السباق الكمى الكبير
تحاول الشركات فى جميع أنحاء العالم صناعة أجهزة الكمبيوتر الكمومية، لكن وفقًا ل"كارميلا بادافيك-كالاجان' فى هذا المقال، لم يتقرر بعد من سيفوز بالسباق:
لن يكن هناك وقت أفضل من الآن للعمل فى مجال الحوسبة الكمومية.
فطبقا ل"وران بروست"، من شركة "Alice & Bob" الناشئة فى مجال الحوسبة الكمومية فى فرنسا، وهى واحدة من مئات الشركات التى تنشط فى هذا القطاع: "قبل 10 سنوات، لم تكن الحوسبة الكمومية أكثر من مجرد تجربة معملية مثيرة للاهتمام. منذ ذلك الحين، ظهر أنها نظام عالمى كامل." وتلخص "كريستا سفور" من مايكروسوفت الأمر بشكل أكثر إيجازًا: "إن أجهزة الكمبيوتر الكمومية تعمل."
ولكن كيف وعلى اى مجال تعمل؟
لا تزال الاستخدامات العملية لأجهزة الكمبيوتر الكمومية محدودة، ولا توجد حتى الآن أى علامة على قدرتها المأمولة لحل المشكلات التي لا يمكن لأجهزة الكمبيوتر التقليدية التعامل معها. وليحدث ذلك، يجب أن تصبح هذه الأجهزة كبيرة بالقدر الكافى لتشغيل حسابات معقدة، ويجب تقليل الأخطاء لضمان أن تكون هذه الحسابات ذات معنى.
وهنا تتفاقم المشكلتان المتعارضتان معًا: فإضافة المزيد من الكيوبتات، وهى اللبنات الأساسية لأى جهاز كمبيوتر كمومى، يؤدى عادةً إلى زيادة فى الأخطاء.
للتغلب على هذه المشكلة، بدأ الباحثون بتجميع الكيوبتات الفيزيائية فى "كيوبتات منطقية" يمكنها اكتشاف الأخطاء وإصلاحها فور حدوثها. تقول "كريستا سفور": "يجب أن تكون قادرًا على اكتشاف الأخطاء، تصحيحها، والقيام بكل ذلك أثناء عملية الحساب."
إذن، الطريق الأساسى نحو أجهزة كمبيوتر كمومية مفيدة حقًّا هو بناء جهاز يحتوى على أكبر عدد ممكن من الكيوبتات المنطقية.
فى العالم الواقعى، ينتهج المتنافسون من جميع أنحاء العالم، العديد من الاساليب لتحقيق ذلك، على أمل الفوز بالجائزة الكبرى.
طبقاً لأحد القياسات، يمكن أن تُعتبر شركة "Atom Computing" الناشئة فى كاليفورنيا فى المقدمة. فهى تحمل الرقم القياسى لأكبر جهاز كمبيوتر كمومى حتى الآن، حيث يحتوى على ١١٨٠ كيوبت مصنوعة من ذرات الإيتيربيوم فائقة البرودة، والتي تُعرف أيضًا باسم "الذرات المحايدة" لأنها لا تحمل شحنات كهربائية.
ومن جهة أخرى، أعلنت شركة ناشئة أخرى، "Pasqal"، مؤخرًا عن تجميع ١١١٠ ذرة فى معالجاتها الكمومية، دون ان تقوم باستخدامها لإجراء الحسابات. على حين أظهر فريق بحثى فى "جامعة العلوم والتكنولوجيا" فى الصين (هيفى) أن الذكاء الاصطناعى يمكن أن يُستخدم لتسريع عملية التجميع هذه.
يقول "بن بلوم" من "Atom Computing": "لقد حدث تقدم مذهل. انتقلنا من مرحلة 'هل يمكنك بناء النظام من الأساس؟' إلى 'هل يمكنك بناؤه بشكل أفضل؟'. أعتقد أن الذرات المحايدة تقع فى الصدارة من أجل تحقيق ذلك"
ليست مجرد لعبة أرقام:
لكن الأعداد الكبيرة للكيوبتات قد لا تكون كافية وحدها. يقول "نيكولاس هارغان" من شركة "إنفيديا"، التى لا تبنى أجهزة كمبيوتر كمومية خاصة بها ولكنها تتعاون مع عدة شركات لتطوير أفضل الطرق لاستخدامها: "بناء أجهزة كمبيوتر كمومية مفيدة يتطلب عملًا يتجاوز مجرد تحسين الكيوبتات."
وقد تبنت شركات أخرى رائدة في صناعة الحوسبة التقليدية الفكرة نفسها: ففي العام الماضة، تعاونت "مايكروسوفت" مع "Atom Computing" لإنشاء 24 كيوبتًا منطقيًّا مرتبطة عبر التشابك الكمومى، وهي خطوة أولى ضرورية على طريق بناء أجهزة مفيدة.
لكن هذا كله لم يكن كافيًا للتغلب على شركة "QuEra" الناشئة فى "بوسطن" والمتخصصة في الذرات المحايدة، والتى نجحت فى تخليق أكثر من 40 كيوبتًا منطقيًّا. ورغم ذلك، لا يمكن لشركة "QuEra" أيضًا ادعاء التفوق فى مجال الكيوبتات المنطقية، حيث تحوز هذه المرتبة شركة ناشئة تُدعى "Quantinuum"، ومقرها "كامبريدج" بالمملكة المتحدة وايضا كولورادو، والتي نجحت فى إنشاء وتشابك 50 كيوبتًا منطقيًّا، لتحتل بذلك الصدارة.
يقول "راجيب هازرا" من "Quantinuum" إن الشركة ستطلق لاحقًا هذا العام جهاز كمبيوتر كمومى قادر على تشفير معلومات أكثر بمقدار تريليون مرة من هذا الجهاز.
تتبع الشركة نهجًا مختلفًا فى التعامل مع الكيوبتات، حيث تستخدم أيونات الإيتيربيوم المشحونة والمثبتة بواسطة المجالات الكهرومغناطيسية، بدلًا من الذرات المحايدة.
وتقوم شركات مثل "Oxford Ionics" و"IonQ" (ومقرها ماريلاند- الولايات المتحدة) أيضًا بتطوير كيوبتات الأيونات المحصورة.
ويقول "جون جامبل" من "IonQ" إن أحد المزايا المشتركة بين النوعين من الأجهزة هو سهولة تغيير الاتصالات بين الكيوبتات، مما يجعلها أكثر ملاءمة لتنفيذ العديد من الخوارزميات المختلفة، بما فى ذلك طرق مختلفة لربط الكيوبتات الفيزيائية فى كيوبتات منطقية لتصحيح الأخطاء. ويضيف: "المرونة وتعدد الاستخدامات هى ملكة الساحة الآن."
هذه المرونة هى جزء من السبب الذى يجعل مؤيدى تقنيات الأيونات المحصورة والذرات المحايدة يأملون في التفوق في النهاية على عمالقة التكنولوجيا مثل "جوجل" و"IBM".
وتبرز "جوجل" بشكل خاص في صناعة الحوسبة الكمومية، حيث كانت أول من ادعى تحقيق "التفوق الكمومى" – أى القدرة على إجراء حساب لا يمكن لأى كمبيوتر تقليديدى القيام به – في عام 2019.
وبينما تم الطعن فى هذا الادعاء لاحقًا، أكدت جوجل ذلك مرة أخرى فى عام 2024 باستخدام شريحة جديدة تُسمى "Willow". وقالت الشركة إنها يمكنها تنفيذ مهمة حسابية محددة فى 5 دقائق فقط، بينما قد تستغرق أسرع أجهزة الكمبيوتر العملاقة التقليدية حوالى 10 سبتيليون سنة لإنجازها.
تعتمد كل من "جوجل" و"IBM" فى صناعة كيوبتاتها على دوائر فائقة التوصيل متناهية الصغر، تتمتع بمزايا خاصة، حيث يمكنها تنفيذ الحسابات بشكل أسرع من نظيراتها الذرية والأيونية، كما أنها تكون فى بعض الأحيان أكثر موثوقية نسبيًّا.
أما فى حالة الذرات المحايدة، فإن الكيوبتات معرضة لخروجها من حالاتها الكمومية الدقيقة التى يتم التحكم فيها بواسطة الليزر.
لكن هذه الإنجازات قد لا تكون كافية للتفوق حقًّا على المنافسين. فكيوبتات الدوائر فائقة التوصيل ثابتة فى أماكنها ولا يمكنها الاتصال بسهولة إلا مع الكيوبتات الأقرب لها. وهو ما يجعل تنفيذ العديد من خوارزميات تصحيح الأخطاء التى تم تطويرها مؤخرًا أكثر صعوبة، كما يعيق تجربة هذه الرموز بشكل أعمق.
يقول "جامبل": "لقد حدثت التطورات فى رموز تصحيح الأخطاء الجديدة بسرعة كبيرة, ولا اظن ان تلك هى النهاية" ويقول "بلوم" إنه كان يعمل سابقًا مع أنواع أخرى من أجهزة الكمبيوتر الكمومية، لكنه حوّل تركيزه إلى كيوبتات الذرات المحايدة لأنها بدت وكأنها تقدم حلولًا أكثر للتحديات الأساسية فى هذا المجال. وقد تكون تقنية الدوائر فائقة التوصيل، التي كانت المفضلة فى الصناعة سابقًا، معرضة الآن لخطر الوصول إلى طريق مسدود.
خطوة حاسمة من جوجل:
لكن هذا لا يعنى أن جهود "جوجل" قد ذهبت سدى. فقد أظهرت الشركة أن إضافة المزيد من الكيوبتات الفيزيائية إلى الكيوبتات المنطقية في شريحة "Willow" يزيد من قدراتها على تصحيح الأخطاء، وهى خطوة حيوية لصنع أجهزة كمبيوتر كمومية كبيرة الحجم.
فى الوقت نفسه، يحتوي معالج "IBM" الكمومى المسمى "Condor" على عدد كيوبتات أقل بـ 59 فقط من الجهاز القياسى لشركة Atom" Computing، وتتجه الشركة لتجاوز 4000 كيوبت بحلول عام 2026. ولهذا الغرض، تعمل "IBM" على تطوير مكونات لأجهزة الكمبيوتر الكمومية تسمح لها بربط الأجهزة الحالية بأجهزة أكبر وأقوى. وتقول الشركة إن هذا سيمكنها أيضًا من تنفيذ رموز تصحيح أخطاء أكثر من المنافسين المباشرين مثل "جوجل".
يقول "ديفيد ريفاس" من شركة "Rigetti Computing"، المتخصصة في كيوبتات الدوائر فائقة التوصيل، إنه فى رأيه، لم تصل أجهزة الكمبيوتر الكمومية فائقة التوصيل بعد إلى طريق مسدود. ويضيف أن هناك قيمة لهذا النوع من أجهزة الكمبيوتر الكمومية.
تبيع "Rigetti Computing" حالياً جهاز كمبيوتر كمومى جاهز للشحن يحتوي على 9 كيوبتات، بالإضافة إلى الوصول إلى معالج كمومى أكبر يحتوى على 84 كيوبت. ويقول "ريفاس" إن الشركة باعت أجهزة كمبيوتر كمومية لكل من المختبرات الحكومية والشركات التجارية، معظمها لاستكشافات تكنولوجية إضافية.
تصنع شركة "Alice & Bob" أيضًا كيوبتاتها من مكونات فائقة التوصيل، لكن تصميمها الأساسى يختلف عن الآخرين، لأنها تقوم بإعطاء الأولوية لقمع الأخطاء حتى قبل إنشاء الكيوبتات المنطقية. وبسبب هذا، يقول الباحثون في "Alice & Bob" إنهم يمكنهم الوصول إلى حوسبة كمومية خالية تمامًا من الأخطاء باستخدام آلاف الكيوبتات، بينما قد يحتاج منافسوهم إلى بناء ملايين الكيوبتات. إنهم لم يقوموا بإظهار أى كيوبتات منطقية بعد، لكنهم يهدفون إلى الحصول على جهاز كمبيوتر كمومى مفيد حقًّا بحلول عام 2030.
خمس سنوات أخرى:
العديد من الشركات المنافسة لديهم أيضاً خطط زمنية مماثلة، أى فى حدود الخمس سنوات، لبناء جهاز كمبيوتر كمومى مفيد، إلا أن شركة "PsiQuantum" الناشئة فى كاليفورنيا لديها الخطة الأكثر طموحًا فيما بينهم.
فقد تخلت الشركة عن العروض التوضيحية والتجارب باستخدام أجهزة تحتوى على عدد قليل من الكيوبتات، وتهدف إلى تقديم جهاز كمبيوتر كمومى كبير الحجم يشبه الكمبيوتر العملاق بحلول عام 2027.
يقول "بيت شادبولت" من "PsiQuantum": "نحن نضع جداول زمنية صعبة جدًّا لأنفسنا، ولدينا أسباب عقلانية قائمة على الأدلة تجعلنا نعتقد أن ذلك ممكن."
مع وجود هذا العدد من منصات الكيوبتات للاختيار من بينها، فمن من المرجح أن يتفوق؟
يراهن "جون بريسكيل" من "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" بشكل مبدئى على الذرات. ويقول إن إمكانية صنع العديد منها والقدرة على توصيلها بالطريقة الصحيحة لخوارزميتك الكمومية يجعلها الأكثر قابلية للتحقيق. ويضيف: "أعتقد أن ما يمكن لجهاز كمبيوتر كمومى يعتمد على الذرات المحايدة أن يفعله باستخدام بضعة أضعاف الـ 10,000 كيوبت قد يكون مماثلًا لما قد يتطلب مئات الآلاف من الكيوبتات فى جهاز كمبيوتر كمومى يعتمد على الدوائر فائقة التوصيل."
لكن فى النهاية ربما يكون أفضل كيوبت هو ذلك الذى لم يلاحظه أحد بعد. يريد باحثو الحوسبة الكمومية اليوم أن يفكر مهندسو المستقبل في أجهزتهم كمورد حاسوبى رائع آخر، بجانب الحوسبة الفائقة أو الذكاء الاصطناعى، بدلًا من اعتبارها آلات غريبة معقدة.
يقول "بلوم": "أتمنى أن نصل يومًا ما الى الوضع الذى لا يحتاج فيه أحد إلى التفكير فى الكيوبتات الفيزيائية مرة أخرى." عند هذه النقطة، قد لا تعمل أجهزة الكمبيوتر الكمومية فقط، بل قد تعالج مشكلات يمكنها أن تغير العالم حقًّا.■
ملاحظة:
بينما لا تزال صناعة الحوسبة الكوانتومية تبحث عن أفضل طريقة لبناء أجهزتها، فإن صناعات أخرى تحاول بالفعل استخدامها فى أماكن مدهشة. على سبيل المثال، يضم مركز "كليفلاند كلينك"، وهو مركز طبى غير ربحى فى أوهايو، أحد أجهزة الكمبيوتر الكوانتومية من شركة IBM – وهو الأول فى العالم المخصص حصريًا لأبحاث الرعاية الصحية. وفى مجال الرعاية الصحية أيضًا، استخدمت شركة التكنولوجيا الحيوية "موديرنا"، المعروفة الآن بلقاحاتها القائمة على الحمض النووى الريبوزى المرسال (mRNA)، أجهزة الكمبيوتر الكوانتومية من IBM لحساب سلوك جزيئات معينة قد تكون ذات صلة بعملية تطوير الأدوية.
كما أن البنوك من أكبر الداعمين لتكنولوجيا الكوانتوم، حيث تستضيف كل من "HSBC"، و"جيه بى مورجان تشيس"، و"جولدمان ساكس"، و"ويلز فارجو" أقسامها الخاصة بالكوانتوم، والتي تُكلف باستكشاف خوارزميات كوانتومية لتحسين الأسعار وعمليات التحقق من المعاملات فائقة الأمان. فى الواقع، فى عام 2024، تعاونت شركة "Quantinuum" مع "Mitsui & Co".، إحدى أكبر شركات التجارة فى اليابان، لعرض اختبار معملى للرموز الكوانتومية – وهى تشبه إلى حد ما نسخة كوانتومية من العملات المشفرة.
كما أن شركة السيارات العملاقة "BMW" تستكشف الحوسبة الكوانتومية منذ عام 2017، بهدف استخدام هذه الأجهزة الجديدة لتطوير مواد جديدة وتحسين عملياتها اللوجستية. ولكن ليس كل هذه التجارب الكوانتومية تنجح – ففي عام 2024، على سبيل المثال، أغلقت شركة التجارة الإلكترونية والحوسبة السحابية الصينية "على بابا" ومزود محرك البحث الرائد فى الصين "بايدو" مختبرات أبحاث الحوسبة الكوانتومية الخاصة بهما. ■
تعليقات