البنات - قصة قصيرة

  

قصة قصيرة ل: "دان بيفاكوا"

ترجمة: حازم فرجانى


في مارس، طار "جيبسون" إلى "شيكاغو"، حيث كانت صديقته تقوم بالدراسة فى برنامج للدراسات العليا فى تخصص الأدب، وفى إحدى الليالى ذهبا لتناول العشاء فى منزل أستاذها. 

كان "جيبسون" هو الآخر أستاذًا. معظم طلابه كانوا فقراء، وكذلك كان هو. 

كان يشك أنه لن يحب التدريس فى نفس الكلية التى تدرس فيها صديقته، لكنه هذا لم يكن شيئًا يستحق القلق بشأنه. 

أثناء العشاء، طرح الأستاذ أسئلة عن كلية "جيبسون"، قائلًا إنه يعرف أن مساره مختلف، لأن طلابه كانوا يتمتعون بمواهب بينما طلاب "جيبسون" ليسوا كذلك. 

تردد الحوار بشكل متقطع لبضع دقائق، ثم فتح الأستاذ زجاجة نبيذ أخرى، وبدأ هو وزوجته وصديقة "جيبسون" — وكلهم شعراء — يتجادلون حول الشعر.

لم يشرب "جيبسون"، كما أنه لم يكن يكتب الشعر. لم يشرب لأنه كان مدمناً على الكحول، ولم يكتب الشعر لأنه لم يكن يجيده. 

قال الأستاذ: "كان سيكون من الرائع لو منع ذلك المزيد من الناس من المحاولة!".

مع نهاية العشاء، كانت صديقة "جيبسون" وأستاذها وزوجته فى حالة سكر شديد, وبدأوا يتجادلون حول كاتب ما. 

قرب منتصف الليل، ضرب الأستاذ يده على الطاولة بعنف، وعندما رفعها مرة أخرى، كان حافة سكين حادة مغروسة فى راحة يده. 

للحظة، لم يفهم الجميع شئ، بدا الأمر كومضة خيال. ثم هز الأستاذ يده فسقط السكين على الوعاء. 

قال الأستاذ: "يا إلهى!". بينما بدأ الجرح ينزف دمًا غزيرًا. 

بعد ذلك، نقلت زوجة الأستاذ زوجها إلى الحوض، على حين قالت صديقة "جيبسون" إنها تشعر بالدوار، فذهبا إلى الأريكة.

بعد دقيقة، خرجت ابنة الأستاذ ذات الخمس سنوات من غرفتها. كانت ترتدى تاجًا وثوبًا تنكريًا بلون أورجوانى يوحى بمهرجانات عصر النهضة. 

كانت الجدران مغطاة بأرفف الكتب. أخذت الفتاة رواية سميكة ذات غلاف برتقالى لامع، وجلست على أريكة أخرى وبدأت تقرأ. 

كانت أريكة الفتاة تقع تحت نافذة بعيدة، وجعلتها طريقة انزلاقها بين وسادتين تبدو وكأنها تلهو بلعبة لا يستطيع أحد رؤيتها. لم تكن قلقة بشأن والدها، الذى كان يصرخ فى المطبخ، وبدلًا من ذلك، ركزت على كتابها. 

عرف "جيبسون" أن بعض الأطفال لديهم جداول نوم غير منتظمة، أو أن الآباء أحيانًا يتساهلون عند وجود ضيوف، لكنه مع ذلك وجد من الغريب أنها لا تزال مستيقظة وأن لا أحد يبدو مهتمًا. 

أراد أن يسألها عن موعد نومها، لكنه لم يكن والدها. كما أنه كان يلتزم بقاعدة صارمة بعدم مقاطعة أى شخص أثناء القراءة، وافترض أن هذا يشمل الأطفال.

عندما وصل "جيبسون" لأول مرة وعُرِّف بالفتاة، توقع الأستاذ أو زوجته أن ابنتهم عندما تكبر ستصبح شاعرة. لم يكن "جيبسون" متأكدًا على أى أساس بنوا هذا التوقع. لكن هذه الفكرة علقت فى رأسه. 

كان لديه هذا الإحساس الغامض بالشعراء، وهذه الفتاة لم تكن منهم. إنها تفتقد ذلك الإحساس بالفخر الزائف بالذات، وتلك الطريقة العصبية المبتهجة التى يُعرفك الشاعر من خلالها أن هناك شاعر حقيقى داخله. إذن، هى ستكون كاتبة قصص أو روائية. 

فى الواقع، كان هناك شىء من المفارقة فى وضعها، مع والدها ذى المنصب التعليمى الرفيع، الذى ينزف فى المطبخ. بسبب هذا، بدا وكأن طفولتها كلاسيكية.

كلما حاول "جيبسون" الكتابة عن طفولته، كان يصتدم بمدى عنفها. تذكر قصة كان قد أراد كتابتها عن صديق والدته "جون". لكن كل محاولات كتابة القصة خرجت فى شكل فوضى مشوشة، على الرغم من أن الحبكة، التى جمعها على مر السنين، كانت بسيطة: 

"جون" كان مدينًا ببعض المال، ولم يسدده، فقامت عصابة دراجين ناريين بضربه حتى الموت. قبل وفاة "جون" بفترة وجيزة، ذهب "جيبسون" ووالدته لزيارته فى المستشفى. كان "جيبسون" فى عمر الفتاة تقريبًا ذلك الوقت. فى ذلك اليوم، كانت والدته تحت تأثير الكثير من المخدرات. أشارت إلى "جون"، الذى كان موصولًا بالأنابيب. وقالت: "حادث دراجة نارية". 

لقد احبطته هذه القصة لسنوات.

ولأن كل ما يتعلق بالأستاذ كان يضايقه، فقد افترض "جيبسون" أن الفتاة ستكبر وتكره والدها. وبينما كان يجلس أمامها، تخيل "جيبسون" أنها قد تكتب قصة قصيرة عن فتاة تعود إلى المنزل من المدرسة. وعلى مقربة من منزلها، ترى والدها يقبل طالبة دراسات عليا مكتئبة. شىء من هذا القبيل أو مشابه له. الأمر متروك لها على أية حال.

في "شيكاغو"، كان "جيبسون" يذهب إلى نفس المقهى كل يوم، كان العاملون هناك يعرفونه. كان يفضل قهوته سوداء مع مكعبين من الثلج لأنه كان يريد أن يشربها بسرعة ولا يرتشفها. 

فى صباح اليوم التالى لزيارته لمنزل الأستاذ، عندما طلب قهوته، كانت مديرة المقهى تدرب عامل جديد، وأشارت إلى "جيبسون" قائلة: "احذر عند تقديم مشروب هذا الرجل، فلسانه لا يحتمل أى مشروب ساخن".

بعد ذلك، سار "جيبسون" عبر الشارع إلى كلية إدارة الأعمال، لقد كان يعتبرها مكتبه الخاص. الطابق الأول عبارة عن فناء داخلى نظيف يشبه متاجر "آبل" مع نوافذ ممتدة من الأرض حتى السقف تطل على المبانى الأخرى فى الحرم الجامعى. 

جلس محاولا العمل على قصة. كل مسودة كان يكتبها لمدة أسبوعين، تبدأ بشخص يقود سيارة. حاول وضع الشخصيات فى مكان آخر - مطبخ، أو قاعة فارغة، أو غرفة انتظار فى عيادة طبيب - ولكن بعد ذلك، بطريقة ما، ينتهى بهم الأمر بالعودة إلى السيارة. 

حدث ذلك فى كل روايات "وليام فوكنر" تقريبا [روائى أمريكى-المترجم]. كانت هناك دائما شخصية تمشى فى خط مستقيم للغاية. كان المثال الأكثر وضوحًا فى رواية "بينما أحتضر"، عندما كانت "جول"، بدلاً من المشى حول المنزل، تتخطى نافذة مفتوحة وتخرج من الأخرى. 

وقف "جيبسون' ومدد جسمه، 

كانت عطلة الربيع، ولكن ليس بالنسبة لصديقته. إنها تقوم بالدراسة فى مكتبة العلوم الإنسانية عبر الحرم الجامعى، حيث يعانى بعض الطلاب من التوتر، والبعض الآخر من المخدرات. فى العام السابق، بينما صديقة "جيبسون" تقرأ فى المكتبة، نزل طالب جامعى تحت المكتب، ودخل فى حالة من السبات، ورفض الخروج. 

الجميع فى كلية إدارة الأعمال، يضحكون وهم يتناولون الغداء. لم يكن أحدهم يخاف الموت، انهم لن يفهموا حتى ما الذى تتحدث عنه. الأرضية الرخامية اللامعة فى البهو والسراخس الضخمة المزروعة فى أوعية والنوافذ ذات الزوايا الغريبة وضعتهم فى إطار وكأنهم ممثلين داخل التلفزيون.

جلس "جيبسون" بفكر فى ذلك اليوم الذى قضاه مع والدته منذ ما يقرب من عام. 

أحضر لها الأطباء حينها اخصائية علاج طبيعى، فوالدته كانت ممتلئة بالسموم نتيجة الشرب - الأمونيا وما هو أسوأ - وأرادوا أن يروا كيف سيتعامل جسدها مع هذا. 

لقد مكثت فى المستشفى لمدة ثلاثة أسابيع، ولكن كل ما جربوه وكل الإجراءات التى اتخذوها لم تساعدها.

عندما وصلت المعالجة الفيزيائية فى الموعد، كرهها "جيبسون" على الفور. كانت والدته متوترة ومرعوبة بشأن موضوع المشى، فى حين أن المعالجة لم تبدى أى اهتمام. كانت شقراء متناسقة الملامح، بينما كانت والدته فى المستشفى لأن أعضائها توقفت عن العمل، كان لونها مثل لون الموز.

نظرت المعالجة إلى تحاليل والدته، وقالت: "ليست جيدة،  لم تعتنى بنفسك، من حسن الحظ أن اليوم هو اليوم الأول لما بقى من حياتك". 

يمكن لجيبسون أن يسامح بل ويقدر شخصًا يقول هذا إذا كان يعنيه، لكن تلك المعالجة لم تكن كذلك. 

كان "جيبسون" يعتقد أن هناك دائمًا حدث أو سلسلة من الأحداث فى حياة بعض الاشخاص، قد تجعلهم يشعرون بالانهيار وبسبب هذا، عليه أن يكون لطيفًا معهم. لكن عندما يصادف شخصًا يبدو وكأنه لم يمر بمثل هذه التجربة، فهو يريد معاقبته.

 قالت المعالجة وهى تجهز المشاية "أنا مشغولة جدًا اليوم، هل نحن مستعدون؟"

كانت صديقة "جيبسون" هناك أيضًا، لقد كانت هناك منذ البداية. أسقطت كل شىء من يدها، وقالت: "هذه فكرة سيئة، يا "آلان". 

لكن "جيبسون" كان غاضبًا من والدته ومن المعالجة -  إنهما نوعان مختلفان من الحمقى - لدرجة انه سمح لها بالاستمرار.

ساعدت المعالجة فى إخراج والدته من السرير، وبدأت هى ووالدة "جيبسون" رحلتهما حول موقع الممرضات، المنطقة التي أطلقت عليها المعالجة اسم الكبسولة. كانت والدته تدفع قدمها خطوة واحدة وتشعر بالإرهاق. استغرق الأمر ساعة لقطع خمسين قدمًا. فى المنحنى الأخير، عندما انحنت والدته فوق المشاية، رأى الاشمئزاز والقلق بادى على وجه المعالجة، وشعر حينها بمشاعر انتصار وحشيه.

بعد بضع ساعات من العمل، رأى "جيبسون" زوجة الأستاذ تحمل أربع أو خمس أكياس تسوق ورقية من مقابضها المصنوعة من الخيوط وفى اليد الأخرى تمسك بيد ابنتها. كان اسم زوجة الأستاذ "آن"، وعندما رأت "جيبسون" أومأت برأسها واقتربت منه.

ابتسم "جيبسون" حين سألته عن حاله، فقال إنه بخير، ثم اعتذرت عن الطريقة التى طعن بها زوجها يده بسكين لحم.

قال "جيبسون": "لقد فعلت ما هو أسوأ".

- "تبدو هذه الحادثه وكأنها قصة".

- "ليس كذلك، لماذا لديك الكثير من أكياس التسوق؟"

قالت آن: "حفلة عشاء"

- "واحدة أخرى؟" 

- "إنها سلسلة لا تنتهى من هذه الأشياء."

كانت الابنة تتفحص القاعة، وتراقب الناس، وتستوعبهم، بينما كانت "آن" تشكو. تذكر "جيبسون" الأمر الذى وجده مثيرًا للإعجاب عنها فى تلك الليلة - حقيقة أنها تقرأ جيدًا بالفعل. فبينما كان والدها ينزف فى المطبخ، كانت هى تقرأ لأكثر من جزء من الساعة. لم يكن "جيبسون" قادرًا على القراءة فى سن الخامسة، أو السادسة، أو حتى السابعة. وبالتأكيد لم يكن قادرًا على الكتابة. كان يجمع الحروف الساكنة معًا على أمل أن تكون كلمة ما عن طريق الصدفة أو المعجزة. فى ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، جعلته اللغة غاضبًا. منذ وفاة والدته، اكتسبت لغته نبرة باردة وسريعة، مثل قيادة السيارات.

فى تلك الليلة، قام هو وصديقته بمشاهدة مسلسل درامى تدور أحداثه حول جريمة. تجرى الأحداث فى بلدين يفصل بينهما نهر يمتد فوقه جسر. يعبر شخص من أحد البلدين هذا النهر ويسأل نفسه: أين أنا؟  ماذا يحدث؟ 

لم تكن صديقة "جيبسون" عادةً ما تشرب  بقدر ما شربت فى منزل الأستاذ، وفى منتصف الحلقة الثانية، نامت. كان ثقل رأسها على كتفه بمثابة تذكير بمدى انزعاجه. 

عند عودتها من منزل الأستاذ فى تلك الليلة، ظلت صديقته تتحدث عن كم كانت تشعر بالسوء. ساعدها "جيبسون" على صعود الدرج،  قائلاً: "أستطيع أن أقول أنك مجنونة". 

في كل السنوات التى قضياها معًا، يمكن أن يحصى فقط على إصبعين عدد المرات التى كانت صديقته فى حالة سُكر. 

لقد توقف "جيبسون" عن الشرب قبل أن يلتقيا.

ذهَب إلى الشرفة ليدخن. شقة صديقته تقع فى الطابق الثانى من مبنى حديث على شكل حرف Z، أو ربما W، أو حرف X غريب ومائل. لم تكن الشقق المقابلة عبر الفناء، فى الجانب الآخر من المبنى بعيدة على الإطلاق. معظم سكان المبنى من طلاب الدراسات العليا، أو أشخاص يعملون فى وظائف بالجامعة. كان يرى هؤلاء الأشخاص فى ممر مبنى صديقته، ثم لاحقًا خلف بعض المكاتب فى المكتبة.

عبر الفناء، وتحت ضوء أصفر خافت، بدت امرأة تقف أمام الموقد فى المطبخ. كانت شقتها على بعد خمسين قدمًا، أو أقل. 

شعر "جيبسون" بالقلق أن تبدو عليه صفة المتلصص إذا استدارت المرأة، لكنه أراد إنهاء سيجارته، فاستمر فى التدخين. بعد ثوانٍ، سمع طفلًا يبكى، لم يكن بكاءً خفيفًا، بل عواءً مفزعًا. تجمع فى ذهنه بكاء الطفل وهيئة المرأة المنحنية المتعبة. 

قبل عام، كان قد فتح الباب الأمامى لتلك المرأة، التى كانت حاملًا وقتها. قالت بلهجة لم يستطع تحديدها : "شكرًا".

لم تتحرك المرأة فى المطبخ، أخذ الطفل نفسًا، وفى ذلك الصمت الجديد، هناك صوت همهمة الكهرباء فى المبنى كصراصير الليل. عندما عاد الطفل للبكاء، أشعلت المرأة موقدًا ذى لهبًا غازيًا أزرق كالنجمة. راقب "جيبسون" المرأة وهى تخفض يدها إلى اللهب ثم ترفعها ببطء.

كانت أمه وحيدة. 

جدته لأمه، والدتها، ماتت بنفس الطريقة، وربما سيموت "جيبسون" أيضًا هكذا. قبل سنوات، كان "جيبسون" قد ثمل لعدة أيام، وذهب إلى حفلة، وثرثر مع الشخص الخطأ. شخص غريب، رجل لن يراه "جيبسون" مجددًا، لقد كسر فكه إلى سبع وعشرين قطعة. بعد الجراحة، عندما أفاق فى المستشفى، كانت أمه هناك. فى تلك المرحلة من حياتها، كانت ما لاتزال متيقظة.

قالت: "أنت مازلت حى."

لم يشعر بذلك. أخبرته أمه أنه كان تحت تأثير دواء "ديلوديد". شرحت له كيف أنهم، بدلًا من تثبيت فكه، ربطوا كل سن على حدة. 

إذا تمكن "جيبسون" من تحمله، سيتمكن من الكلام، لكن فقط إذا أراد.

عندما أغمض عينيه، رأى فتاتين صغيرتين تركضان في حقل أزهار. كانتا فى التاسعة والسابعة — عرف ذلك بطريقة ما. بينما تركضان، كانتا تضحكان وتقطفان الأزهار وتقضيان وقتًا رائعًا. عندما فتح عينيه، كانت الفتاتان ما زالتا هناك. تضعان الأزهار التى قطفنها فى شعر أمه.

أخبر "جيبسون" أمه بما يراه.

قالت أمه: "حسنًا يا حبيبى، هذا تأثير الديلوديد. سنغير الدواء."

منذ عشاء منزل الأستاذ، بدأ "جيبسون" فى السخرية منه أمام صديقته — ليس بقسوة: تعليقات من قبيل الأستاذ الذى يقطع أصابعه وأصابع قدميه. يومًا ما، بينما كانا يدخنان على الشرفة، أخبرته صديقته أنها لا تجد هذه النكات مضحكة. كانت تحترم الأستاذ. قالت إنه ذكى بشكل لا يصدق وقد علمها الكثير. اعتقدت صديقته أن "جيبسون" كان سيعجب به أيضًا لو  امكنه التعرف عليه بشكل افضل.

لم يكن "جيبسون" متأكدًا، لكنه أحب "آن". 

كان عمل "آن" هو ما قرأه، وليس عمل الأستاذ. خلال العشاء، قبل الجلوس، ظلت تعرض عليه عصائر كانت تعتقد أنهم يمتلكونها. 

قال أخيرًا: "الماء يكفينى." تحدثا فى المطبخ عشر دقائق عن عائلتيهما. أخو "آن" مات صغيرًا — بحادث سيارة — ورغم أن "جيبسون" كان يعلم بذلك مسبقًا من صديقته، لكنه لم يخبرها. تساءلت "آن" عن أخو 'جيبسون'، وعما إذا كانا قريبين. أخبرها أنهما كذلك.

سألت: "هل تقضيان وقتًا كثيرًا معًا؟ هل تتحدثان هاتفيًا؟"

أجاب: "لا، ليس حقًا."

"إذن كيف تعرف أنكما قريبان؟"

أدرك أن سؤالها جدى.

لم يكن أخو "جيبسون" حاضرًا عندما نُقلت أمه إلى العناية المركزة، لكنه ساعد فى اتخاذ القرار. لقد عقدا اجتماع مع الفريق الطبى فى قاعة خاصة، كان هناك طبيب الكلى، والممرض أيضًا. فى ذلك اليوم، دخل الممرض غرفة أمه واتجه إلى الجانب الآخر من الستارة حيث كانت رفيقة غرفتها نائمة. كان لتلك المرأة أبناء أيضًا. لقد بدوا كالأشباح الصامتين. كان الممرض يحاول أن يشرح لهم حالة الموت، لكنهم كانوا منغلقين.

في اجتماع الفريق، استمع "جيبسون" وأخوه، وبعد أن انتهى الأطباء من الكلام، التفتوا إلى الممرض الذى ضم شفتيه وعبس.

في أحد الأيام، أخذ "جيبسون" المصعد لزيارتها. عندما وصل إلى غرفة أمه، همّ بتقبيل خدها، لكن نظرة الذعر المفاجئة على وجهها أوقفته. كأن مخها كان قد توقف بالفعل. سألها إن كانت بخير، لكنها لم تعد تستطيع الكلام. 

ربما يبدو كل ذلك صادمًا، لكن "جيبسون" رأى  الأمر نفسه من قبل مع والده. الناس تختفى. يكونون هنا ثم يغيبون. خلال فترة بقاء أمه متيقظة، كانت شخصًا عاديًا. بعد ساعة، عرفت أمه اسمها مجددًا، لكن ممرضة هادئة أخبرت "جيبسون" أن الأمر مسألة وقت، وأن عليه إنهاء ما يحتاج إنهاءه. 

لم تكن تعنى بذلك المشاعر.

اتصلت صديقة "جيبسون" باثنى عشر محاسب قانونى. كان يحتاج إلى تفويض للوصول إلى حسابات أمه. خشى أن تتشابك الأمور فى الإجراءات القانونية ويخسر المنزل. رد محاسب واحد، رجل كبير. التقاه 'جيبسون" خارج المستشفى. لسبب ما، أخبر "جيبسون" الكاتب قصة حياته كاملة. كانت طيور النورس تصرخ فى موقف السيارات. كان الرجل يرتدى سترة ميدانية بنية. لم يرمش.

قال: "أختى كانت تشرب. ما تقوله مؤسف حقًا." صعدوا وحاولوا شرح الوضع لأمه: كيف أن عليها توقيع النموذج — هل تستطيع؟ — لتفاديهم كارثة أكبر.

قالت: "أو. كى. أل. إى."

تحرك كل شىء بسرعة. كان هناك إيقاع لا مفر منه. عرضت صديقة "جيبسون" أن تكون شاهدًا. وصل أخو "جيبسون"، وخرجا إلى الردهة. بعد دقيقة، عندما قدم للكاتب التوقيع، عبس. قال: "لا يمكننى استخدام هذا"، وأراهم. كان توقيع أم "جيبسون" يشبه الخربشة.

قال "جيبسون": "دعنى أتكلم معها."

عاد مع الكاتب إلى غرفة أمه. طلب منها المحاولة مجددًا.

"أو. كى. أل. إى."

حاولوا مرة أخرى بنموذج نظيف. بقى "جيبسون" فى الغرفة. وضع القلم فى يد أمه.

قالت صديقته للكاتب: "لما لا تنظر من النافذة؟"

أجاب الكاتب: "حسنًا، سأفعل."

وضع "جيبسون" يده على قبضة أمه وقادها لكتابة اسمها. عند الانتهاء، عاد الكاتب. نظر إلى النموذج.

قال: "يناسبنى. تبًا لهم."

بعد يوم، نقلوا أمه عبر الشارع إلى مركز حديث للرعاية التلطيفية. بدا كمنتجع تزلج، كانت غرفتها أكبر من الطابق الأرضى لمنزلها. لأن المركز جديد، تمكن طبيب الرعاية التلطيفية من إدخالها دون علم شركة التأمين. لقد قام بخدعة.

أرادت أمه إبقاء سبب وجودها فى المستشفى سرًا، جعلت "جيبسون" يعد بعدم إخبار أحد. وحتى بعد توقفها عن الكلام، وشرود عينيها دون تركيز، حافظ على وعده. عندما زارها أصدقاؤها من العمل، تمتم بتفسيرات غير منطقية. أخواتها الأربع كن يعرفن.

فى إحدى الليالى، وصلن. جلست خالاته على الأريكة الطويلة فى منطقة المعيشة المنفصلة. فكر أنه يريد كتابة رواية عن عائلة أمه. السطر الأول سيكون: "كنَّ مختلفات لدرجة أنهن أشبه بفريق كرة سلة عشوائى أكثر من كونهن أخوات." عندما يكن معًا، تسبب شخصياتهن احتكاكات. تعليقات، إيماءات، ذكريات — ثم ينفجرن فى تنهدات وتقليب عيون.

في تلك الليلة، ترك "جيبسون" أمه مع أخيه وخالاته ونزل إلى القاعة الرئيسية فى المركز. وقف رجل أمام المدفأة، خلفه فى كرسى ذى جناحين، كان هناك طفلة وطفل. كانا ابنيه، عرف "جيبسون" ذلك لأنه رآهم يغادرون غرفة مريض معًا فى وقت سابق. 

حزن ذلك الرجل جعله يدرك أن المريضة كانت زوجته، وأن الأطفال سيبقون وحدهم معه إلى الأبد. 

انتابته رغبة فى المغادرة. 

كانت الفتاة أكبر من الصبى ببضع سنوات. نظر الأب إلى "جيبسون" وأومأ.

قال الأب لأطفاله: "قولا مرحبًا."

لم يهتما.

قال الصبي: "أريد العودة إلى البيت."

مالت الفتاة لإصلاح ياقة أخيها.

قالت: "لا نستطيع الآن."

عندما كان "جيبسون" صبيًا، كانت أمه تقف خلفه كلما كتب إملاءً. إذا أخطأ، قالت: "توقف. امحه. حاول مجددًا."

بعد نقل أمه أول مرة إلى المستشفى، أسرع "جيبسون" وأخوه إليها. كانا غاضبين فى ذلك اليوم، لكل منهما طباع حادة: نوبات غضب مفاجئة، ميل للانزعاج؛ يشعران بالإهانة بسرعة. أخبراها أنهما خائبا الأمل. بعد كل هذا الوقت — لماذا تعودين للشرب؟ ما خطبك؟

فى مركز الرعاية، عندما عاد "جيبسون" من الطابق السفلى، حاول مجددًا. مشط شعر أمه لآخر مرة. غطى ذراعيها بالبطانية لتدفئتها. عندما فتحت عينيها لجزء من الثانية، قال مرحبًا. ثم وقف هو وأخوه وخالاته حولها ولمسوا ذراعيها، ساقيها، رأسها. وقفوا وقتًا طويلًا. لم ينطق أحد بكلمة.

في ليلته الأخيرة فى "شيكاغو"، ذهب "جيبسون" وصديقته إلى احتفالية قراءة أدبية داخل الحرم الجامعى. اختارا مقعدًا فى الخلف. 

كان الأستاذ هو من يدير سلسلة القراءات، حيث وقف على المنصة لتقديمها. كان "جيبسون" قد قرأ كل كتب الكاتبة، ومن الواضح أن الأستاذ فعل ذلك أيضًا. قال الأستاذ أن قصص الكاتبة تحولت إلى قصة واحدة كبيرة فى ذهنه. 

فكر "جيبسون" فى أن الأستاذ قد لا يكون شخصًا سيئًا. ورغم أن "جيبسون" لم يكن قد قرأ أى قصائد للأستاذ، إلا أنه قرأ له مقالًا عن الكاتبة. واعتقد وقتها، أنه  مقال جيد جدًا.

صفق الجميع بينما نزل الأستاذ لاستقبال الكاتبة من على السلالم وساعدها للصعود إلى المنصة، وارتدت الكاتبة نظارات القراءة. 

عبر النافذة الزجاجية الملونة من خلفها، رأى جيبسون آخر خيوط الشمس. 

شاهد الأستاذ يجلس فى الصف الأمامى بجانب "آن". 

بحث عن الابنة، لكنها لم تكن هناك. 

شربت الكاتبة من كوب ماء وفتحت كتابها. شكرت الحضور. 

أعقب ذلك صمت طويل غريب. 

اتكأ "جيبسون" على المقعد للحظة. انتظر. ثم مال للأمام. ■

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة