غرائب الفضاء

تحدثنا "جورجينا توربيت" هنا عن منطقة محظورة فوق الكرة الأرضية تدخلها المركبات الفضائية على مسؤوليتها الخاصة. إنها منطقة قاتلة للآلات، ولكنها ضرورية أيضًا للطريقة التى تعمل بها الأقمار الصناعية. 


مرحبًا بكم فى مثلث برمودا الفضائى.

على ارتفاع حوالي ٤٨٠ كيلومترًا فوق سطح الأرض، فوق البرازيل تقريبًا، يوجد شيء غريب. بقعة تتعطل عندها الأقمار الصناعية، ولا يستطيع تلسكوب هابل الفضائى جمع بياناته، وحتى رواد الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية لا يستطيعون السير فى الفضاء. 

إنه مكان لا يمكنكم رؤيته، لكنه موجود. ويُلقب بمثلث برمودا الفضائى.

تُعرف هذه الظاهرة رسميًا باسم "شذوذ جنوب الأطلسى"، أو (SAA)، ويرجع هذا السلوك الغريب فى هذه المنطقة إلى خدش فى المجال المغناطيسى للأرض.

يساعد المجال المغناطيسى للكوكب فى حمايتنا من الإشعاعات، إلا  أنه يكون أضعف كثيرًا فى هذه المنطقة - مما يعنى التعرض للمزيد من الجسيمات الخطيرة.

تقول الدكتورة "آشلى جريلى"، عالمة الفيزياء الشمسية فى وكالة ناسا: 

"تكون هذه الجسيمات المشحونة فى هذه المنطقة أقرب ما يكون إلى سطح الأرض مقارنة بأى مكان آخر".

ويمكن أن تظل هذه الجسيمات محصورة داخل بعض الفجوات هناك لسنوات، مما يتسبب فى فوضى. 

وإذا ضرب بروتون نشط إلكترونيات حساسة، فقد يتسبب ذلك فى مشكلة مؤقتة، كفقدان لبيانات أو انقلاب، أو خسارة دائمة، ذلك أن المكون الإلكترونى يتوقف عن العمل تمامًا. أو يمكن أن تتراكم الجسيمات المشحونة على سطح المركبة الفضائية وتتسبب فى شحن المركبة الفضائية، مما قد يؤدى بدوره إلى إتلاف المكونات الإلكترونية".

لذلك تحرص وكالات الفضاء وأيضاً الشركات الخاصة على إيقاف تشغيل أقمارها الصناعية إذا كانت ستمر عبر هذه المنطقة، كما تحرص على عدم جدولة أى مسار لها هناك. 

ورغم أنه لا يمكنا التحكم فى هذه المنطقة الشاذة، فإننا فى حاجة إلى متابعتها لأنها متحركة وليست ثابتة.

حفرة فى الفضاء:  

منطقة جنوب الأطلسى الشاذة (SAA) هذه، هى نقطة ضعف فى "أحزمة فان ألين"، وهى الأحزمة الإشعاعية الواقية المحيطة بخط استواء الأرض والمثبتة بواسطة مجالها المغناطيسى. 

هذان الحزمان، اللذان يشبهان شكل الكعكة (واحد داخل والآخر خارجى)، يقعان على بعد مئات الأميال فوق سطح الأرض ومليئان بجزيئات نشطة يمكنها أن تظل محاصرة هناك، وهى تتحرك بسرعات عالية، عبر آلاف السنين.  

لكنها ليست متناظرة، وفى تلك المناطق التى يكون فيها المجال أضعف ما يمكن، تقترب الجزيئات أكثر من الأرض. 

هذه الإلكترونات (فى الحزام الداخلى) والبروتونات (في الحزام الخارجى) يمكن أن تقترب حتى مسافة 200 كيلومتر من سطح الأرض – مما يضعها مباشرة فى المدار المنخفض للكوكب، حيث توجد العديد من الأقمار الصناعية ومحطة الفضاء الدولية (ISS).

قد يبدو من كل ذلك أن منطقة جنوب الأطلسى الشاذة (SAA) هى مصدر إزعاج كبير، إلا إنها فى الواقع هامة للحفاظ على سلامة الفضاء المحيط بنا وحمايتنا من الإشعاع.  

يشرح البروفيسور "يورى شبرتس"، الخبير فى طقس الفضاء من المركز الألمانى لعلوم الأرض ذلك: "إذا لم تكن هناك منطقة جنوب الأطلسى الشاذة تلك، لأصبح هناك إشعاع بالغ الخطورة يقع مباشرة فوق الغلاف الجوى."  

وهكذا فإن منطقة جنوب الأطلسى الشاذة تعمل مثل بالوعة، تجذب هذه الجزيئات النشطة وتحافظ على بقية المدار خاليًا منها. 

هذه المنطقة خطيرة فى حد ذاتها، لكنها فى نفس الوقت تجعل البيئة الأوسع أكثر أمانًا.


الأمر كله يتعلق بباطن الأرض:  

على الرغم من أن تأثيرات ذلك الشذوذ تحدث فى الفضاء البعيد، فإن السبب وراءها يكمن فى أعماق باطن الأرض، حيث تصل درجات الحرارة إلى آلاف الدرجات. 

إنها طبقة من الحديد والنيكل السائل بسمك حوالي 2,253 كيلومترًا تشكل اللب الخارجى، ومع تدفق هذا المعدن السائل، يتولد المجال المغناطيسى للكوكب.  

تقول الباحثة فى المغناطيسية الأرضية الدكتورة "مونيكا كورت": "هذا المعدن السائل يتحرك بسبب الحمل الحرارى – نفس السبب الذي يجعل الهواء الساخن يرتفع. 

فالمواد الساخنة ترتفع لأعلى والمواد الأكثر برودة تغوص. ثم يصبح هذا الحراك الحمل/حرارى أكثر اضطرابًا ويختلط بفعل قوة دوران الأرض." 

هذه الحركة الالتوائية والحمل/حرارية للمعدن السائل تُنشئ نوعًا من الدينامو، مما ينتج عنه مجالًا مغناطيسيًا هائلًا يمتد إلى ما بعد الكوكب. 

هذا المجال ليس متجانسًا تمامًا، ويبدو أن شيء ما فى هذه العمليات الجارية داخل أعماق الأرض تخلق منطقة جنوب الأطلسى الشاذة (SAA).

بينما يُعتبر المجال المغناطيسى للأرض بشكل عام مجالًا ثنائى القطب – حيث يوجد قطب مغناطيسى قرب القطب الشمالى وآخر قرب القطب الجنوبى – إلا أن هذا المجال ليس موحدًا، حيث توجد مناطق يختلف فيها المجال.  

تقول "كورت": "نلاحظ فى منطقة جنوب الأطلسى الشاذة (SAA)، وجود بقع فى بعض المناطق حيث يكون التدفق المغناطيسى ذو إشارة معاكسة مقارنة باتجاه القطب الرئيسى.

" توجد إحدى هذه البقع ذات التدفق العكسى عند الحد الفاصل بين اللب والوشاح تحت منطقة جنوب الأطلسى الشاذة، وتظهر أيضاً بقعًا مشابهة فى أماكن أخرى، بالقرب من القطب المغناطيسى الشمالى. ومع ذلك، ما يزال الباحثون يحاولون فهم ماهية ارتباط هذه البقع بمنطقة جنوب الأطلسى الشاذة.


شذوذ فى الحركة:  

ما يجعل منطقة جنوب الأطلسى الشاذة (SAA) غريبة حقًا هو حقيقة أنها ليست فقط فى حالة نمو، بل وفى حالة حركة أيضاً.  

يقول البروفيسور "ريكاردو ترينداد"، الباحث فى تاريخ منطقة جنوب الأطلسى الشاذة: "إنها تتحرك بسرعة. نحن نرى اختلافًا كل خمس سنوات. لقد تغيرت بشكلٍ كبير على مدى قرون." 

من اجل العودة لتاريخها، يبحث العلماء عن الصواعد فى الكهوف. هذه الترسبات المعدنية التى تتشكل على مدى قرون من خلال تساقط المياه من الأعلى وتراكمها على أرضية الكهوف. وعن طريق تقطيعها إلى شرائح وفحصها باستخدام مقياس المغناطيسية، يمكن للخبراء تتبع تاريخ المجال المغناطيسى للأرض. شئ مشابه للنظر إلى حلقات الشجرة لتحديد عمرها.  

أظهر هذا النوع من البحث أن منطقة جنوب الأطلسى الشاذة ليست ظاهرة جديدة، بل ويمكن تتبعها إلى ما قبل 11 مليون سنة. 

لكنه أظهر أيضًا أن هذا الشذوذ تحرك مع مرور الوقت، وأنه لم يبدأ أصلاً فوق جنوب المحيط الأطلسى.

يقول "ترينداد": "وُلد هذا الشذوذ بشكلٍ أو بآخر فى غرب إفريقيا، وتحديدا ناميبيا."

بدأ صغيرًا حوالى عام 1500، لكنه استمر بعد ذلك فى النمو والتحرك نحو الغرب. "ثم فى بداية القرن العشرين، كان بالفعل قريبًا جدًا من أمريكا الجنوبية."  

موقع الشذوذ وحركته ليسا عشوائيين، بل يبدو أنهما مرتبطان بطريقة تكوينه داخل باطن الأرض. 

الحد الفاصل بين اللب الخارجى، الذي يتكون من معدن سائل، والوشاح، الذى يتكون من صخور صلبة، يعنى وجود فرق كبير فى الحركة وتوصيل الحرارة بين الطبقتين. ويبدو أن هناك علاقة ما بين الاختلافات فى الوشاح تحت إفريقيا وتكوين الشذوذ. 

يقول "ترينداد": "نعتقد أن الأمر مرتبط بتكتونية الصفائح. فإفريقيا لا يوجد حولها صفائح تندس تحتها." ونظرًا لعدم وجود حواف صفائح قريبة، لا توجد طريقة لانتقال المواد الأكثر برودة إلى أعماق الأرض، لذلك تظل هذه المنطقة من الحد الفاصل بين اللب والوشاح ساخنة.

لكن الصورة فى أمريكا الجنوبية، مختلفة تمامًا. فهناك، تحمل صفيحة "نازكا" المواد من السطح مباشرة إلى الحد الفاصل بين اللب والوشاح، مما يجعل هذا الحد أكثر برودة.  

هذا الاختلاف في درجة الحرارة قد يكون سببًا لتكوين ذلك الشذوذ، وقد يفسر كيفية وسبب تحركه مع مرور الوقت. كما يبدو أن هذه الظاهرة ليست حدثًا يحدث لمرة واحدة، بل انها شيء يتكرر باستمرار.  

يقول "ترينداد": "[عند النظر إلى السجل التاريخى]  يمكننا ملاحظة أنه فى كل مرة يولد فيها شذوذ فى إفريقيا، يصل نفس الشذوذ إلى أمريكا الجنوبية بعد ٢٥٠ عامًا.

يولد الشذوذ فى إفريقيا بسبب هذا الاختلاف فى الوشاح، ثم ينتقل إلى أمريكا الجنوبية. بعد ذلك، وبطريقة ما، يظهر شذوذ جديد فى إفريقيا ويختفى الشذوذ فى أمريكا الجنوبية."

وإذا كان هذا صحيحًا، فيجب أن يكون عمر هذه الشذوذ ملايين السنين، بحيث يأتى ويذهب بمرور الزمان فى دورة لا نهاية لها.


انعكاس دراماتيكى: 

نظرًا للطبيعة الدورية لهذه الظاهرة، تساءل البعض عما إذا كانت مرتبطة بدورة أخرى للمجال المغناطيسى للأرض، حيث تنعكس الأقطاب المغناطيسية فى بعض الأحيان. 

فعلى مدار تاريخ الكوكب، لاحظ العلماء أن المجال المغناطيسى يمكنه أن يضعف إلى مستوى منخفض للغاية، ثم يمكن أن تتبادل الأقطاب المغناطيسية الشمالية والجنوبية أماكنها.  

يقول "ترينداد": "سيكون ذلك حدثًا كبيرًا، لأنه إذا انعكس المجال، سنحصل على مجال أضعف بكثير من المجال الحالى." 

ويقارن ذلك بإمكانية أن تغطى منطقة جنوب الأطلسى الشاذة (SAA)  الكوكب بأكمله. 

"إذا حدث ذلك فستكون جميع الأقمار الصناعية وكل الاتصالات فى خطر، وستضطر كل البعثات الفضائية للتعامل مع ذلك. ستكون مشكلة ضخمة للجميع."  

لكنه ومعه خبراء آخرون يتفقون على أن هذا الخطر ليس وشيكًا. فرغم أن متوسط قوة المجال المغناطيسة آخذ فى الانخفاض، لكنه لا يزال أعلى بكثير من المستوى الذى قد يؤدى إلى حدوث انعكاس.

وفى كل الأحوال من الصعب التنبؤ بما سيحدث، لأن الفترات التى يحدث فيها هذا الانعكاس ليست منتظمة. 

تقول "كورت": "هناك أوقات تغير فيها المجال عدة مرات خلال مليون سنة، ثم هناك فترة مثل العصر الطباشيرى، حيث ظل مستقرًا في اتجاه واحد لمدة تقارب ٤٠ مليون سنة. 

يبدو أنه وفى المتوسط، يتغير مرتين إلى أربع مرات كل مليون سنة.   

يعتقد بعض الناس أن هذا الانعكاس قد يكون مرتبطًا بالشذوذ، لأن كلاهما يتميزان بانخفاض غير عادى فى قوة المجال المغناطيسى، وكلاهما يبدو مرتبطًا بحركة المواد فى اللب. 

يوضح "ترينداد": "هناك من يعتقد أن تبريد سطح الحد الفاصل ما بين اللب والوشاح يقلل من فعالية الحمل الحرارى فى اللب، مما يزيد من احتمالية حدوث انعكاس."  

لكن من البيانات الحالية، نرى أن الانعكاسات التاريخية التى نعرفها لم تحدث عندما كان الشذوذ فى موقع معين. كما يشير ذلك إلى أن ضعف المجال فى منطقة جنوب الأطلسى الشاذة (SAA) لا يعنى أن انعكاسًا وشيكًا سيحدث قريبًا.

مع ذلك يظل السؤال مطروحاً.

وكما تقول "كورت": "لا أحد يفهم حقا كيف تحدث هذه الأحداث، ولماذا تحدث، وما هى العلاقة بينها".


أمر حيوي للحياة: 

كل هذا الحديث عن ضعف المجالات المغناطيسية والشذوذ الذى يهدد الأقمار الصناعية قد يبدو مقلقًا، لكننا لسنا بحاجة للقلق بشأن حدوث انعكاس وشيك بعد. 

لقد تقوّى المجال المغناطيسى للأرض وضعُف على مدار التاريخ، وهو الآن فى مستوى أقوى من المتوسط.  

لكى يحدث انعكاس، يجب أن يحدث تغير كبير داخل لب الأرض، وهو أمر لا يمكن أن يحدث بهذه السرعة.  

تقول كورت: "لا أحب أن أقول أن الأقطاب تنعكس، لأن ذلك يوحى بأن هناك شيء يمكن أن يحدث بسرعة.

" العملية ليست مثل الضغط على مفتاح إضاءة، وهي ليست قريبة الحدوث: "بالتأكيد لن يحدث ذلك خلال حياتنا، وأقرب وقت ممكن سيكون بعد 600 أو 700 سنة – وحتى ذلك أيضاً، أعتقد أنه غير مرجح إلى حد كبير."  

تُظهر منطقة جنوب الأطلسى الشاذة (SAA) بوضوح أهمية الغلاف المغناطيسى غير المرئى لكن الحيوى المحيط بكوكبنا، وكيف يحمينا من الإشعاع الفضائى الخطير. حتى أن بعض العلماء ذهبوا إلى أنه بدون الغلاف المغناطيسى، لم تكن الحياة لتتطور على الأرض.  

يقول "ترينداد": "إذا لم يكن لدينا غلاف مغناطيسى، لكان غلافنا الجوى قد تآكل." وهذا يعنى فقدان الماء وثانى أكسيد الكربون، وفى النهاية لن تبقى دورة مائية. 

"دورة الماء هى شيء يتفق الجميع على أنها ضرورية للحياة. لذا، وبشكل غير مباشر، فإن المجال المغناطيسى مهم جدًا للحفاظ على الحياة على الكوكب".


جورجينا توربيت، صحفية مستقلة متخصصة في مجال الفضاء، تكتب عن علوم الكواكب واستكشاف الفضاء الروبوتى والبشرى.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة