النجاح نتيجة الاجتهاد أم أنه مجرد حظ؟
يأخذنا البروفيسور "كارلو فيليسى"، أستاذ الفلسفة فى جامعة "SUNY Geneseo"، فى هذه المقالة إلى مقاربة مثيرة، تستحق التأمل.
يخلص فى نهايتها إلى أننا يجب أن نشارك نجاحنا مع الآخرين، حتى ولو كان ثمرة جهد كبير، لأننا فى كثير من الأحيان، قد لا نستحقه بالقدر الذى كنا نعتقده.
عند التفكير فى موضوع توزيع الثروات، من الضرورى مناقشة الإعتقاد الراسخ لدى الكثيرين، من أن الأشخاص الصادقين والعاملين بجد يستحقون دائمًا كل أو معظم ما يكسبونه.
يرتبط هذا الاعتقاد بمفاهيم من قبيل العدالة والملكية والنظرة الذاتيه، لكن لسوء الحظ، عند التدقيق فى هذه المفاهيم، سنجد أنها هى نفسها التى قد تقوض فكرة "الاستحقاق المطلق" تلك .
لنبدأ بنقطة يصعب إنكارها: أولئك الذين يعملون بجد فى وظائف يدوية أو ذهنية منخفضة الأجر يستحقون هذه الأجور. لكن ومن ناحية أخرى، هناك من يصبحون أثرياء بشكل خيالى، رغم عدم استحقاقهم تلك الثروات الطائلة. ويتم عادةً الدفاع عنهم بالقول بان نجاحهم قد تم بطريقة عادلة وهو نتيجة لأفضل نظام سوق مالى ممكنة.
إلا إنه لا يوجد دليل عملى على صحة أى من هذين الشرطين.
أولًا، معظم أنظمة سوق المال الحالية، لا تفيد جميع الناس، ولا حتى النسبة الأكبر منهم، .فاذا كنت من دول الشمال الأوروبى، مثلًا، فانت تحقق أعلى مستويات السعادة بشكل عام، حيث تعتمد تلك الدول أنظمة رفاهية عالية للغاية.
ثانيًا، نظام السوق الحرة النيوليبرالى ليس مثل لعبة "المونوبولى"، حين يبدأ جميع اللاعبين بموارد متساوية، وبالتالى تكون النتيجة الحصول على الفائزين بشكل عادل، لقد قاموا فقط بالجمع ما بين الحظ مع المهارة.
اما فى الحياة فنقاط البداية دائماً غير متساوية بشكل صارخ.
لذا ليس من المستغرب أن معظم أبناء العائلات الثرية يظلوا أثرياء كبالغين، بينما يبقى معظم أبناء الطبقات الدنيا داخل تلك الطبقات. وهو ما يحدث، حتى لو لم تحصل عمليات غش او تدليس من قبل الآباء أو الأبناء فى تلك الطبقات العليا.
تؤكد ذلك احصائيات البيانات الاجتماعية، بطريقة حاسمة لا تقبل الجدل.
حظ البدايات:
من الجدير بالذكر أن هذه البدايات المحظوظة لا تنطبق فقط على فاحشى الثراء، بل أيضًا على الكثير ممن يتمتعون بمستوى معيشى مريح. فهى تنطبق على شريحة واسعة من الموهوبين بطريقة امينة وعادلة، الذين يحصلون على مكافآت كبيرة: الأطباء، والمحامون، والمهندسون، واستشاريو الاستثمار، والأساتذة الجامعيون، ومستثمرو العقارات، وغيرهم.
هؤلاء بشكل عام هم أناس طيبون لعبوا دورًا فاعلًا فى تحقيق نجاحهم. لكن يبدو أن أفراد هذه المجموعة ككل لا يستحقون نجاحًا ماليًا واجتماعيًا أكبر من غيرهم ممن يعملون أيضاً بنفس الجد. بل إن مثل هذا النجاح هو فى الغالب مجرد "صدفة ولادة".
لماذا قد لا نستحق نجاحنا بالكامل؟
يتضمن السبب وراء عدم استحقاقنا الكامل لنجاحنا عدم المساواة الاجتماعية فى نقاط البداية، بالإضافة إلى مزايا فطرية أخرى لم نكتسبها بجهدنا.
لنأخذ نفسى كمثال: أنا أستاذ دائم فى كلية أمريكية، وأعيش حياة مريحة نسبيًا. نعم، عملت بجد للوصول إلى هذا المنصب. لكننى أيضًا ربحت من "يانصيب الكون" فى أكثر من مجال. فالأفراد الناجحون من الطبقة المتوسطة عادةً ما يرثون منصات انطلاق عاطفية وثقافية جيدة، مثلا قد نمتلك آباء مُتفانين. كما أننا غالبًا ما نرث حظًا جينيًا جيدًا، يتراوح بين الصحة والقدرات الإدراكية فوق المتوسطة. إننا لم نكتسب أيًا من هذه العوامل بجهدنا، لقد كنا محظوظين إلى حد كبير، كوننا قد ولدنا فى الزمان والمكان المناسبين. لم نولد فى خضم حرب أهلية دموية، أو فى مخيم لاجئين، أو فى حى فقير للعصابات، أو فى أوروبا القرن التاسع عشر.
نعم، لقد عملنا بجد واتخذنا فى الغالب خيارات ذكية. لكن العمل الجاد والعزيمة واتخاذ الخيارات الجيدة ليست حكرًا على الناجحين. فملايين الفقراء، إن لم يكن المليارات، يعملون بجد ويتخذون خيارات جيدة أيضًا. لكن ظروفهم، الداخلية والخارجية، أصعب. نقاط بدايتهم كانت غير محظوظة، ومجرد الولادة فى زمان أو مكان خاطئ قد يكون أمراً حاسمًا فى حد ذاته.
بالإضافة إلى ذلك، قد تتفاقم الأمور بسبب الجينات والإعاقات الأخرى، والتى تتراوح من المشاكل الصحية الأساسية إلى الأمراض العقلية الشديدة، ومن التربية السيئة إلى قلة فرص التعليم والعمل.
بالنسبة للكثيرين، لا ينتج عن العمل الجاد سوى نتائج ضئيلة أو حتى مأساوية. كما أن اتخاذ خيارات جيدة يصبح أسهل بكثير عندما تكون فى ظروف بيئية وصحية جيدة. جرب أن تكبر فى حى فقير يعج بالجرائم، أو فى قرية موبوءة بالملاريا!
بعضنا قد يمثل بالفعل قصة نجاح يُضرب بها المثل. أنا جئت إلى الولايات المتحدة طفلًا مع أبوين شبه أميين، كانا مزارعين فقراء تحولا إلى عمال مصانع فى أمريكا. لم نكن نتحدث الإنجليزية فى المنزل، لكننى تفوقت فى المدرسة: عملت بجد واتخذت خيارات ذكية، بينما لم تؤثر خياراتى الغبية على كثيرًا. فهل أستحق الآن الحظ الجيد الذى أنعم به؟
أعتقد أن الإجابة هى: لا.
نقاط البداية كانت حاسمة، حتى لو كانت متواضعة ببعض المعايير، فأنا لم أولد فى أوروبا القرن التاسع. كان لدى والدان داعمان، وامتلكت الاستعداد والرغبة فى التعلم. لم أكتسب أيًا من هذه العوامل. كانت لدى إمكانية الالتحاق بمدارس وجامعات ممولة حكوميًا فى أمريكا السبعينيات – وهو امتياز آخر لم أكسبه بجهدى. كنت أبيض البشرة، عشت فى أحياء آمنة، تحت نظام قانونى وفر حماية أساسية، على الأقل فى منطقتنا بشمال غرب شيكاغو. كل تلك الظروف أيضًا لم أنلها بجهدى.
لذا، بينما بذلت جهداً شخصيا، فإن جميع نقاط بدايتى المحظوظة – الخارجية والداخلية – كانت هبات غير مكتسبة. وينطبق الأمر ذاته على معظم المحترفين الناجحين حول العالم، خاصة فى الدول الغنية. الحظ يلعب الدور الأكبر فى النجاح.
والعكس صحيح أيضًا، يصعب تجاوز نقاط البداية السيئة فى الحياة. الأطفال المولودون فى أسر مفككة أو أحياء خطرة يواجهون مستقبلاً أكثر قتامة، حيث تكون الخيارات السيئة قاسية ولا تغتفر. تخيل أن والدك المريض بسبب التلوث يرسلك لشراء الدواء ليلاً، لكنك تتعرض للاعتداء وتصاب بصدمة تدوم مدى الحياة.
نعم، هبات الجينات الجيدة والمنصات الثقافية والزمان والمكان المناسبين يجب أن تكملها خيارات جيدة وعمل شاق. ممارسة الإرادة الحرة هنا عامل فى النجاح فى الحياة، لكنه مجرد عامل واحد. حتى فى صميم مساهماتنا "الحرة"، يلعب الحظ دورًا كبيرًا، لأن الاستعدادات الجينية غير المختارة تؤثر على قدرتنا. فمنذ بداية حياتنا، قد نعانى من اضطرابات نقص الانتباه، أو ضعف التحكم فى الدوافع، أو ما هو أسوأ من ذلك. قد نكون عرضة للإدمان بأشكاله. فى المقابل، قد نبدأ حياتنا ونحن موهوبين فى أنواع القدرات. ومن أهمها ما نسميه "الانضباط الذاتى" – العنصر الحاسم فى أى فضيلة شخصية. هذه القدرات غير موزعة بالتساوى، حتى بين الأصحاء. مما يعنى أن الانضباط الذاتى، يكون أسهل بشكل طبيعى لبعض الناس عن غيرهم.
الخلاصة:
لا يمكننا أن ننسب لأنفسنا الفضل الكامل، حتى فى أكثر مساهماتنا فاعلية من أجل تحقيق النجاح. صحيح أن المواهب الأولية والقدرات تحتاج إلى صقل وتطوير. وهو ما يتطلب دورا فعالا منا – بالإضافة إلى التربية والتعليم وغيرها. لكن هذا الجانب الفعال يحتاج إلى أساس نفسى جيد ليعمل بشكل منتج.
النتيجة؟ انه حتى عندما نعتقد أننا "صنعنا أنفسنا بأنفسنا"، فإن الحظ – الجينات، والبيئة، والتوقيت – يكون هو العامل الأكبر. وهذا يستدعى منا التواضع، والاعتراف بفضل الظروف، وربما يستدعى مسؤولية أكبر فى مشاركة نجاحنا مع من لم يحالفهم الحظ بنفس القدر.
مشروعية الحظ والشرعية:
بناءً على ورقة بحثية لبرنارد ويليامز عام 1976، طرح "توماس ناجل" فى ورقته عام 1979 المعنونة:"الحظ الأخلاقى"، فكرة أن سجلنا الأخلاقى نفسه يعتمد جزئيًا على الحظ. على سبيل المثال، من الأسهل أن تظل شخصًا أخلاقيًا إذا كنت تعيش فى بلد مستقر وعقلانى، مقارنةً بنشأتك تحت نظام فاشى أو ديكتاتورى.
ولكن هل يعنى حظ البدايات أن إنجازاتنا وثرواتنا النزيهة غير شرعية؟
بالطبع لا. إنها ليست كالسلع المسروقة أو الألقاب المغتصبة.
النجاح والثروة المكتسبة بشرف ملك لنا بشكل شرعى.
لكن مع ذلك، لا يمكن القول إن هذا النجاح مُستحَق، لأنه فى الغالب قد هبط علينا (أستعير هذا التمييز بين "شرعى لكن غير مستحق" من الفيلسوف السياسى جون رولز).
لقد فزنا فى يانصيب الكون. فزنا به بفضل تذكرة لم نسرقها، لكننا أيضًا لم نشتريها. جيناتنا، زماننا، مكاننا – كانت تذكرتنا، وآباؤنا هم من اشتروها لنا. إذًا، بما أننا لا نستحق نقاط بدايتنا، فحتى ثرواتنا المكتسبة بشرف هى فى الغالب غير مستحقة.
بالطبع، تشبيه النجاح فى الحياة بالفوز باليانصيب ليس دقيقًا تمامًا. فمساهمتنا عبر العمل الجاد والخيارات الذكية مهمة. عنصر الإرادة الحرة له وزنه. نحن محقون فى التشبث بهذه النقطة: ليس كل شىء يُمنح لنا ببساطة. ومع ذلك، نحن عرضة لعدم إدراك الصورة الأشمل نتيجة لتبجيل الذات، خاصة إذا حققنا هذا النجاح بالجهد الوافر.
لذلك من المهم أن نذكر أنفسنا دائمًا بأن:
1. المواهب الطبيعية ليست شيئًا نكتسبه بجهدنا.
2. تطويرنا لهذه المواهب (أو عدم تطويرها) يعتمد فى الغالب على عوامل اجتماعية وسمات شخصية لم نكتسبها نحن أيضًا.
3. توظيف هذه المواهب بشكل منتج يتطلب بيئة اجتماعية مواتية لم نصنعها، بالإضافة إلى الحظ الجيد.
الخلاصة؟ بينما يمكننا أن نفتخر بجهودنا، يجب أن نتواضع أمام الحظ الهائل الذى جعل هذه الجهود مثمرة. وهذا الفهم ليس تقليلًا من شأننا، بل دعوة لرؤية أكثر إنصافًا للنجاح – وتذكير بأن من لم يحالفهم الحظ بنفس القدر ربما يستحقون منا التعاطف والدعم، لا مجرد الإحسان فحسب.
الآثار المترتبة:
أحد الاستنتاجات الرئيسية لهذه الملاحظات هو أنه إذا كان 90% من نجاحنا الفردى لا يعود إلى استحقاقنا المطلق له، فإنه ينبغى أن نكون أكثر استعدادًا لمشاركة نجاحنا مع الأقل حظًا، لأن سوء حظهم أيضًا ليس ناتجًا فى الغالب عن خطئهم .
ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك على المدى الطويل؟
هذا سؤال مفتوح للنقاش. يرى "جون رولز" أن "دولة الرفاهية السخية" هى الحل، وقد طبقت الدول الإسكندنافية هذا المبدأ بنجاح. لكن هل يجب توسيع هذا النموذج ليشمل "نظام رفاهية عالمى"؟ ربما، لكن القضية معقدة، ونحن بعيدون كل البعد عن تحقيق ذلك.
يبقى سؤال أخير ، ماذا لو كان جزء من إرثنا المحظوظ مبنيًا على مكاسب غير مشروعة؟
ماذا لو كانت ثرواتنا – ولو جزئيًا – نتاج عنف، أو سرقة، أو نظام متحيز تاريخيًا؟ فى هذه الحالة، قد يكون لدى المستفيدين من هذا النجاح التزام إضافى بمساعدة أحفاد ضحايا ذلك الاستغلال، الذين ما زالوا يعانون من الفقر.
وهنا يصبح "الالتزام بالمشاركة أكثر تعقيداً"، وقد يكون من المناسب تطبيق "سياسات تعويضية" تجاه السكان الأصليين وأحفاد العبيد،[وضحايا الاستعمار الاستيطانى] على سبيل المثال.
لكن كيفية تنفيذ ذلك (المقدار، من يدفع، لمن، إلخ) تظل قضية شائكة تحتاج إلى نقاش دقيق. ومع ذلك، فإن "زيادة الوعى العام" بهذه القضية بعد سنوات من الإنكار يُعد تقدمًا مشجعًا.
"البروفيسور كارلو فيليسى" أستاذ الفلسفة فى جامعة "SUNY Geneseo"، ومؤلف كتاب "هدف الحياة: رؤية فلسفية شرقية" (2011). ■
خلاصة الفكرة الرئيسية للمقال:
- أن النجاح ليس "استحقاقًا مطلقًا"، بل نتيجة "حظ كبير" (جينات، بيئة، توقيت).
- العدالة تقتضى مشاركة الثروة مع من حُرموا من نقاط بداية عادلة.
-التعويضات التاريخية، قد تكون ضرورة أخلاقية، لكن تفاصيلها تحتاج إلى نقاش عميق.
- الوعى المتزايد بهذه القضية يُبشر بخطوة نحو عدالة أكثر شمولًا.
هذا المقال هو دعوة إلى "تواضع أخلاقى" و"مسؤولية اجتماعية"، مع إقرار بأن الحظ – وليس الجدارة فقط – هو من يصنع الفارق.
تعليقات