة هذه النظرية على جائزة نوبل.

فى نفس العام توصل فيزيائى ألمانى آخر، هو "فيرنر هايزنبرج"، إلى إنجاز اخر  حصل بسببه أيضاً على جائزة نوبل: إطار رياضى كامل للنظرية التي نسميها الآن "ميكانيكا الكم" (على عكس "الميكانيكا الكلاسيكية" لنيوتن وماكسويل). 

وهكذا استطاعت ميكانيكا الكم ان تصبح واحدة من الركيزتين العظيمتين للفيزياء الحديثة، إلى جانب نظرية "ألبرت أينشتاين"، المعروفة باسم "النسبية العامة".

ولكن ميكانيكا الكم ظلت غريبة — غريبة لدرجة أنه بعد قرن من الزمان، لا يزال الفيزيائيون والفلاسفة يتجادلون حول ما تعنيه هذه النظرية تحديداً. 

ومن بين أغرب ظواهر هذه النظرية، ظاهرة غريبة تمامًا تُعرف باسم: "التشابك الكمى"، حيث يؤثر قياس احد جسيمان متشابكان مرتبطين على قياس الآخر بشكل فورى، بغض النظر عن المسافة بينهما.

فالقياس الذى يتم فى مكان ما أن يؤثر بشكل فورى على الحالة الكمية لشريك متشابك فى أى مكان آخر. 

ومن بين جميع غرائب عالم الكم، فإن التشابك "هو الأصعب فى الشرح، لأنه لا يوجد تشبيه كلاسيكى جيد له". 

التشابك الكمى:

لا يعنى ذلك أنه يمكن معرفة معلومات عن حالة الجسيمين فى الموقعين بشكل فورى. لأن ذلك من شأنه أن ينتهك قانونًا فيزيائيًا ينص على أن المعلومات لا يمكنها الانتقال أسرع من سرعة الضوء. 

ولكن فقط الحالة الداخلية للجسيمين هى التى تتأثر بشكل فورى. 

يمكننا "رؤية" أو "إدراك" ميكانيكا الكم بسهولة أكبر من خلال الرياضيات. فالرياضيات تشبه الحاسة السادسة لفهم فيزياء الكم، "إنها تسمح لنا بالتنبؤ بما لا يمكننا تجربته بحواسنا البشرية المحدودة. 

عندما تكون الجسيمات 'متشابكة'، فهذا يعنى فقط أن ديناميكيات جسيمين مرتبطة معًا. 

المعادلة الرياضية التى تحدد الديناميكيات المترابطة لنظام ميكانيكا الكم يمكن أن تكون مستقلة عن مواقع الجسيمات الفردية."

علاوة على ذلك، تصف هذه الديناميكيات الحالة الداخلية للنظام فقط، وليس النظام ككل (مثلما لا تخبرك النغمة المنبعثة من بيانو، الكثير عن لون أو حجم البيانو). 

نتيجة لذلك، فما يحدث للحالة الداخلية لجسيم واحد يمكن أن يُختبر بشكل فورى من خلال الحالة الداخلية لجسيم آخر، فى حالة إذا ما كان الاثنان متشابكين. وهذا بغض النظر عن مكان وجودهما أو المسافة بينهما."

 المدهش أن "ميكانيكا الكم"، وبغض النظر عن غرابتها، كانت تنبؤاتها ناجحة بشكل لا يُصدق، لدرجة أن بعض تنبؤاتها تم تأكيدها بدقة تصل إلى 12 علامة عشرية، مما يعادل دقة جزء واحد من تريليون. 

يقول "براين جرين" فى كتابه الصادر عام 2020 "حتى نهاية الزمن": "يجب أن تُطلق الأبواق ويجب أن تنحنى البشرية تقديرًا لميكانيكا الكم"، التى "تمثل انتصارًا لعقل الإنسان." وهى موجودة فى كل مكان: فكل شىء فى الكون، بما فى ذلك نحن، مصنوعين من الذرات، وميكانيكا الكم هى التى تحدد فى النهاية كيفية تصرف تلك الذرات. 

تفسر النظرية كل شىء فى الكيمياء، بما فى ذلك ترتيب الجدول الدورى. "إنها أساسية لطريقة عمل كل شىء"، "كل المواد التى نتفاعل معها هى على ما هى عليه بسبب ميكانيكا الكم."

فيرنر هايزنبرج:

كان "هايزنبرج" يبلغ من العمر 23 عامًا فقط عندما قرر أن يعتزل بحثًا عن الراحة فى جزيرة "هيليجولاند" الصغيرة والقاحلة فى بحر الشمال فى يونيو 1925. 

كان يعلم أن عزلة الجزيرة ستسمح له بالعمل دون إزعاج على مشكلة دعاه الفيزيائى الدنماركى "نيلز بور" للمساعدة فى حلها. 

كان "بور" قد كتب سلسلة من المعادلات التى تتنبأ بطول موجة الإشعاع المنبعث من غازات مختلفة عند تسخينها. 

كانت المعادلات تعمل بشكل جيد، إلا أنه لم تكن هناك نظرية شاملة يمكنها تفسير افتراض "بور" الرئيسى, من أن الإلكترونات تدور حول نواة الذرة فى مدارات محددة، ثم تقفز فجأة (قفزة كمومية). [ أى انها تختفى من مكان وتظهر فى الاخر دون ان تتحرك بينهما].

فكر "هايزنبرج" فى المشكلة، وفى النهاية جاءته لحظة إلهام متأخرة أثناء الليل، وكما وصفها لاحقًا: "فجأة لم يعد لدى أى شكوك حول مدى اتساق نظرية ميكانيكا الكم الجديدة التى وصفتها حساباتى... شعرت أننى تجاوزت السطحيات، وبدأت أرى عمقاً غريبًا وجميلًا، وشعرت بالدوار عندما فكرت فى هذا الكم الهائل من الهياكل الرياضية التى قامت الطبيعة بعرضها بسخاء أمامى."

فى الفيزياء الكلاسيكية، يمكنك تفسير ما يحدث فى أى مكان من خلال النظر إلى القوى الموجودة فى ذلك المكان فقط. ولنعود إلى مثال البلياردو: إذا رأيت الكرة رقم 8 تتحرك، فأنت متأكد أن حركتها ناتجة فقط عن اصطدامها بكرة أخرى؛ أى حركة للكرات على أى طاولة أخرى ليست ذات أهمية. 

ولكن إذا كان الكون (غير محلى)(nonlocal)، فقد تكون تلك الكرات على الطاولة البعيدة مهمة بطريقة ما. 

شعر "أينشتاين" أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا، ووصف مثل هذا التفاعل بأنه "فعل شبحى عن بُعد" (spooky action at a distance). كنوع من التهكم.

قد تكون التفاصيل التى سنحاول شرحها معقدة قليلاً: 

لقد اوضح"أينشتاين" بجلاء ان لاشئ يمكنه السفر أسرع من سرعة الضوء، وفى الواقع فإن التشابك الكمى، رغم غرابته، لا يمكن استخدامه لإرسال إشارات أسرع من الضوء. 

مع ذلك، فإن هذه القدرة على الحصول على معرفة فورية عن أشياء بعيدة تختلف تمامًا عن أى شىء موجود فى الفيزياء الكلاسيكية. 

رغم أن "أينشتاين" لم يعش ليرى الدليل، إلا أن العديد من التجارب أكدت بالفعل أن التشابك الكمى ظاهرة حقيقية وقابلة للرصد.

ومؤخراً فاز "آلان أسبكت"، و"جون كلاوزر"، و"أنطون زايلينجر" بجائزة نوبل فى الفيزياء عام 2022 عن عملهم التجريبى الذى أظهر أن التشابك بين جسيمين منفصلين بمسافات طويلة يحدث، تماماً كما تنبأت ميكانيكا الكم.

كان اكتشاف "هايزنبرج" يتضمن استخدام أدوات رياضية تسمى "المصفوفات" لتمثيل المدارات المسموحة للإلكترون. فى النهاية، وبمساهمة من زملائه "ماكس بورن" و"باسكوال جوردان"، كتب "هايزنبرج" قواعد نوع جديد تمامًا من الميكانيكا. 

تظل قوانين "نيوتن" سارية للأجسام الكبيرة مثل كرات البلياردو والكواكب، ولكن فى العالم المتناهى الصغر (الميكرو)، ستتولى هذه القوانين الكمومية الجديدة زمام الأمور. وأصبحت نسخة "هايزنبرج" من النظرية تُعرف باسم "ميكانيكا المصفوفات". 

وبعد عام واحد فقط، فى عام 1926، قام الفيزيائى النمساوى "إرفين شرودنجر" بصياغة معادلة مكافئة باستخدام معادلات تصف الموجات؛ وأصبحت نسخته تُعرف باسم "ميكانيكا الموجات" (وقد أثبتت طريقة "شرودنجر" أنها أسهل فى الاستخدام، حيث كانت فيزياء الموجات مفهومة جيدًا بالفعل).

النظرية الغريبة:

ولكن بمجرد أن وضع "هايزنبرج" و"شرودنجر" وآخرون قواعد هذه النظرية الجديدة، بدأ النقاد يشيرون إلى مدى غرابتها. 

أولاً، يبدو أنها تُسلط الضوء على فعل "الملاحظة" "Observation": تتنبأ النظرية باحتمالية الحصول على نتيجة معينة (مثل موقع أو سرعة جسيم) عند قياسها، ولكنها لا تقول أى شىء عما يفعله الجسيم حتى تلك اللحظة من القياس. 

فحتى يتم إجراء القياس، تقول النظرية إن الجسيم يكون فى حالة "تراكب" (superposition)، يتم وصفها بأنها "دالة الموجة" لشرودنجر. ويُقال إن فعل الملاحظة نفسه هو الذى يؤدى إلى "انهيار دالة الموجة" بحيث يُرى الجسيم فى حالة واحدة فقط.

ربما لا نشعر بالقلق الشديد حيال كون الإلكترون يكون فى حالتين فى نفس الوقت، إلا أن الفيزيائين كانوا قلقين بشأن الآثار المترتبة على توسع التأثيرات الكمومية بحيث تؤثر حتى على العالم الذى نراه ونلمسه. 

(تشير تجربة " قطة شرودنجر" الشهيرة إلى هذه النقطة) 

تقول "إيميلى أدلام"، عالمة الفيزياء فى "جامعة تشابمان": "السؤال هو، ما هو هذا الدور الخاص الذى يبدو أن القياس يلعبه؟" . "هل انهيار دالة الموجة هو عملية فيزيائية حقيقية؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يمكننا تحديد متى يحدث ذلك من الناحية الفيزيائية؟ أم أن انهيار دالة الموجة مجرد نوع من الوهم؟"

ساور "أينشتاين" نفس هذا القلق. 

لقد كان يؤمن بما يسميه الفلاسفة "الواقعية"،"Realism" أى الاعتقاد بأن العالم موجود بصرف النظر عما إذا كان أحد ما ينظر إليه أم لا. 

فى إحدى المرات، بينما كان يسير فى "جامعة برينستون" مع كاتب السيرة الذاتية، "أبراهام بايس"، أشار إلى القمر وقال: "هل تعتقد حقًا أن القمر غير موجود عندما لا تنظر إليه؟" كما أنه كان منزعجًا من الوصف الاحتمالى للطبيعة الذى تقدمه ميكانيكا الكم، 

وأعلن جملته المشهورة ان "الله لا يلعب النرد." أو أن "الله لا يلعب الزهر".

وفقًا لمبدأ عدم اليقين لهايزنبرج (Heisenberg's Uncertainty Principle): الذى ينص على أنه لا يمكن قياس خاصيتين كموميتين (مثل الموقع والزخم) بدقة فى نفس الوقت. والذى هو مكون رئيسى لنظرية الكم التى تم تطويرها فى عام 1927، فإن بعض الكميات لا يمكن معرفتها بدقة أبدًا: على سبيل المثال، كلما قمنا بقياس سرعة جسيم بدقة أكبر، أصبحت معرفتنا بموقعه أقل دقة. 

يبدو أن ميكانيكا الكم تجعل العالم ضبابيًا بشكل أساسى، وكأنها لوحة انطباعية.

أم الغرائب:

يمكننا وصف التشابك الكمى باعتباره ام كل الغرائب الكمومية: 

تم وصف هذه الفكرة لأول مرة فى ورقة بحثية عام 1935 من قبل "أينشتاين" مع الفيزيائيين "بوريس بودولسكى" و"ناثان روزن". 

لقد توقعوا أنه، تحت ظروف معينة، يمكن وصف جسيمين أو أكثر بواسطة دالة موجية واحدة. 

قد يبدو هذا فى البداية وكأنه لا بأس به، ولكن الآثار المترتبة عليه ستكون صادمة: فهذا يعنى أنه إذا قمنا بقياس خصائص أحد الجسيمين المتشابكين، مثل إلكترون، فإننا نحصل على الفور على معلومات عن الإلكترون الآخر، مهما كان بعيدًا. 

هناك "ارتباط"، كما يسميه الفيزيائيون، بين مجموعتى القياسات. وهذا يختلف عن الارتباطات الأكثر شيوعًا التى قد نجدها فى الفيزياء الكلاسيكية. 

إذا كنت تعلم أن درجًا يحتوى على قفاز أيسر وقفاز أيمن (جوانتى)، وقمت بسحب القفاز الأيسر، فإنك تعلم على الفور هوية القفاز المتبقى — لا يوجد غموض هنا، لأن القفازين كانا دائمًا على ما هما عليه، حتى قبل أن تنظر إليهما. أما فى التشابك الكمى، فالأمر يبدو انه عندما تقوم بالنظر الى القفاز  فإنه يصبح فجأة إما أيمنًا أو أيسرًا  — بشكل عشوائى، ومدهش—  طبقاً لتحول القفاز المقابل.

الموجة الدليلية:

في العقود التى تلت تطوير "ميكانيكا الكم"، تجادل الفيزيائيون والفلاسفة حول ما الذى تقوله النظرية بالفعل عن الكون. 

أصبح التفسير الافتراضى، والذى يعكس عمل "نيلز بور" و"فيرنر هايزنبرج"، والذي يفترض أن دالة الموجة تنهار بطريقة ما عند الملاحظة، يُعرف باسم "تفسير كوبنهاجن"، نسبة إلى المدينة التى كانت موطنًا لمعهد أبحاث بور. ولكن تفسير كوبنهاغن لم يكن الوحيد، فهناك الفكرة التى طرحها الفرنسى "لويس دى بروى" فى عشرينيات القرن الماضى وطورها الأمريكى "ديفيد بوم"، وتُعرف باسم "نظرية الموجة الدليلية" (أو نظرية "دى بروى-بوم"، أو ميكانيكا بوم). 

تحتفظ هذه الفكرة بشىء من الفيزياء الكلاسيكية: فهى تقول إنه خلف هذه التحركات التى تبدو احتمالية كما تصفها ميكانيكا الكم، فإن الجسيمات تتبع فى الواقع مسارات محددة حتمية بدقة وحتمية. (الاحتمالات لم تختفِ، ولكن يمكننا الآن اعتبارها مجرد انعكاس لجهلنا بالمكان الدقيق للأشياء وكيفية تحركها.) 

تعد نظرية الموجة الدليلية مثالًا على ما يُسمى بنظريات "المتغيرات الخفية"، مما يعنى أنه خلف الكميات القابلة للقياس مثل الموقع والزخم، توجد متغيرات خفية تخضع لقواعد دقيقة. 

ستكون نظرية الموجة الدليلية هذه جذابة لأى شخص ينزعج من الضبابية الكامنة فى تفسير كوبنهاجن — ولكن دقتها يمكن التشكيك فيها، لأن نظرية الموجة الدليلية بطبيعتها "غير محلية"، مما يعنى أن ما اطلق عليه "أينشتاين" "الفعل الشبحى" وأزعجه، هو جزء لا يتجزأ من النظرية نفسها.

تفسير العوالم المتعددة:

ثم هناك التفسير الذي يعتبره الكثيرون الأكثر إثارة للدهشة — وهو ما يُعرف باسم "تفسير العوالم المتعددة" (Many Worlds Interpretation أو MWI)، والذى يعود إلى عمل الفيزيائى الأمريكى "هيو إيفريت" فى الخمسينيات. تفسير العوالم المتعددة، يتطلب منا أن نأخذ دالة الموجة الكمومية على محمل الجد. فإذا كانت تصف الإلكترون بأنه موجود هنا وهناك، فإننا نقبل ببساطة أنه موجود فى كلا المكانين في نفس الوقت. فى هذا التفسير، لا تنهار دالات الموجة أبدًا. فى كل مرة يسمح فيها القياس الكمى بنتائج متعددة، تحدث كل هذه النتائج، ولكن فى أكوان منفصلة. (فى حالة قطة "شرودنجر"، طبقاً لهذه النظرية ، سيُطلب منا أن نتخيل مجموعة من الأكوان حيث تكون القطة حية، ومجموعة أخرى من الأكوان حيث تكون القطة ميتة.) 

قد يبدو هذا كخيال علمى — حتى أن بعض الفيزيائيين يعتقدون أن به الكثير من التعقيدات الميتافيزيقية بحيث لا يمكننا أن نأخذه على محمل الجد. 

بالإضافة إلى كونه يتصور مجموعة هائلة، وربما لا نهائية، من الأكوان غير المرئية، وأيضا يبدو أن تفسير العوالم المتعددة يتجاهل قضية الاحتمالات الكمومية.

إلا أن عددًا متزايدًا من الفيزيائيين البارزين المعاصرين، بما فى ذلك "ماكس تيجمارك"، و"ديفيد دويتش"، و"شون كارول"، يعتقدون أن تفسير العوالم المتعددة هو فى الواقع الطريقة الأكثر منطقية للتفكير فى ميكانيكا الكم.

السببية الرجعية:

ثم هناك فكرة أخرى غير بديهية تُعرف باسم "السببية الرجعية"  (retrocausality) — وهى الفكرة التى تقول إن السببية لا تتدفق بالضرورة دائمًا من الماضى إلى المستقبل. 

لنعود إلى التشابك الكمى وقلق "أينشتاين" بشأن ارتباط خصائص الجسيم A بخصائص الجسيم البعيد B. 

إذا كنت تؤمن بالسببية الرجعية، فإن هذا اللغز يختفى: لأنه سيمكننا الآن اعتبار قياس الجسيم A سببًا لوجود ارتباط فى لحظة سابقة قبل أن ينفصل الجسيمان A وB، وهذا له تأثير على الجسيم B. 

ما مدى عدم منطقية فكرة السببية الرجعية لدرجة إمكانية وصفها بالفكرة المجنونة؟ 

يعتقد "كين وارتون" من جامعة ولاية سان خوسيه وزملاؤه مثل "هيو برايس" أن لها فى الواقع مزايا. فيشيرون إلى أنه فى حين أن التدفق الظاهرى للوقت يبدو حقيقى بما يكفى بالنسبة للبشر، إلا أنه لا يوجد شىء في قوانين الفيزياء يفضل اتجاهًا زمنيًا على الآخر. ويؤكد "وارتون" أنك لا تستطيع استخدام السببية الرجعية للعودة إلى الماضى وقتل جدك  على سبيل المثال— وبالتالى سيتم تجنب مفارقات السفر عبر الزمن. 

وكما يقول"إنه "غريب" بل إنه جنون. لكنه ليس مفارقة."

كل تفسير لميكانيكا الكم يمكنه أن يحتوى على عناصر غير مألوفة تتحدى وجهات نظرنا التقليدية حول كيفية عمل الكون. 

من الممكن، بل ربما من المرجح، أننا سنضطر فى النهاية إلى التخلى عن واحدة من الافتراضات الثلاثة الكبيرة التى نعتز بها حول الطبيعة

إما "الواقعية" (فكرة أن الكون موجود سواء كان أحد ما ينظر إليه أم لا)، 

أو "المحلية" (فكرة أن ما يحدث فى A مستقل عما يحدث فى B)، 

أو "السببية" (فكرة أن الوقت يتدفق دائمًا من الماضى إلى المستقبل).

ما تفعله ميكانيكا الكم سيكون بالتأكيد غريبًا بطريقة ما.

لقد كان هناك أمل أن  يتمكن الفيزيائيون من التوفيق بين ميكانيكا الكم والجاذبية — وهو المسعى المستمر لعقود، لكن دون وجود مسار واضح للنجاح. 

إذا حدث هذا الاختراق، ربما يتم الكشف عن العالم الكمى من منظور جديد. 

على سبيل المثال، يعتقد "لوسيان هاردى" أن جميع التفسيرات الحالية لميكانيكا الكم تفتقد شيئًا ما. وكما يقول: "أعتقد أننا يجب أن نتجاوز نظرية الكم إلى نظرية فيزيائية جديدة، ومن ثم قد نأتى بتفسير جديد"

إحدى الأفكار — التي لا تزال افتراضية حتى الآن — هى أن التشابك الكمى مسؤول فى المقام الأول وبطريقة ما عن وجود "الزمكان". 

طبقا لهذا الرأى، لم يعد الفضاء والزمن يُنظر إليهما على أنهما أساسيان، بل باعتبارهما "ظواهر ناشئة" (emergent phenomena) تولد بفضل التأثيرات الكمومية التى تحدث "فى الأسفل"، إذا جاز التعبير. 

يقول "كين وارتون": بما يكون هناك تغيير جذرى قادم إلينا فى الأفق — تغيير قد يكون صادمًا مثل ذلك الذى هز عالم الفيزياء قبل قرن من الزمن.

"ستكون هناك ثورة أخرى"،  "ليس لدى أى فكرة عن موعد حدوثها. لكننا لم ننتهِ بعد."


"دان فالك", صحفى علمى مقيم فى تورونتو. وهو أيضًا مؤلف كتابى "علم شكسبير"و"فى البحث عن الزمن". ■


على هامش المقال:

تجربة قطة شرودنجر:

تتطلب منا تجربة قطة شرودنغر أن نتخيل صندوقًا مغلقًا يحتوى على قطة، مادة مشعة، قارورة غاز سام، مطرقة، وعداد جايجر. إذا تحللت المادة مشعة، فإنها تقوم بتفعيل عداد جايجر الذى بدوره سيحرر المطرقة، مما يؤدى إلى تحطيم القارورة وقتل القطة. (تذكر، إنها مجرد تجربة فكرية!) ولكن لنفترض أن ميكانيكا الكم تقول إنه بعد ساعة واحدة، هناك احتمال بنسبة 50٪ أن يكون التحلل قد حدث. فإلى أن نقوم بفتح الصندوق والنظر إلى القطة، كل ما يمكننا قوله هو أن القطة فى حالة تراكب بين كونها حية وميتة فى نفس الوقت — وهى حالة غريبة بالفعل.


التسلسل التاريخى:

1900: 

اقترح "ماكس بلانك" أن الطاقة لا تنتقل باستمرار، بل تأتى فى حزم صغيرة منفصلة، تُعرف باسم الكمّات.

1905:

اكتشف "ألبرت أينشتاين" التأثير الكهروضوئى، حيث يصطدم جسيم من الضوء (فوتون) بسطح معدنى، فيطلق إلكترونًا ضوئيًا تستمد طاقته من انبعاثه من المعدن بواسطة الضوء.

1913:

طور "نيلز بور" نموذجًا للذرة تدور فيه الإلكترونات حول النواة، ولكن فقط عند مستويات طاقة محددة. تمتص الإلكترونات الفوتونات أو تطلقها للقفز بين مستويات الطاقة.

1924:

أظهر "لويس دى برولى" أن جسيمات المادة، مثل الضوء، يمكن وصفها بأنها موجات. فكلما كان الجسيم أثقل، كان طوله الموجى أقصر، إذا كانت السرعة ثابتة. ستلعب ثنائية الموجة والجسيم هذه دورًا محوريًا فى تطوير ميكانيكا الكم.

1925:

يرأس "فيرنر هايزنبيرج" تطوير "ميكانيكا المصفوفة" لصياغة تمثيل دقيق لميكانيكا الكم.

1926:

يقترح "إروين شرودنجر" نسخة من ميكانيكا الكم توصف بـ "الدالة الموجية". تصف "معادلة شرودنجر" كيف تتطور هذه الدالة بمرور الوقت. اكتشف "ماكس بورن" لاحقًا أن موجة شرودنجر يجب أن تكون مربعة لوصف احتمالية العثور على الإلكترون فى أى مكان واحد وأن الاحتمالات عشوائية حقًا.

1927:

يقترح "هايزنبرج" "مبدأ عدم اليقين"، مشيرًا إلى أنه من المستحيل معرفة موضع الجسيم وزخمه فى نفس الوقت.

1928:

يستخدم "بول ديراك" ميكانيكا الكم لإظهار أنه يمكن لجسيم مثل الإلكترون، ولكن بشحنة موجبة، أن يوجد. تم اكتشاف البوزيترون - أول جسيم مضاد للمادة يتم دراسته - في عام 1932.

1935: 

نشر "أينشتاين"، بالتعاون مع "بوريس بودولسكى" و"ناثان روزن"، ورقة بحثية تصف ما يُعرف الآن بـ"مفارقة EPR"، والتى وضعت الأساس لظاهرة التشابك الكمى. كان أينشتاين متشككًا فى فكرة التشابك الكمى، واصفًا إياها بـ"الفعل الشبحى عن بُعد"، وبدلاً من ذلك، جادل بأن ميكانيكا الكم يجب أن تكون غير مكتملة.

1935:

طرح "شرودنجر" تجربته الفكرية الشهيرة التى تتضمن قطة. كان يحاول تسليط الضوء على الغرابة الظاهرة لتأثيرات الكم عندما تتوسع إلى الحجم اليومى. كان من الممكن أن يكون الإلكترون في حالتين فى وقت واحد، ولكن ما الذى يمكن أن يعنيه أن تكون القطة حية وميتة في نفس الوقت؟

1948:  

طور "ريتشارد فاينمان"، و"جوليان شوينجر"، و"شينيتشيرو توموناجا"، الكهروديناميكا الكمية، وهى نظرية تفسر كيفية تفاعل الضوء والمادة، بناءً على ميكانيكا الكم ونظرية النسبية الخاصة لأينشتاين. تُعد هذه النظرية من أكثر النظريات دقة فى اختبارات الفيزياء.

1952:

بناءً على أعمال "لويس دى بروى" السابقة، طور "ديفيد بوهم" نظرية الموجة الدليلية، المعروفة أيضًا باسم نظرية "دى بروى-بوهم". هذه تفسير لميكانيكا الكم حيث تتبع الجسيمات مسارات محددة بدقة، حتى عندما لا تكون تحت الملاحظة.

1957: 

اقترح "هيو إيفريت" تفسيرًا لميكانيكا الكم حيث يكون كل نتيجة محتملة للقياس حقيقية بالتساوى، مما يصف عالمًا مميزًا. أصبح هذا الرأى، الذى اشتهر لاحقًا بواسطة "برايس ديويت"، معروفًا بتفسير العوالم المتعددة لميكانيكا الكم.

1960:  

تم بناء أول ليزر بناءً على عملية ميكانيكية كمومية (أظهرها أينشتاين) لإصدار حزم ضيقة من الضوء بطول موجى واحد. تُستخدم الليزرات الآن فى محركات الأقراص الضوئية، وماسحات الباركود، وتصنيع الرقائق، والجراحة، والعديد من التطبيقات الأخرى.

1964:

أظهر "جون ستيوارت بيل" كيف يمكن اختبار فكرة التشابك الكمى. تُظهر معادلاته، المعروفة الآن باسم نظرية بيل، أن الارتباطات الإحصائية بين الجسيمات المتشابكة أقوى مما يمكن أن تفسره أى نظرية "محلية" للمتغيرات الخفية. بدءًا من السبعينيات، أظهرت التجارب أن بيل كان على حق — وأن "الفعل الشبحى عن بُعد" حقيقى.

  1970:

بناءً على ميكانيكا الكم، تم تطوير النموذج القياسى لفيزياء الجسيمات. يصف النموذج كيفية تفاعل الجسيمات الأساسية، المصنفة ككواركات ولبتونات، عبر أربع قوى فيزيائية.

1972:  

تم تقديم براءة اختراع لأول ماسح للتصوير بالرنين المغناطيسى (MRI)، والذي تم تطويره لاحقًا فى السبعينيات. تستخدم أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسى المجالات المغناطيسية والموجات الراديوية، الممكنة بواسطة الدوائر الإلكترونية.

1995:  

تم اكتشاف الكوارك العلوى، وهو أثقل الجسيمات فى النموذج القياسى، فى مختبر فيرميلاب.

2012: 

تم الكشف عن "بوزون هيجز" — أحدث جسيم فى النموذج القياسى يتم اكتشافه — من خلال تجارب فى مصادم الهادرونات الكبير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة