كليوباترا ومارك أنطونيو - الثنائى الاسطورى
لم تكن تلك العلاقة المثيرة للجدل بين ملكة مصر وهذا القائد الرومانى تدور حول الحب الإيروتيكى فقط. فقد ساهمت المصالح السياسية المشتركة ايضاً فى ضمان بقاء تحالفهما قويًا حتى النهاية المريرة.
عن خافيير نيجريتى
"كليوباترا" و"مارك أنطونيو": هذان الاسمان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بواحدة من أشهر (أو أخطر) قصص الحب فى التاريخ، وهى علاقة أدت إلى كارثة عسكرية فى معركة "أكتيوم"، تلاها وفاة العاشقين.
لكن الثنائى لم يكونا مجرد حبيبين رومانسيين سيئى الحظ؛ بل كانا لاعبين رئيسيين، وضحايا، للقوى السياسية فى عصرهما.
على الرغم من أن "أنطونيو" و"كليوباترا" كانا قد التقيا من قبل – عندما كانت حبيبة "يوليوس قيصر" (وأم ابنه) وكان "أنطونيو" جنراله الأيمن – إلا أن علاقتهما الرومانسية بدأت بعد معركة "فيليبى" (42 قبل الميلاد)، حين هزم "مارك أنطونيو" و"أوكتافيوس" قاتلى "قيصر"، "بروتوس" و"كاسيوس".
كان "أوكتافيوس" و"أنطونيو" قد أُجبرا على التحالف بشكل غير مريح أثناء تنافسهما على الإرث السياسى لقيصر. وقسما البحر الأبيض المتوسط إلى قسمين:
أدار "أوكتافيوس" إيطاليا والأراضى الغربية الأخرى فى ما يعرف الآن بأوروبا، بينما كان "أنطونيو" مسؤولًا عن إعادة تنظيم الأقاليم الشرقية للجمهورية الرومانية.
كانت عدة ممالك تابعة فى المنطقة الشرقية تعتمد على روما. وكانت أهمها، من حيث المكانة والسكان والثروة، هى "مصر"، التى حكمتها "كليوباترا السابعة". كانت "كليوباترا" قد تولت قيادة البلاد قبل بضع سنوات بعد التخلص من شقيقها، "بطليموس"، بمساعدة "يوليوس قيصر".
وبدلًا من ان يقوم بزيارة "كليوباترا" فى مصر، استدعاها "أنطونيو" إلى مدينة "طرسوس" فى الأناضول عام 41 قبل الميلاد. وقد حضرت بموكب مهيب، وعلى الرغم من أن "أنطونيو" كان متزوجًا من امرأة تُدعى "فلفيا"، إلا أنه و"كليوباترا" سرعان ما أصبحا عاشقين.
توفيت "فلفيا" بعد فترة وجيزة من عودة "أنطونيو" من "مصر"، وأنجبت "كليوباترا" توأمين لأنطونيو – لكن ذلك لم يمنعه من عقد زواج مفيد سياسيًا من "أوكتافيا"، أخت شريكه فى حكم روما، "أوكتافيوس".
مع ذلك، وبعد فترات من الانفصال، ظلت مصائر الجنرال الرومانى والملكة المصرية متشابكة حتى وفاتهما المأساوية فى "الإسكندرية" عام 30 قبل الميلاد، بعد معركة "أكتيوم".
رجل ذكى، وخيارات حمقاء؟:
كان "أنطونيو" رجلًا يتميز بقدر هائل من الشغف، فلم يكن مغرمًا فقط بالتمارين البدنية ولكن أيضًا بالحفلات والنساء.
كان أقرانه غالبًا ما يعترضون على اختياراته العاطفية. فقد اعتُبرت الممثلة "سيثيريس" مفسدة؛ بينما قيل إن "فلفيا"، الزوجة الشرعية الأولى لأنطونيو وأم اثنين من أطفاله، كانت ذات طموح سياسى مفرط.
وعندما انهارت العلاقة بين "أنطونيو" و"أوكتافيوس" تمامًا، ادعى منتقدو "أنطونيو" أنه قد وقع فى شباك امرأة طموحة أخرى، ووصفوها بكليوباترا الخائنة.
فى مثل هذا المجتمع اليونانى الرومانى الذى يهيمن عليه الذكور، كان من المستحيل تقريبًا أن يتعامل قائد إمبراطورى مثل "أنطونيو" على قدم المساواة مع امرأة أجنبية. لذلك ادعى منتقديه بأن "كليوباترا"، الخبيرة فى علم النباتات وعلم الأدوية، لا بد أنها قد سحرته.
كتب "بلوتارخ" عن "أنطونيو": "لم يكن متحكماً فى حواسه، لقد كان يبدو وكأنه تحت تأثير بعض العقاقير أو الطقوس السحرية، إنه ينظر إليها دائمًا بشغف وهيام، ودائما ما يفكر فى عودته السريعة إليها، بدلًا من التفكير فى هزيمة العدو."
وصف منتقدو الثنائى العاشق، "كليوباترا" بأنها امرأة قاتلة (فيم فاتال) تلجأ إلى إغراءات ماكرة لإبقاء "أنطونيو" محاصرًا. ووصفها الشاعر "هوراس" فى إحدى قصائده بأنها "فاتالى مونستروم" (الوحش الملعون).
كما كتب "بلوتارخ" أنه عندما اشتبهت "كليوباترا" فى أن "أنطونيو" قد يعود إلى روما وإلى زوجته "أوكتافيا"، "تظاهرت بأنها تعشق "أنطونيو" بحماس، وقامت بخفض وزنها باتباع نظام غذائى قاسٍ؛ بحيث كانت تبدو فى حالة نشوة عندما يقترب "أنطونيو"، وحالة من الوهن والكآبة عندما يغادر."
السياسة والعاطفة:
في عام 36 قبل الميلاد، شن "أنطونيو" حملة عسكرية ضد البارثيين، الذين كانوا يسيطرون على إمبراطورية شاسعة فى ما يعرف الآن بإيران والعراق. وعندما فشلت الحملة، ادعى منتقدو أنطونيو أن ذلك حدث لأنه تسرع فى العمليات العسكرية، لمجرد أن يعود إلى "كليوباترا" فى أسرع وقت ممكن.
كما تم إلقاء اللوم على "كليوباترا" لتسببها في هروب "أنطونيو" المخزى خلال معركة "أكتيوم" (31 قبل الميلاد)، وهى الذروة فى صراع دام عقدًا من الزمن بين "أنطونيو" و"أوكتافيوس" حول من سيحكم الجمهورية الرومانية.
فقد تخلى عن الجزء الأكبر من أسطوله، الذي كان يقاتل ضد "أوكتافيوس"، وتبع بدلًا من ذلك السفن المصرية التى كانت تحمل "كليوباترا".
كتب "بلوتارخ": "ما إن رأى سفينتها تبحر بعيدًا حتى نسى كل شىء آخر، وهرب فى خيانة لأولئك الذين كانوا يقاتلون ويموتون من أجل قضيته، وصعد إلى سفينة بخمسة مجاديف... وأسرع ليلحق بالمرأة التى كانت قد دمرته بالفعل والتى سوف تجعل من دماره اسطورة"
هل كان المؤرخون القدامى محقين فى اعتبار "كليوباترا" ساحرة ماكرة قادت "أنطونيو" إلى التخلى عن قيمه الرومانية وخيانة أبناء وطنه فى سعيه لجعل "الإسكندرية" العاصمة الجديدة للإمبراطورية؟
أم انه كانت هناك دوافع عقلانية وراء قرار "أنطونيو" بالوقوف إلى جانب "كليوباترا" ومملكتها؟
بالتأكيد كانت هناك رابطة قوية بينهما. لقد كانت "كليوباترا" امرأة جذابة للغاية، ذكية ومثقفة، وتتحدث عدة لغات. وعندما بدأت علاقتها مع "أنطونيو"، كانت تبلغ من العمر 28 عامًا، ووفقًا لبلوتارخ، "كانت فى الوقت الذى تكون فيه النساء فى ذروة الجمال والإشراق الفكرى."
كتب "فيلوستراطوس الأثينى" فى القرن الثالث الميلادى عن فيلسوف آخر يُدعى "فيلوستراطوس" (المصرى)، الذى درس مع كليوباترا ونتيجة لذلك، "تبنى أسلوبًا خطابيًا مليئًا بالمديح والزخرفة؛ وهو ما نتج عن ارتباطه بامرأة كانت تعتبر حتى حب الأدب متعة حسية."
لُقبت "كليوباترا" بأنها فاسقة من قبل خصومها، رغم ان "يوليوس قيصر" و"مارك أنطونيو" كانا هما فقط العاشقين الوحيدين اللذين سجلتهما التاريخ. كان "يوليوس قيصر" رجلًا ذو أذواق راقية واهتمامات أدبية، بينما كان "أنطونيو" شخصية أكثر اندفاعًا.
كتب "بلوتارخ": "لاحظت كليوباترا ان أنطونيو يمتلك الكثير من صفات الجندى والرجل العادى، فقررت تبنى هذا الأسلوب، فتعاملت معه بجرأة ودون قيود." ويُقال إن الملكة كانت تلعب معه النرد، وتصطاد بجانبه.
تحالف استراتيجى:
كحاكمين وكأفراد، كان لأنطونيو وكليوباترا الكثير من القواسم المشتركة. لكن كان لهذا القائد الرومانى الثلاثى (تريومفير) أيضًا أسباب سياسية وعسكرية للتحالف مع الملكة المصرية. فقد امتلك كلاهما صفات رجلَ الدولة، وكانا معتادين على الطبيعة القاسية للسياسة وكان كل منهما مستعد للعمل خلف ظهر الآخر إذا كان ذلك فى مصلحتهما الخاصة.
تشير بعض المصادر إلى أن "كليوباترا" و"أنطونيو" تزوجا فى مراسم مصرية في "أنطاكية" عام 37 قبل الميلاد، على الرغم من أن زواجهما لم يكن معترفًا به قانونيًا في روما، حيث كان "أنطونيو" لا يزال متزوجًا من "أوكتافيا". كزوج لكليوباترا، ضمن "أنطونيو" سيطرته على "مصر"، وهى أرض غنية بالموارد الطبيعية وكانت تحتل مكانة كبيرة فى مخيلة الرومان.
فبفضل فيضانات نهر النيل السنوية التى كانت تُروى أراضيها، أنتجت "مصر" فائضًا من القمح، الذى كان ضروريًا لروما بينما كانت تكافح لإطعام عدد سكانها المتزايد باستمرار.
تقاسم الثروة:
كانت "مصر" أيضًا ذات فائدة كبيرة من حيث التجارة؛ فقد كانت "مصر" البوابة الرئيسية لطرق التجارة عبر المحيط الهندى. كان حجم البضائع التى تمر عبر "مصر" فى ازدياد بالفعل فى عهد "أنطونيو"، وأصبحت أكثر أهمية فى العقود التى تلت ذلك.
بعد بضع سنوات من هزيمة "أوكتافيوس" ل"كليوباترا" و"مارك أنطونيو" فى "أكتيوم" وضم "مصر"، اصبحت أكثر من 120 سفينة تعمل على الطرق التى تربط "مصر" بالمحيط الهندى.
يشير الجغرافى اليونانى "سترابو" إلى التجار الذين، فى الوقت الذى كان يكتب فيه، "يُبحرون من "مصر" عبر النيل والخليج العربى إلى الهند." وكانوا يعودون من هناك بالتوابل والبخور والحرير الفاخر والأحجار الكريمة لتلبية طلبات الأثرياء الرومان. لو انتصر "أنطونيو" فى "أكتيوم"، لكان السيطرة على هذا الطريق التجارى قد جعله ثريًا بشكل هائل.
كما ان"مصر" هى عنصر استقرار هائل فى الشرق، وكانت قاعدة يمكن لأنطونيو أن يحوز من خلالها السيطرة على شرق البحر الأبيض المتوسط بأكمله.
وعلى الرغم من براعة جيوش روما، لا ينبغى التقليل من مساهمة "مصر" العسكرية. فعندما شن "أنطونيو" حملة ضد الإمبراطورية البارثية عام 36 قبل الميلاد، والتى انتهت بكارثة، ساهمت "كليوباترا" فيها بالإمدادات والمعدات العسكرية والمال.
الصراع ضد أوكتافيوس:
تعرض "أنطونيو" لانتقادات فى روما لتقديمه تنازلات إقليمية لكليوباترا، حيث منحها أراضى فى خطوة اعتبرها أعداؤه خيانة.
فى الواقع، كان قد أهداها بحنكة منطقة "كيليكيا تراخيا"، الجزء الغربى من مقاطعة أناضولية، بالإضافة إلى بعض مناطق "فينيقيا" وجزيرة "قبرص" – وهى جميعها أراضى اشتهرت بإنتاج الأخشاب، التي كانت ضرورية لبناء السفن الحربية التى كان "أنطونيو" يخطط لتعزيز سلطته فى شرق البحر الأبيض المتوسط من خلالها.
فى المقابل، توقع "أنطونيو" من "كليوباترا" إدارة هذه الأراضى بكفاءة واستخدام مواردها لدعمه فى المواجهة العسكرية ضد "أوكتافيوس"، التى كان الجميع يعلم أنها قادمة.
فى عام 32 قبل الميلاد، شن "أوكتافيوس" سلسلة من الهجمات السياسية لتقليب الرأى العام ضد "أنطونيو" – الذى كان قد طلق "أوكتافيا" بحلول ذلك الوقت.
وبحلول أواخر عام 32 قبل الميلاد، غادر أكثر من 200 عضو من مجلس الشيوخ روما إلى مقر "أنطونيو" فى الإسكندرية.
وبشكل غير رسمى، أعلن "أوكتافيوس" الحرب ضد "أنطونيو". ولانه كان يؤمن ان الرومان لن ينقلبوا على "انطونيو"، أظهر أنه يقف ضد "كليوباترا"، لدورها كـ"مغوية أجنبية".
عندما حان وقت مواجهة "أوكتافيوس"، كانت مشاركة "كليوباترا" حاسمة. فقد تألف الأسطول المصرى، الذى كانت تقوده بنفسها، من 200 سفينة. كما ساهمت بالمواد الغذائية والإمدادات و20,000 "تالنت" من الخزينة الملكية.
إلا أن ذلك كله لم يُجدِ نفعًا فى معركة "أكتيوم"، وعندما تبعهم "أوكتافيوس" إلى "الإسكندرية"، استخدم "أنطونيو" سيفه لإنهاء حياته. بينما انتحرت "كليوباترا" بعد ذلك بفترة قصيرة – وفقًا للأسطورة، عن طريق السماح لأفعى سامة بأن تلدغها.
على الرغم من أن علاقة أنطونيو بكليوباترا انتهت بالموت، إلا أنها كانت أكثر من مجرد هوس عاطفى مشبوب؛ فقد كانت هناك حسابات سياسية وعسكرية وراءها.
أدت تلك الهزيمة أمام "أوكتافيوس" إلى تخليد الثنائى كشخصيات مأساوية ومثيرة.
لو كانوا هم الذين انتصروا، وكان مؤيدوهم هم الذين كتبوا كتب التاريخ، لربما كانوا قد رووا قصة مختلفة عن واحدة من أشهر الثنائيات فى العالم فى التاريخ.
المؤرخ خافيير نيجريتى يكتب بشكل موسع عن التاريخ والأساطير اليونانية الكلاسيكية.■
تعليقات