نظرية الغباء

لطالما شغل "الغباءُ" الفلاسفةَ وعلماء الاجتماع بوصفه ظاهرةً تؤثر فى بنية المجتمعات وسلوك الأفراد. ورغم أنه قد يبدو مجرد صفة فردية، فإن تأثيره يمتد ليصبح قوة اجتماعية مؤثرة، قادرة على تشكيل القرارات والسياسات وحتى مسار التاريخ. 

الغباء ليس مجرد نقص فى الذكاء أو الجهل بالمعلومات، بل هو مفهوم معقد تناوله الباحثون من زوايا مختلفة، اجتماعية ونفسية وأخلاقية.

بين "كارلو سيبولا" و"ديتريش بونهوفر":

من بين المفكرين الذين تناولوا هذه الظاهرة، يبرز الفيلسوف واللاهوتى الألمانى "ديترتش بونهوفر"، الذى قدم رؤية فريدة حول طبيعة الغباء وعلاقته بالقوى الاجتماعية والسياسية. 

كما تبرز نظرية القوانين الخمسة للغباء البشرى للاقتصادى والمؤرخ الايطالى"كارلو سيبولا".

هاتان النظريتان تقدمان رؤى عميقة حول كيف يصبح الغباء قوة مدمرة تفوق الشر نفسه فى خطورتها.

ديترتش بونهوفر:

تصور "بونهوفر" الغباء بصفته ليس مجرد نقص فى الذكاء أو ضعف فى القدرات العقلية، بل هو حالة اجتماعية تتفاقم داخل الأنظمة القمعية والمجتمعات التى تمجد السلطة والطاعة العمياء. 

يرى "بونهوفر" أن الأفراد الأذكياء قد يصبحون أغبياء وظيفيًا عندما يكونون جزءًا من نظام يحدّ من تفكيرهم النقدى ويجعلهم يتقبلون الأوامر دون مساءلة.

كما يرى أن الغباء أكثر خطورة من الشر، لأن الإنسان الشرير يدرك على الأقل أنه يرتكب فعلًا غير أخلاقى، بينما الشخص الغبى يعمل وفق قناعة راسخة بأنه على صواب، مما يجعله غير قابل للإقناع أو التصحيح. وهنا تكمن خطورة الغباء: فهو ليس مجرد خطأ فى التفكير، بل موقف ذهنى راسخ يستعصى على الحوار العقلانى.

فالغباء ليس نقصاً فى الذكاء، بل "عيباً أخلاقياً" ناتجاً عن الاستسلام للسلطة وفقدان الاستقلالية الفكرية.

في رسائل "بونهوفر" من السجن إبان الحكم النازى، كتب:  

"الغباء عدو للخير أكثر من الشر... فبينما يمكن مقاومة الشر بالمنطق أو القوة، فإن الغباء يصمّ الآذان عن الحقائق".  

وفقاً لبونهوفر، الغباء ينتشر فى المجتمعات التى تخضع لسلطات قمعية، حيث يُحرم الأفراد من التفكير النقدى ويصبحون أدوات لتكرار الشعارات دون مساءلة. وهو يُعَد ظاهرة اجتماعية-نفسية مرتبطة بفقدان المسؤولية الأخلاقية، وليس ضعفاً عقلياً.  

الغباء والسلطة:

يرتبط انتشار الغباء بتوزيع السلطة داخل المجتمعات. فكلما زادت سيطرة النظام السياسي أو الأيديولوجى على العقول، تزايدت فرص تحوّل الأفراد إلى أدوات غير واعية تنفذ الأوامر دون تحليل أو تفكير. 

فى الأنظمة الاستبدادية، يصبح الغباء وسيلة فعالة للحفاظ على السيطرة، حيث يُطلب من الأفراد الامتثال بدلاً من التفكير النقدى. 

يساهم الإعلام الموجه، والتعليم المقولب، والخطاب الشعبوى فى ترسيخ هذه الحالة.

كارلو سيبولا:

في سبعينيات القرن الماضى، قدم المؤرخ الاقتصادى "كارلو سيبولا" تحليلاً ثورياً للغباء فى كتابه "القوانين الأساسية للغباء البشرى"، حيث عرّف الغباء بأنه "أكبر تهديد وجودى للبشرية". وحدد خمسة قوانين جوهرية:  

القانون الأول: "دائماً ما نقلل من أعداد الأغبياء من حولنا"، فمهما بلغ تقديرك لعددهم، فإن الواقع يفوق توقعاتك.  

القانون الثانى: "الغباء سمة مستقلة عن التعليم أو العرق أو الجنس". الغباء متساوٍ فى كل المجتمعات، بغض النظر عن الخلفيات الثقافية أو الاقتصادية.  

القانون الثالث (القانون الذهبى): "الشخص الغبى هو من يسبب الخسائر للآخرين دون تحقيق أى مكسب لنفسه". هذا يجعله أكثر ضرراً من اللص، الذى قد يستفيد من أفعاله.  

القانون الرابع: "غير الأغبياء لا يقدرون حقيقة خطورة الأغبياء". فالتعامل معهم يؤدى دائماً إلى خسائر، لأن أفعالهم غير عقلانية ولا يمكن توقعها.  

القانون الخامس: "الشخص الغبى هو الأخطر على الإطلاق". خطرهم يفوق حتى المجرمين، لأنهم يعطلون التقدم الاجتماعى.  

لماذا يهدد الغباء المجتمعات:

-أظهرت دراسات أن بعض الأنظمة السياسية وبعض المؤسسات تُعزز الغباء عن قصد، كاستراتيجية لإضعاف المواطنين والعاملين ومنعهم من اظهار اى نوع من المقاومة او التمرد، وهو ما يؤدى على المدى الطويل إلى فشل سياسى وادارى متكرر .  

ووفقاً ل"سيبولا"، ينتج عن ذلك خسارة مزدوجة، فالأغبياء يخسرون ويخسرون الآخرين معهم، مما يقلل من الرفاهية العامة .  

بينما يرى "بونهوفر" أن الأنظمة الاستبدادية تُنتج أغبياء من خلال تجريد الأفراد من استقلاليتهم . 

على حين توجد استحالة فى محاربة الغباء باستخدام المنطق، لأنه يعتمد على إنكار الحقائق ورفض النقد الذاتى.  

كيفيه التعامل مع الغباء: 

يؤكد "بونهوفر" أن التحرير الخارجى (مثل إسقاط الأنظمة القمعية) يجب أن يسبق التحرير الداخلى.  

بينما يعتقد "سيبولا" أن غير الأغبياء يجب أن يعملوا بجد لتعويض الأضرار التي يسببها الأغبياء . مع عدم إغفال أهمية دور الوعى الجماعى لفهم أن الغباء ليس قدراً فردياً، بل هو نتاج ظروف اجتماعية وسياسية.  

الغباء، كما تظهره النظريات السابقة، ليس سمة فردية بل آفة جماعية تتفاقم فى غياب الاستقلالية الفكرية والمسؤولية الأخلاقية. 

وبينما يقدم "سيبولا" تحليلاً اقتصادياً-اجتماعياً، يقوم "بونهوفر" بالربط ما بين الغباء والفساد الأخلاقى فى ظل الأنظمة الاستبدادية. 

مواجهة "الغباء" تتطلب ما هو أكثر من التعليم؛ فهى تحتاج إلى ثورة فكرية تعيد للإنسان استقلاليته وقدرته على قول: "لا أعرف"، كخطوة أولى نحو المعرفة .  

التحرر الداخلى هو الطريق الوحيد للتغلب على الغباء.


ل: حازم فرجانى


تعليقات

‏قال ايمان
عندما يتمكن الغباء من مجتمع ما يصبح مثلا من الصعب ان يفهم أب خطورة حالة ابنته الصحية و يرفض تدخل طبي لانقاذها و يختار أن تموت (بشرفها) علي ان يتم علاجها لان الموروث القيمي الغير قابل للنقد في مجتمع احادي الفكر و التوجه يحصر الشرف في غشاء ولا يعتبر ان تخلي الاب عن علاج ابنته و تسليمها للموت هو اكبر دليل علي انعدام الشرف من أصله (حادثة سردتها طبيبة مصرية عن فتاة صغيرة كانت تعاني من عيب خلقي يمنع تخلص جسمها من دماء الدورة الشهرية و رفض الاب للتدخل الطبي مفضلا ان تموت الابنة "بشرفها" قمة الغباء و انتفاء الضمير)

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة