الأنبياء - قصة قصيرة
قصة: ماسون جيفري واجيمان
ترجمة: حازم فرجانى
قبل أن أغادر النظام الشمسى، قمت بجولة فى الغابة الواقعة خلف منزلى. إنها ليست سوى بقايا غابة "سوبيريور" الوطنية، واحدة من النظم البيئية القليلة من الدرجة الأولى المتبقية فى العالم.
لقد أمضيت السنوات الست عشرة الماضية فى مراقبة النباتات والحشرات، لأرى كيف ضعف النظام البيئى خلال الحقبة الزمنية السابقة.
أتوقع أنه سيكون على القيام بتدخل محدود فى غضون عشرين عامًا لإصلاح الوضع. وغالباً سيكون ذلك هو الوقت الذى سيصل فيه انخفاض عدد سكان الكرة الأرضية إلى ما دون الخط الأحمر.
لقد تم تكليفى بمهمة استكشاف كوكب "جلاسياليس"، هذا الكوكب الأبيض الصغير المائل للزرقة، الذى يبعد عنا 2432 سنة ضوئية.
ترجع أهمية هذا الكوكب إلى التركيز العالى للمياه على سطحه، على الرغم من أن اغلبها متجمد.
ونظراً لبعده الشاهق، فالبيانات لن تفيد بأكثر من إعطائنا لون السطح وبعض القراءات غير المنتظمة للطقس.
بصفتنا علماء، كنا نود أن نحصل على بيانات أدق، إلا أن الأمل يحدونا ان الكوكب سيفى بالغرض فى النهاية.
الوضع على الأرض اصبح ميؤوس منه لدرجة انهم اطلقوا علينا لقب "الأنبياء"، رغم اننا لسنا سوى مجموعة من العلماء.
عندما بدأ المشروع كان عددنا أربعة عشر، وكان كل إثنين منا مكلفين بالبحث عن مكان صالح للحياة فى الكون الواسع. ثم أصبح عددنا ثلاثة عشر عندما توفى "آموس هاردينج"، قبل شهر واحد من الإنطلاق.
حدث ذلك بسبب شربه مياه ملوثة. ووفقًا للتقارير، فقد كان يشربها لعدة أسابيع دون أن يلاحظ. اكتشفوا لاحقاً خللًا فى نظام الترشيح فى منزله، ولكن فى كل الاحوال لم يكن فى خزان بلدته سوى مخزون ستة أشهر من المياه، مما يعنى أن جميع السكان كانوا ليموتوا قبل أن يتمكن أحد من الإبلاغ عن النتائج أصلا.
رغم أن السفن الفضائيه مصممة لاستيعاب ثلاثة أشخاص، إلا أننى تطوعت للذهاب بمفردى.
حين عرضت ذلك ساد صمت طويل، وشعرت بفيض من النظرات المريحة يغمر أرجاء غرفة الاجتماعات البيضاوية الخالية من النوافذ والمظلمة.
لقد ربت جميع الأنبياء الآخرين على ظهرى شكرًا، وفى الواقع شعرت بالراحة عندما علمت أننى أستطيع القيام بالمهمة بمفردى، فالعمل الجماعى، والتعاون ليس أفضل مهاراتى.
لذا كان من الأفضل الاعتراف بهذا العيب، خاصة عندما تكون الإنسانية على المحك.
لقد استغرق الأمر ثمانية أشهر وثلاث قفزات ضوئية للوصول إلى "جلاسياليس". كانت القفزات لحظية، حيث غطت ما يصل إلى ألف سنة ضوئية في غمضة عين. كما تطلبت القفزات مساحة هبوط بالقرب من شمس قوية، وهو ما جعل الرحلات المباشرة مستحيلة لمعظم الأنبياء.
فى الماضي عندما كان يطلق علينا "رواد الفضاء"، كانت الموارد وفيرة، ومع ذلك كانت هناك أكثر من حالة صادفها سوء التقدير مما أدى إلى وفيات حارقة عند الإنطلاق. وفى لحظات كهذه، أعتقد أننا جميعًا كنا نتساءل عما إذا كان القدر موجودًا أم لا، وما إذا كانت هناك يد مرشدة لا يمكننا رؤيتها.
إذا كان الله موجوداً بالفعل،
غالبًا ما تمنيت أن يكون ذلك صحيحًا؛ لانه سيكون أقل إحراجًا من ان نترك نحن الملحدين لنواجه ما أفسدناه بأنفسنا.
عندما وصلت إلى "جلاسياليس"، كدت أبكى. فمن خلال الكوة الزجاجية الضيقة لدرع سفينتى، بدا الكوكب الأبيض والأزرق وكأنه صورة سينمائية لماسة متألقة أشاهدها من خلال شاشة تلفزيون.
كان الكوكب الأزرق الجليدى يتوهج وسط السواد المحيط به، مضيًئا بانعكاس أشعة شمسه القريبة.
وبينما كنت أعبر غلافه الجوى، غمرنى شعور جارف بالرهبة. لم أعرف فى قراره نفسى، ما إذا كان هذا الكوكب سيبتلعنى أم سيحمينى.
كان التكثيف على زجاج السفينة على صورة ماسة، وترددت أنفاسى بقوة داخل جسدى وأنا أرقب كيف أصبح العالم فى الخارج أكثر زرقة. ومن خلال السحب، كشفت الألوان الزرقاء والخضراء الباردة لسطح الكوكب عن نفسها.
للحظة أحسست وكأنى لم أعد بحاجة إلى التنفس، فقد بدا الخلاص قريباً.
شكلت أرض الكوكب شبكة من الأنهار والجداول المتعرجة، بدت بعضها كخصلات شعر منفردة، تتقاطع جميعا عبر ما يبدو وكأنه جنة خضراء مورقة. تنفست بعمق بينما كانت قوة الجاذبية تهز جسدى بقوة بينما السفينة تخترق المجال وأنا اكافح من أجل الهبوط فى مسار موازى لأوسع نهر يمكننى العثور عليه. وجهت السفينة مباشرة فوق الماء المتحرك، ثم هبطت بالسفينة التى قفزت على سطح الماء مرة، ومرتين، ثم غاصت فيه، مخلفه سحابة كثيفة من الضباب بينما تباطأت حركتها تدريجياً.
عندما خفت حدة الأدرينالين، وعادت أنفاسى إلى طبيعتها، بدأت أضحك.
كان المشهد امامى مشوشا قليلاً بسبب قطرات الماء التى تغطى الدرع الزجاجى، لكن الألوان الزاهية والأغصان المترامية الأطراف للنباتات على الجانبين جعلتنى اشعر اننى وصلت إلى الجنة. وأثناء الهبوط، قمت بتشغيل وحدة التحكم الخاصة بى وكتبت رسالة إلى الأرض.
كانت الرسالة تقول "هبوطًا آمنًا".
لن تصل الرسالة قبل شهرين على الأقل.
كنت قد تلقيت تعليمات بالإبلاغ عن أى علامات على وجود الماء أو الحياة، لكننى اكتفيت بالتحديق فى شاشتى بلا تعبير.
أردت أن أكون متأكدًا بشكلٍ قاطع ، لذلك لم أرسل أى شىء آخر.
كانت السفينة تهتز بقوة فى الماء أثناء هبوطها على النهر، بينما كنت أحاول تسجيل انطباعاتى الأولى عن الكوكب.
بعدها أمضيت بضع دقائق فى الكتابة، ثم قمت بتثبيت خوذتى الضيقة ومارست بعض تمارين التنفس العميق أثناء ما كانت بدلتى تقوم بضبط نفسها بشكل آلى.
كانت ملابسى السميكة الرمادية اللون تبدو متناقضة بلونها الداكن عن الالوان الصاخبة فى الخارج. وبدا كأنها تطفئ جمال العالم البادى حولها.
كانت الخوذة ضيقة وملائمة بشكل جيد، ولها فتحة واسعة تمتد من جبهتى إلى ذقنى وكذلك من الأذن إلى الأذن، مما يسمح بنطاق واسع من الرؤية.
بمجرد ضبط الضغط، فتحت قمرة القيادة، وتسبب تغير الضغط فى حدوث صوت صليل عند انفتاح الغطاء المطاطى. كنت متأكدًا من أن وجهى كان يتوهج وأنا أشاهد باعجاب هذا بالعالم الجديد، وعلى وجهى ابتسامة لا نهائية. كانت الزهور على شكل نجمة بحجم الأشجار الصغيرة تطفو على ضفاف النهر، وكانت الأعشاب الزرقاء الداكنة ممتدة عند قواعد الزهور. خرجت من قمرة القيادة وصعدت إلى جسم السفينة المسطح وأنا أراقب مسار الأنهار الجليدية البادى فى الأفق.
حتى سفينتى بدت وهى مغطاة بالضباب الجليدى، كما لو كانت تحدق فى المشهد، مثل الآلهة التى تراقب الأرض، معجبة بتدفق رحيقها.
وبمجرد أن استوعبت عظمة المكان، لاحظت كائنات بيضاوية صغيرة مكسوة بالفرو تتأرجح أمام السفينة، فتجمدت في مكانى. وقبل أن أتحرك أكثر، ركعت وضغطت زر مفتاح على جسم السفينة، فكشف عن حجرة صغيرة بداخلها حزام قابل للسحب. ثبت الخطاف حول خصرى قبل أن أسحب قضيبًا معدنيًا رفيعًا من فخذى وأمدده إلى طوله الكامل. ثم اقتربت وجلست القرفصاء وطعنت أحد تلك الكائنات المكسوة بالفرو بقضيبى، وسرعان ما تلوى تحت السطح، بالكاد حرك سطح الماء. ثم طفا عائداً وهو على جانبه. ومن خلال فرائه الأبيض، تمكنت من تمييز عين صفراء منتفخة، وذيل عارى مزدوج الزعانف في مؤخرته. أدركت أنها كانت سمكة. فطعنته بقضيبى، لكن جسمه المترهل لم يتلوى هذه المرة. وضعت قضيبى بعيدًا وانحنيت فوق المياه المتدفقة، وأمسكت بالسمكة وانا ارتدى قفازى. كان الأمر مثل انتزاع قطعة من الخشب الطافى من النهر.
قمت بالربت على الفراء الأبيض للسمكة، والذي يمتد من فمها إلى قاعدة ذيلها، ثم فتحت شفتيها برفق بإصبعى. كان فم السمكة منطويًا إلى الداخل بشكل طبيعى، وكأنه يخفي شفتيه. كان لديها صفان من الأسنان الصغيرة الحادة التى امتدت عميقًا إلى لثتها، وكان بإمكانى بسهولة تمييز أحشائها الوردية من خلال حلقها. كانت مستلقية تمامًا فى يدى، وكذلك رفاقها حول الأجنحة. نظرت خلف السفينة لأرى بقعًا بيضاء فروية تبرز فوق الماء. أدركت أن السفينة ربما قتلتهم عند الهبوط، وربما كان هناك أيضاً تحولًا ف السماء الملبدة بالغيوم بالفعل، لكن العالم بدا وكأنه فقد القليل من لونه.
وبينما كنت أضغط على غطاء جرة بحجم سمكة، شعرت باهتزاز السفينة قليلاً، وكأن أحدهم سحب أحد أجنحتها. أدرت رأسى نحو قمرة القيادة المفتوحة، لكننى كنت قد توغلت كثيراً، بحيث لم أتمكن من رؤية أى شيء سوى الزجاج المرتفع. وضعت السمكة المحفوظة فى الجرة على الرف وسرت إلى الأمام عبر ممر جسم السفينة، والقضيب المعدنى مازال فى يدى. وعندما وصلت إلى قمرة القيادة المفتوحة، شعرت باهتزاز السفينة مرة أخرى، وبينما كنت أتطلع إلى الجناح، ظننت أننى رأيت شيئاً يغوص فى الماء، لكننى تأكدت أنه لابد أن يكون أحد الأسماك الميتة. ومع ذلك، لاحظت على الجناح الأيمن، بقعة كبيرة من الماء لم تكن موجودة من قبل، وكأن شيئاً ما حاول التسلق على متن السفينة. أغلقت قمرة القيادة بسرعة، وأعدت إغلاق حجرات السفينة بينما كنت أراقب الأجنحة بعينين يقظتين. وأغلقت الزجاج قبل أن أتمكن من التقاط أى شىء آخر.
قبل عامين، كنت أتبع قطيعًا صغيرًا من الغزلان ذات الذيل الأبيض ــ ثلاث إناث وصغير واحد ــ عبر غابة سوبيريور الوطنية. كنت فى مهمة لدراسة أنماط جريان المياه، ووجدت أن مسارى يتوازى مع مسار القطيع، لذا بدأت فى متابعتهم. فى البداية، قاومت إغراء إعتبار الغزلان أصدقاء، لكن بعد ساعات من محاولة عدم إطلاق إسم على الظبى الصغير ذو البقع اللؤلؤية، أدركت أننى قد أطلقت عليه بالفعل إسم "بامبى". قادنى "بامبى" وأمهاته الثلاث شرقًا، نحو بيتى، حيث كنا تقريبًا فى الضواحى المفتوحة.
وبينما كنت أشاهد "بامبى" وهو يشرب من جدول ضيق، اخترق الهواء صوت إطلاق نار. حملت حقيبتى بسرعة على كتفى وبدأت فى السير بهدوء نحو صوت طلقة الرصاص.
بدأت ألوم نفسى لتسميته "بامبى", حيث كانت النتيجة الوحيدة هى انكسار قلبى، فعلى الرغم من أن الظبى سيستمر مع اثنين من الأمهات بالتبنى، إلا أنني شعرت بالحزن لخسارته أمه. ركع الصياد فوق الأم وبندقيته على كتفه وابتسامة جائعة تعلو وجهه الملتحى. كان يرتدي سترة مموهة تقليدية ربما كانت تعود لجده، وكان وجهه مغطى بطلاء أخضر موحل. نظر إليّ بعينين لامعتين عندما اقتربت منه بما يكفى، ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة.
مسح الرجل بيده فروة الغزال وقال ضاحكاً: "لم اصطد من قبل مثل هذا الحيوان"
قلت للرجل ببساطة: "لقد ارتكبت للتو جريمة جنائية".
واصل مداعبة الغزال، وكأنه لم يسمع كلامى، فسألته: "هل يمكنك أن تأكل هذه الأشياء؟"
وقف وهو لا يزال يحدق فى الجثة، ثم تمتم: "ربما ينبغى لى أن أسأل والدى عن ذلك".
استدار ونظر نحوى نظرة استنتجت منها أن تقييمه لى لم يكن وديًا. ومع ذلك، ظل وجهه محايداً.
قال الصياد: "عاش أبى على بعد بضع ساعات شمالًا من هنا. ولأنه كان مدخنا، لم يكن لديه فرصة مع نقص الهواء النظيف".
قلت وأنا أنظر إلى حزام البندقية على كتفه المموه: "سيتعين على الإبلاغ عنك".
تنهد الصياد وقال "ألا استطيع أن أستمتع قليلاً قبل نهاية العالم؟"
بعد ساعة ساد فيها الهدوء خارج السفينة، فتحت قمرة القيادة مرة أخرى وربطت نفسى بالهيكل. ثم قمت بتوجيه السفينة نحو الضفة، باستخدام مجداف طويل، مدركًا أننى بحاجة إلى ربطها إذا كنت أرغب في مغادرة النهر. رأيت بين الأعشاب الزرقاء الداكنة والزهور الضخمة، أشجار مهقاء ذات لحاء ملتف حول جذوعها إلى فروع حادة بلا أوراق موجهة نحو السحب.
قدرت أن العريشات ستكون قوية بما يكفى لتحمل وزن السفينة المنجرفة، لذلك انتظرت حتى اصطدم الجناح بضفة النهر الموحلة للقفز على الضفة وفك الحزام من خصرى. عندما تعثرت على أوراق الشجر الزرقاء المورقة، أدركت أننى قللت من تقدير ارتفاع النهر، وكانت سفينتى تسير بسرعة أكبر مما كنت أعتقد.
هرعت إلى الشجرة وعانقت جسدها الجامد فى محاولة لفك الحزام حول جذعها، إلا اننى كدت أقطع حزام الأمان عندما شدته بقوة لدرجة أنه قذفنى إلى الأرض. وخوفًا من أن أفقد سفينتى، شددت الحزام بقوة بيدى اليسرى وتألمت عندما انزلق جسدى عبر الأعشاب البحرية وسقط فى النهر.
أخذنى التيار، وشعرت بتوتر الحزام يخف. باستخدام يدى الحرة، قمت بربط خصرى وسبحت إلى جناح سفينتى. ورغم أن الماء كان ملئ برواسب الكوكب، إلا أننى تمكنت من تمييز أسراب من الأسماك البيضاء ذات الفراء المختبئة تحت غطاء من النباتات على شكل مظلة ذات سيقان رفيعة ممتدة من الأسفل. شعرت أنهم يحاولون تجنبى، لكننى لم أضيع الوقت فى اكتشافهم.
بمجرد صعودى على متن السفينة، جلست على جناح سفينتى للحظة، حيث كانت بدلتى مملوءة بمياه النهر بالفعل. كلفتنى تلك المغامرة 2% من خزان الأكسجين الخاص بى، الذى كان قد تبقى منه ما يقدر بساعتين، لكن أجهزة تنقية الهواء في السفينة كانت تملأ خزان أخر بينما كنت جالسًا يقطر منى الماء.
فحصت بدلتى بحثًا عن أى ضرر، ثم انتظرت حتى وجدت شجرة بالقرب من الحافة وقفزت مرة أخرى إلى الضفة. كنت أسرع كثيرًا هذه المرة، حيث قمت بتأمين المشبك قبل بضع ثوانٍ من الموعد المحدد.
فى تلك الليلة، نمت وعينى مفتوحتان، وهي ممارسة إلزامية فى تدريبنا كأنبياء. حل الظلام سريعاً، حيث ان "جلاسياليس" يدور بسرعة أكبر من سرعة الأرض، كما أنه يمتلك محيطًا أصغر، ومع ذلك بدا الليل كسحابة رمادية أكثر من كونه ليلة سوداء. كان الهواء كثيفًا وضبابيًا، وكان لون الكوكب يشبه شيئًا أقرب إلى الكسوف وليس ظلًا بلا شمس. على هذا النحو، كان بإمكانى الرؤية حتى الضفة بدون الحاجة لضوء إضافى، لذلك نمت وعيناى مستيقظتان.
استيقظت فجأة حين بدا أنى رأيت يداً تلطخ زجاج الدرع. حاولت أن أغمض عينى لأتخلص من هذيانى النائم وأنا أضغط وجهى غير المغطى بالخوذة على الزجاج. بدا لى سطح سفينتى خالياً من أى شىء، والضفة هادئة.
تكمن الحيلة فى النوم بعينين مفتوحتين فى فك رموز الصور المرئية وأى أحلام. انحنيت إلى الزجاج حيث استقرت اليد المكفوفة، وتساقط الماء على الزجاج المقبب.
استرخيت فى مقعدى مرة أخرى، منتظرًا ظهور المخلوق مرة أخرى. مرت دقائق عديدة، وظل الليل ساكنًا. وفى الوقت نفسه، ظلت ثلاثة أقمار شاحبة تترائى خلال السحب، وبدأت فى رسم السماء على أوراق مذكرتى. وبينما كنت أقوم بالرسم، شعرت بمقعدى يرتجف. فككت الحزام وهرعت لإغلاق خوذتى على عنق بدلتى وبمجرد تركيبها، قمت بفك درع الكوة، ونظرت إلى الضفة فرأيت ثلاثة من ثنائيات الأرجل مختبئين بالقرب من الشجرة التى كانت السفينة مربوطة بها. لم أتمكن من تمييز ملامحهم، لكنهم كانوا طويلين ونحيفين، وكان لأحدهم أربعة أذرع، مما أعطى له مظهر حشرة كبيرة تقف على رجليها الخلفيتين. لقد بدوا وكأنهم يشيرون إلى بعضهم البعض بشكل محموم بأطرافهم رغم أنهم لم يصدروا أى صوت.
كان من الصعب أن اقوم بإعادة ربط السفينة فى الضوء الخافت، لكننى تصورت أن هذا سيكون أكثر أمانًا من الطفو فى المجهول. قررت أن أنتظر بعض الوقت حتى تختفى الكائنات ثنائية الأرجل، على أمل أن تترك السفينة دون إزعاج. ولكن بمجرد أن مددت يدى إلى فتحة الحزام على سطح سفينتى، زحف كائن ثنائى الأرجل صغير جدًا على جانب السفينة. ركعت على ركبتى واستدرت لمواجهة المخلوق الصغير ببطء شديد، مع الحرص على أن أبقى هادئا وغير مهدد له. كان يقف على قدمين، ومثل الآخرين امتلك ذيل سحلية متدلى خلفه. لم يكن أطول من ركبتى، ومن المرجح أنه لم يتجاوز وزنه العشرين كيلو، بالإضافة إلى أنه كان لديه أذرع تشبه اذرع الحشرات مثل ذلك الذى رأيته على الشاطئ، كما امتلك ثلاثة مفاصل ودروع تشبه القشريات على ساعديه. كان رأسه مدببًا وحادًا، على شكل رأس حربة، وله عينان ضيقتان متجهتان للأمام، ولكن لا توجد لديه أى سمات أخرى.
بدأ المخلوق وكأنه يضم مجموعة من الأطراف داخل تجويف الصدر، ويمزج درعه بجذعه، فبدا فجأة وكأنه يمتلك ذراعين فقط بدلاً من أربعة. وباستخدام أحد أطرافه النشطة، أظهر لى أصابعه المكفوفة مع توجيه راحة يده لأعلى، وكأنه طفل يطلب الحلوى.
قلت بصوت مكتوم من خلال خوذتى: "مرحباً".
ارتجف المخلوق، وسحب ذراعه إلى الخلف، بينما نحن نحدق فى بعضنا البعض. كانت عيناه متسعتان وهو يمد ذراعه مرة أخرى ببطء. اقتربت منه، وأنا لا أزال على ركبتى، بدا المخلوق ضعيفًا، وذراعه مازالت ممدودة. بمجرد أن أصبح فى متناول اليد، مددت ذراعى، ولكن عندما كنت على وشك ملامسته، انفجر الماء بجوار جناح المركبة، وسحبه ثنائى الأرجل الأكبر حجمًا إلى الماء.
بقيت وحدى مرة أخرى على الجناح، ولكن بعد لحظة، قفز نفس البالغ وواجهنى بذراعيه ممدودتين وعيناه ضيقتين. فى اثنتين من يديه كانت هناك شفرات خشنة بحجم ساعدى، منحوتة من نوع ما من الحجر. قاومت غريزة محاولة الوصول إلى القضيب عند قدمى، وبدلاً من ذلك، من وضع الركوع، أدرت راحة يدى إلى الأعلى ومددتها إلى الكائن ذى القدمين، تمامًا كما فعل الكائن الأصغر.
وقفت ببطء إلى لأقصى طولى، وضغطت على أسنانى تحسبًا للضربة القادمة، لكن لم يحدث شىء. وصل الرأس المدبب للمخلوق فقط إلى كتفى، وواجهت عيناه صدرى. حدق فى خوذتى بارتياب، تحول إلى فضول. غمد شفراته فى حزام مصنوع من الكروم القديمة، ثم دس أطرافه المركزية في صدره قبل أن يصل إلى أحد الأطراف العلوية لى. على الرغم من أننى لم أستطع الشعور به من خلال بدلتى، إلا أن جلد المخلوق بدا مطاطيًا وشبيهًا بالضفدع عندما وضع راحة يده على يدى. لقد تركنا أيدينا هناك، ولحظة شعرت وكأننا نتوهج فى الظلام. وعندما سحب يده، بدأ المخلوق يلوح بذراعيه وأصابعه نحوى بحركات معقدة ومدروسة. لقد ذكرنى ذلك بلغة الإشارة. كان يتحرك فى دفقات قصيرة ثم يتوقف ليرى ما إذا كنت أفهمه.
قلت وأنا أحاول أن أشرح له: "لا أستطيع أن أفهم ما تقوله"
مرة أخرى، ارتجف المخلوق، وقرب ذراعيه من جذعه.
بدلاً من التحدث مرة أخرى، قمت بحركة مبالغ فيها، وحركت أصابعى ببطء لإظهار افتقارى إلى البراعة. نظر إليّ المخلوق ذو القدمين للحظة، ثم مد يده إلى حزام السفينة وسحبه من الفتحة. وباستخدام إحدى يديه الحرتين، أظهر راحة يده المفتوحة، فى مواجهتى، ثم قبضة يده. بدا أن "نعم أو لا" كان إيقاع الحركة، لذلك أجبته بيد مفتوحة، كما لو كنت أقول "مرحبًا". على الفور، غاص فى الماء وقفز على الضفة في لحظة، المشبك في يده، ثم وجد بسرعة صندوق وتأمين الحزام. بدا الأمر وكأننى قد صنعت صديقًا.
قيل لى ذات مرة أنه قد يكون من المفيد تكوين صداقات. من الصعب عليك أن تجادل عندما يكون الشخص الذى يخبرك بذلك يداعب شعرك بينما تحتضن رأسك بين أرجلها. كان اسمها "شيرى"، كانت قصيرة وعنيدة وتضع دائما نظارات وردية اللون.
قبل أن تكتب باصابعها كلمتى "بارد" و"غير إجتماعى" على رأسى، أقنعتنى "شيرى" بأن الناس يستحقون الاهتمام.
قلت لها ذات مرة وأنا أتجول في المطبخ: "أنا اكرهنا", "أكره أن ندوس على النمل، أكره أن نخوض الحروب، أكره أن نسجن بعضنا البعض".
جلست "شيرى" عند منضدتى المصنوعة من الجرانيت، تراقبنى بعيون محبة. كنت قد وعدتها بأن أطهو الوجبة بأكملها تلك الليلة.
سألتني بهدوء: "ما الذى تبحث عنه؟"
"القرفة".
"ليس لدينا قرفة".
"نعم، لدينا قرفة".
فتحت وأغلقت درجًا آخر، وأسنانى تصطك.
"استخدم جوزة الطيب فقط".
دون أن أعترف بأنها كانت على حق، وجدت جوزة الطيب بجانب السكر، وواصلت حديثى: "يقول الناس أننا نتصرف مثل الحيوانات، لكننا نتصرف بشكل أسوأ من الحيوانات. إنهم يفعلون أشياء سيئة للبقاء على قيد الحياة. نحن نفعل أشياء سيئة من أجل المتعة".
رجشت جوزة الطيب فى وعاء خزفى صغير ممتلئ بالفعل بالدقيق والسكر. "أحيانًا أتمنى لو كنت جزءًا من نوع مختلف. سأكون حشرة إذا اضطررت إلى ذلك".
ضحكت "شيرى": "تريد أن تبدو كأنك تكره الناس، لكننى أعلم أنك لست كذلك".
استدرت بعيدًا ونظرت إليها بتشكك. "كيف عرفت ذلك؟"
"لأنك تحبنى"، وابتسمت.
ماتت "شيرى" بسبب سوء التغذية بعد عامين من انفصالنا، وغالبًا ما أتمنى لو كان الأمر أكثر إيلامًا.
لكن فى بعض الأحيان، كل ما يمكنك فعله هو تجاهل الأمر والمضى قدمًا.
بقيت مستيقظًا بقية الليل، محاولًا تعلم لغة الكائنات ثنائية الأرجل. كان من الأسهل استخدام ما كان حولنا. حاولت إتقان علامات الأشجار والنهر والماء والزهور والأعشاب الضارة، وفى النهاية بعض الكلمات المرتبطة بالحركة مثل المشى والجرى والسباحة. سجلت كل ذلك فى مذكراتى، على الرغم من أننى واجهت صعوبة قراءتها بسبب عدم كفاءتى الفنية.
حيرتنى لغتهم المعقدة، فيمكن أن تحتوى الكلمات الفردية على ما يصل إلى أربع حركات مميزة، ونظرًا لأن صوتى كان يخيفهم، لذا فقد كان لدى القليل جدًا من الوسائل للتواصل معهم فى المقابل.
لأن سكان الكوكب كانوا أكثر نشاطًا اثناء الظلام، افترضت أنهم ليليون، مما يعنى أننى سأحتاج إلى التكيف مع هذا الجدول الزمنى إذا أردت معرفة المزيد عنهم. أظلمت ما اصبحت أسميه كوخى بسحب غطاء الشمس فوق درع المركبة، لكن ضوءًا أخضرًا ومض فى وجهى من وحدة التحكم. كان مؤشر برنامج المراسلة الخاص بى. انحنيت فوق لوحة المفاتيح وكتبت أربع رسائل مختلفة قبل حذفها جميعًا. استمر المؤشر في الوميض.
كتبت: "تم اكتشاف الماء على سطح الكوكب". "لست متأكدًا من أنه صالح للسكن". "هذه هى الكلمات التى قررت استخدامها لأنها كانت صحيحة من الناحية الفنية". "سأقول المزيد عندما أكون متأكدًا".
لقد أثبت أهل الكوكب أنهم شعب خجول ومسالم. ففى الأيام القليلة الأولى، كان صديقى الأول، الذى أسميته "بولفروج"، هو الوحيد الذى اتصل بى. واستمر فى تعليمى الإشارات، وأحضر لى سمكًا نيئًا وخضروات مبللة، قمت بتخزينها فى برطمان ووضعتها فى الثلاجة فى مقصورة السفينة. وعندما تبادلنا الأسماء، قام صديقى بقبضة أفقية وقفز بها عبر صدره، مثل ضفدع. فابتسمت من خلف خوذتى وكررت الحركة. فقام "بولفروج" بالتصفيق بيديه بحماس، وكأنه يخلصهما من الماء.
كان ما زال يرتجف قليلاً عندما أتحدث، لكنه اعتاد على صوتى أكثر بكثير مما كان عليه في البداية. ثم رسمت حرف Z فى الهواء بإصبعى السبابة اليمنى - ترجمة الحرف فى لغة الإشارة الأمريكية. لقد نسيت كيفية الإشارة بحرف E.
رد الكائن على هذه الإشارة، فقلدت طريقته فى التصفيق لإظهار مدى سعادتى. لقد علمت أن سكان الجليد يظهروا كل مشاعرهم تقريبًا من خلال أيديهم، ذلك لأنهم كانوا يفتقرون إلى السمات المميزة للوجه لدى البشر، مما أضاف طبقة أخرى من التعقيد للغتهم، حيث يتم دمج المشاعر والكلمات فى حركات واحدة.
بعد أيام قليلة فقط من قيام "بولفروج" بربط سفينتى إلى الضفة، أخذ يدى ووضعها على اللحاء المضفر. ومن خلال القماش السميك لبدلتى، لم أستطع أن أشعر إلا بالقليل، لكن هذه الإشارة بدت مهمة للغاية بالنسبة له. كانت إيماءات يده خجولة، لكنها حكيمة، على الرغم من أننى لم أفهم سوى القليل مما كان يقوله. ثم سحب الحزام وكشف عن المكان الذى حفره فى الشجرة. وضعت يدى هناك، وأمسك بها لفترة أطول مما توقعت. كانت أيدى الضفدع الأربعة على وعيناه مغلقتان بشكل فضفاض.
لقد وجدنا شجرة ميتة في أسفل النهر، متجذرة جيدًا وصلبة بما فيه الكفاية لربط السفينة بها. لكننى أستشعرت من لغة جسد "بولفروج" أنه كان حزينًا. تساءلت عما إذا كان يشعر بالمسؤولية عن الضرر الذى لحق بالشجرة.
كنت قلقًا من أن أفقد الاتصال به، لكنه ظهر لى مرة أخرى فى الليلة التالية، والتى تليها، والتى تليها، وظل يتمتع بتلك الروح الفضولية.
بعد ست ليال، أكدت اختبارات نقاء الهواء التى أجرتها سفينتى أن الأكسجين كان نقيًا، وهى معلومات لم أبلغ بها الأرض.
لذلك وبينما كنا واقفين على الضفة كشفت عن وجهى لبولفروج الذى حدق فى ملامح وجهى، بينما ذراعيى ممسكتين بجذعه. وحاملا خوذتى في إحدى يدى، أخذت يدى الحرة ولمست عينى، مشيرًا إلى ما علمنى إياه "بولفروج" عندما أشار ذات مرة إلى عينيه.
حرك أصابعه المكفوفة مثل العناكب الزاحفة، دون أن يمد ذراعيه، وكانت تلك إشارة إلى عدم شعوره الارتياح. أجبته بإشارة "آسف"، وواصلنا تبادلنا الثقافى المعتاد، انه لا يزال حذراً من مظهرى. وسأكون كاذباً إذا زعمت أن رد فعله هذا لم يؤذى مشاعرى على الإطلاق.
بمرور الأيام التقيت لاحقاً بمزيد من سكان "جلاسيال": "وايتبارك"، و"جوى"، و"ريفيرتوث"، وفى النهاية "بولفروج جونيور"، الطفل الذى استقبلنى فى البداية على جناح سفينتى. وتعلمت أن اسم المسطح المائى الذى كنا نعيش عليه - النهر الكبير، وتمنيت لو كنت أمتلك اللغة لشرح كل ما اعرفه لأصدقائى الجدد.
سِرنا على طول ضفة النهر مع زهور الرجال وأشجار الألبينو المدببة. وأريتهم الجزء الداخلى من سفينتى، وكشفوا لى عن مساكنهم تحت الماء بعد ما يقرب من شهر.
كان سكان الجليد يصنعون ما يشبه الفتحات عند أدنى مستوى يستطيعونه على ضفة النهر الموحلة تحت الماء. وكانت تلك الفتحات بمثابة أبواب، فما أن يسبح المرء داخلها، سرعان ما يدخل إلى كهف مُشيَّد بعناية. وعند دخولى أول مرة، كادت خوذتى تخدش السقف وأنا أزحف من بوابة المياه. كانت الكهوف أكثر قتامة من الليل الخافت، وكان الهواء أكثر ندرة من السطح. ولهذه الأسباب، كنت أرتد بدلتى دائمًا عندما أكون تحت الأرض معهم.
أخذونى إلى ما اعتقدت أنه مركز مدينتهم، حيث كان هناك ما يقرب من عشرة من سكان الجليد، بعضهم جلس فى دوائر، والبعض الآخر يقف ويتحدث. عندما خرجت من الماء ببدلتى الفضائية تجمدوا جميعًا. كنت حريصًا على عدم استخدام أضواء الكشافات الخاصة بالخوذة أو إصدار أى أصوات، وكنت أشاهدهم فقط من خلال أجهزة استشعار الأشعة تحت الحمراء الخاصة ببدلتى.
بمجرد أن قدمنى "بولفروج" بتعبيراته الجذابة، أحاطوا بى جميعًا، وكانوا حريصين على لمس القماش والزجاج الخاصين بملابسى الفضائية. بدا العديد منهم صغارًا فى الحجم، رغم أنهم أكبر سنًا من بولفروج جونيور، ولاحظت أن هذا المكان قد يكون مدرسة أو دار رعاية من نوع ما.
كنت قد راقبت سكان الجلاسيال وهم يصطادون الأسماك البيضاء ذات الفراء. لقد جعلتهم رؤوس الأسهم وأياديهم المكسوة بالشباك وذيولهم الشبيهة بالسحالى سباحين سريعين وخطرين بشكل لا يصدق. كانو يصطادون الأسماك بأيديهم العارية، ثم يقوموا بتقطيعها داخل كهوفهم بنفس الشفرات التى هددنى بها "بولفروج" فى ليلتى الأولى.
كما أننى ساعدتهم فى جمع الخضر عند النهر، وهى عملية بطيئة ومضنية تتطلب الصبر والعين الثاقبة. كانت تتدلى من شجيرات كثيفة مورقة تنحنى مع تدفق النهر. كانت الصعوبة تكمن في العثور على الأوراق الناضجة وحصادها دون إيذاء باقى النبات.
عند تناولهم الطعام، كان سكان الجليد يأكلون باعتدال، وكان نظامهم الغذائى يتناسب مع أطرافهم النحيلة. ولاحظت أنهم غالباً ما كانوا يعاقبون الأطفال إذا تناولوا كميات كبيرة من الطعام، سواء بتوبيخهم أو تقليل كمية الطعام المقدمة. بالإضافة إلى ذلك، لاحظت أن الكبار كانوا يأكلوا دائمًا أقل من الأطفال.
بعد ثلاثة أشهر على الكوكب الجديد، كنت قد التقيت تقريبًا بمجتمع سكان الجليد بأكمله فى نهر بيج ريفر، أو للدقة قسم نهر بيج ريفر الذي صادفته. ثم تلقيت رسالة من الأرض.
لقد تم تأسيس الاتصال بحلول ذلك الوقت، لذلك تم تسريع الرسائل ومشاركتها بشكل أسرع نتيجة لذلك.
كان نص الرسالة كالتالى:
"أنت أحد الكواكب الثلاثة التى تم اكتشافها والتى تحتوى على الماء. مصير الإنسانية بين يديك".
بعد فترة وجيزة، وصلتنى رسالة أخرى: عاجل "يرجى الإبلاغ عن احتمالية وجود حياة مستدامة على كوكب جلاسياليس".
لم أرَ الرسائل إلا بعد شروق الشمس ونوم سكان كوكب جلاسياليس. لم يكن إيقاعى اليومى متزامناً بعد مع الأيام والليالى القصيرة، لذا شعرت وكأننى نصف مستيقظ وأنا أكتب الرد.
غفوت قبل إرساله، وعندما استيقظت، شعرت وكأن شبحًا هو من كتب الكلمات.
كانت رسالتى تقول:
"احتمال البقاء على قيد الحياة: هو فقط 1% — الحياة غير مستدامة. كنت اتمنى أن أحمل اخبارا أفضل.
لم أرسل الرسالة الى الأرض بعد.
وتساءلت وانا شبه محموم، هل يمكننى الحصول على القوة اللازمة للضغط على زر الحذف كى تختفى تلك الرسالة الى الأبد.
كنت آمل أن تكون تلك اللحظات مجرد ذكرى أو حلم يتبدد بعد الاستيقاظ، لكنى لم أتمكن حتى من أن المس وحدة التحكم.
تساءلت .... ألم تكن مهمة الأنبياء هى فقط القيام بتحذير شعوبهم.
أتخيل أنهم لابد قد عاشوا حياة معذبة، وهم يدركون الدمار الالهى القادم لقومهم، بينما هم عاجزون تمامًا عن فعل أى شىء.
أتساءل عما إذا كان باستطاعهم وقف ذلك الدمار لو استطاعوا، حتى لو عاشت شعوبهم فى الخطايا.
أتساءل عما إذا كانوا ليتركوا شعوبهم عرضة للفناء من أجل إنقاذ شعب أفضل - شعب يحترم الله.
أعتقد أننا اخترعنا ذلك كله حتى لا نضطر أبدًا إلى اتخاذ مثل هذه القرارات.
ومع ذلك، ظل ذلك الضوء الاخضر يومض على لوحة التحكم الخاصة بى.
حدثت نفسى بأنه كان من الممكن تعيين شخص آخر للقيام بتلك الرحلة، ولكن تم تعيينى أنا.
قلت لنفسى ألم يكن من الأفضل لو كان لدى شريك اخر على السفينة لنتحدث عما يجب فعله.
وعلى الرغم من أننى لم أؤمن بالقدر أبدًا، إلا أننى شعرت فجأة وكأن شعاعًا مقدسًا من الضوء قد اجتاحنى، وكأن أيادى أخرى هى من يأمر لوحة التحكم تلك.
جلست لفترة اعتبرتها طويلة جدًا بالنظر إلى السهولة التى تم بها اتخاذ القرار.
ثم ضغطت على زر الإدخال.
تعليقات