فلسفة "ابن عربى": وحدة الوجود، والكمال، والخلق المتجدد
محيى الدين محمد بن على الطائى الحاتمى، المعروف ب "إبن عربى"، هو أحد أبرز المتصوفين والفلاسفة والمتكلمين فى التاريخ الإسلامى. ولد فى الأندلس فى القرن الثانى عشر الميلادى، وتوفى فى دمشق فى القرن الثالث عشر، ولقب ب "الشيخ الأكبر ".
ترك "ابن عربى" إرثاً فكرياً ضخماً يتجاوز 300 مؤلف، من أشهرها "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم".
جمع بين التصوف والفلسفة، مُشكِّلًا رؤية كونية تجمع بين الوحدة المطلقة للوجود والتنوع اللامتناهى للخلق.
وحدة الوجود:
تعتبر نظرية "وحدة الوجود" من أهم أفكار "ابن عربى"، وهى تعنى أن الوجود الحقيقى هو وجود واحد، وهو الله. فكل ما فى الكون هو تجليات لأسماء الله وصفاته.
وتعد نظرية "وحدة الوجود" هى حجر الزاوية فى فلسفتة، حيث يرى "ابن عربى" أن الوجود هو واحد فى الحقيقة، وهو وجود الله تعالى. أما المخلوقات فهى تجليات وظهورات لهذا الوجود الإلهى، وليست منفصلة عنه انفصالاً تاماً.
يقول "ابن عربى":
"ما فى الوجود سوى الله"
"الخلق حق والحق خلق"
هذا لا يعنى أن "ابن عربى" يدعو إلى الحلول أو الاتحاد كما اتهمه بعض خصومه، بل يؤكد على التمييز بين الخالق والمخلوق. فالعالم عنده هو مظهر من مظاهر الله وتجلٍ من تجلياته، وليس هو الله ذاته.
يشبه "ابن عربى" العلاقة بين الله والعالم بالعلاقة بين المرآة والصورة المنعكسة فيها - فالصورة ليست المرآة ذاتها، لكنها لا توجد بدونها. وهنا يُميِّز "ابن عربى" بين "الوجود المطلق" (الله) و"الوجود المقيَّد" (المخلوقات)، مؤكدًا أن الخلق عملية مستمرة من "التجلى"، حيث يَظهر الله فى صور الوجود المتنوعة.
الصفات الإلهية:
ترتبط فكرة وحدة الوجود عند "ابن عربى" ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الصفات الإلهية. فالله يتجلى فى العالم من خلال أسمائه وصفاته، والمخلوقات هى مظاهر لهذا.
يقول :ابن عربى" إن العالم خُلق على صورة الأسماء والصفات الإلهية، وكل مخلوق يُظهر اسماً أو صفة من صفات الله.
لذلك، فإن دراسة العالم تؤدى إلى معرفة الله، لأن العالم هو "كتاب" يمكن قراءته لمعرفة الخالق.
وبالمثل، فإن معرفة النفس تؤدى إلى معرفة الله، كما فى الحديث الذى يستشهد به "ابن عربى" كثيراً: "من عرف نفسه عرف ربه".
الإنسان الكامل:
فى كتابه "فصوص الحكم"، يطرح "ابن عربى" مفهوم "الإنسان الكامل" كخليفة الله فى الأرض، وهو النموذج الأكمل لوعى الوحدة.
الإنسان الكامل ليس فردًا معينًا، بل حالة وجودية تُجسِّد التوازن بين الحق (الله) والخلق. يستطيع الإنسان عبر السير الروحى، أن يدرك أنه "عالم صغير" يعكس "العالم الكبير"، فيصبح وسيطًا بين السماء والأرض.
يعتبر الإنسان الكامل هو الهدف الأسمى للخلق، وهو الإنسان الذى وصل إلى أعلى درجات المعرفة والعرفان، والذى تجلت فيه أسماء الله وصفاته بشكل كامل.
الإنسان الكامل هو الذى يتحقق به جميع الأسماء والصفات الإلهية، ويكون مرآة كاملة للتجلى الإلهى.
وأكمل مثال للإنسان الكامل هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الأنبياء والأولياء.
يرى "ابن عربى" أن الإنسان الكامل هو البرزخ الجامع بين الحق والخلق، بين عالم الغيب وعالم الشهادة. وهو الواسطة التى بها يُعرف الله ويُعبد. وليس معنى الكمال هنا العصمة من الخطأ، بل الجمع بين المعرفة النظرية والسلوك العملى والتحقق بالأخلاق الإلهية.
الدين قلب يتسع لكل الصور:
عُرف "ابن عربى" بقوله الشهير:
"لقد صار قلبى قابِلًا كُلَّ صورةٍ ... فَمَرْعًى لِظِباءٍ وَدَيْرٌ لِرُهْبَانِ"
تنظر رؤيته التعددية تلك إلى الأديان باعتبارها طرق مختلفة لتجلى الحقيقة الواحدة، مما جعله رمزًا للحوار بين الأديان.
أثارت هذه الأفكار جدلًا، حيث انتقده بعض الفقهاء كابن تيمية، بينما رأى فيه الصوفية مصدر إلهام.
الخيال والتجلى:
يولى "ابن عربى" فى فلسفته أهمية كبيرة لمفهوم "الخيال". فالخيال عنده ليس مجرد قوة نفسية، بل هو عالم وسيط بين عالم المعانى المجردة وعالم المحسوسات. والخيال هو المجال الذى تتجلى فيه الحقائق الروحية بصور حسية يمكن إدراكها.
يميز "ابن عربى" بين نوعين من التجلى: التجلى الذاتى والتجلى الصفاتى أو الأسمائى.
التجلى الذاتى لا يمكن إدراكه، أما التجلى الصفاتى فيمكن إدراكه من خلال مظاهره فى العالم.
المعرفة والكشف:
يرى "ابن عربى" أن المعرفة الحقيقية لا تأتى عن طريق العقل وحده، بل عن طريق "الكشف" أو الإلهام الإلهى. فالعقل محدود وقاصر عن إدراك الحقائق العليا، خاصة فيما يتعلق بالله وصفاته.
لذلك يميز "ابن عربى" بين ثلاثة مستويات من المعرفة:
- المعرفة العقلية التى تعتمد على الاستدلال.
- المعرفة التى تأتى من التجربة الروحية.
- ومعرفة الحقيقة التى تأتى من الكشف الإلهى.
ويعتبر هذا المستوى الثالث هو أعلى درجات المعرفة، ويختص به الأنبياء والأولياء.
لقد كان لابن عربى تأثير كبير على الفكر الإسلامى والعالمى، ولا يزال تأثيره واضحاً حتى يومنا هذا.
وقد تأثر به العديد من المتصوفين والفلاسفة، مثل "جلال الدين الرومى".
وامتد تأثير "ابن عربى" إلى ما وراء العالم الإسلامى، فقد أثرت أفكاره فى الفلسفة الغربية من خلال ترجمة بعض كتبه إلى اللاتينية والإسبانية.
ويرى بعض الباحثين المعاصرين أوجه تشابه بين فلسفة "ابن عربى" وبعض التيارات الفلسفية الحديثة مثل الظاهراتية والوجودية.
يمكن القول أن فلسفة "ابن عربى" هى فلسفة عميقة وشاملة، وتتناول مجموعة متنوعة من المواضيع. وتتميز فلسفته بالتركيز على وحدة الوجود، والعشق الإلهى، والإنسان الكامل، والخيال، ولا يزال تأثيره واضحاً حتى يومنا هذا.
حازم فرجانى
من كتاباته:
![]() |
تعليقات