المعتزلة وأفكارهم العقلانية فى الفكر الإسلامى

تُعتبر مدرسة "المعتزلة" واحدة من أبرز مدارس الكلام فى التاريخ الإسلامى، والتى ارتكزت على العقل والمنطق كأدوات رئيسية لفهم النصوص الدينية وتفسيرها. 

ظهرت فى القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى) فى "البصرة"، وانتشرت لاحقًا فى "بغداد" و"خراسان"، وتركت أثرًا عميقًا فى تطور الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام. 

ترتكز أفكار "المعتزلة" وأصولهم الفكرية، بشكل رئيسى على التوفيق بين العقل والدين، وكان لهم تأثير كبير فى الفكر الإسلامى، سواء فى علم الكلام أو الفقه والتفسير.

السياق التاريخى لنشأة "المعتزلة": 

نشأت "المعتزلة" فى فترة تميزت بالتفاعل الثقافى بين الحضارة الإسلامية والتراث اليونانى والفارسى، خاصة فى عهد الخلافة العباسية التى شجعت حركة الترجمة والمناظرات الفكرية. 

تأسست المدرسة على يد "واصل بن عطاء" (تقريباً 131 هـ)، حين اعتزل حلقة تعليم "الحسن البصرى"، بسبب خلاف حول حكم مرتكب الكبيرة.

إذ اعتبر "واصل" أن المؤمن الذى يرتكب كبيرة يقع فى "منزلة بين المنزلتين" (لا مؤمن ولا كافر).

تبنَّى "المعتزلة" المنهج العقلى باستدلالات مستمدة من الفلسفة اليونانية، خاصة منطق "أرسطو"، وقد مثّلوا جسرًا بين التراث الإسلامى والعلوم العقلية، حيث دافعوا عن أن "العقل" يسبق "النقل" فى إثبات العقائد، وأن النصوص يجب أن تُؤوَّل إذا تعارضت مع الحقائق العقلية.  

مثال على ذلك: تفسيرهم لصفات الله (كاستواء الله على العرش) بتأويل مجازى بدلًا من الحرفى. 

وهكذا نرى تميز المعتزلة بإعلاء شأن العقل، فجعلوه الحكم الأول فى قبول العقائد وتأويل النصوص. 

اعتبروا أن النصوص الشرعية يجب أن تُفسر وفقًا للعقل، فإذا تعارض النص مع العقل، وجب تأويله بما يتناسب مع المبادئ العقلية والعدالة الإلهية.

لقد كان تأثيرهم هائل على علم الكلام، حيث وضعوا أُسس الجدل المنظم بالحجج العقلية، مما أثَّر فى فلاسفة لاحقين مثل "الفارابى" و"ابن رشد".

ووسعوا دائرة الجدل الفلسفى، وهو ما وضعهم فى مواجهة مع أهل الحديث وأهل السنة الأشعرية لاحقًا.

بلغت "المعتزلة" أوج قوتها فى عهد الخليفة العباسى المأمون (813-833م) الذي تبنى فكرهم وجعل الاعتزال مذهب الدولة الرسمى، وفرض القول بخلق القرآن، مما أدى إلى اضطهاد المخالفين فيما يعرف بـ"محنة خلق القرآن". 

لكن مع نهاية القرن الثالث الهجرة، بدأ نفوذهم فى التراجع بسبب الضغط السياسى من الخلفاء اللاحقين، وخاصة الخليفة العباسى "المتوكل".

الأصول الخمسة لفكر "المعتزلة":

1. التوحيد (نفى التشبيه والتجسيد):

أكد "المعتزلة" على توحيد الله تنزيهًا مطلقًا، ورفض "المعتزلة" أى تشبيه لصفات الله بالإنسان، مؤكدين على تنزيه الذات الإلهية عن المادية. 

مثّل هذا رفضًا للتيارات التى فسرت حرفيًا النصوص المجسمة (كاليد والوجه) ، معتمدين على التأويل العقلى.

2. العدل: 

أكدوا أن الله عادل لا يظلم، وأن الإنسان حر الإرادة مُخيَّر فى أفعاله، مما يجعله مسؤولًا عن اختياره. فلا يجوز نسبة الظلم إلى الله، حيث يرون أن الإنسان خالق أفعاله باختياره.

هذا يتعارض مع الجبرية التى روّجت لفكرة أن أفعال الإنسان مُقدَّرة سلفًا.

3. الوعد والوعيد: 

أكدوا على أن الله لا يمكن أن يخلف وعده أو وعيده، فمن مات عاصيًا دون توبة فهو مخلد فى النار، فلا شفاعة ولا مغفرة دون توبة صادقة.

 وهو ما يعكس التزامًا بالمنطق الأخلاقى.

4. المنزلة بين المنزلتين: 

وهو موقفهم الفريد من مرتكب الكبيرة، قرر "المعتزلة" أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا ولا كافرًا، بل هو فى منزلة بين الإيمان والكفر، وسيخلد فى النار إن لم يتب، لكنه لا يعامل كالكافر فى الدنيا. (خلافًا للخوارج).

5. الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: 

رأوا أن على المسلمين واجبًا أخلاقيًا وسياسيًا فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى لو استلزم ذلك الخروج على الحاكم الظالم. لقداعتبروه واجبًا جماعيًا وفرديًا، حتى بالسلاح إذا لزم الأمر، مما يعكس توجهًا سياسيًا ثوريًا فى مواجهة الحكام الظالمين.

التأثير المعاصر للمعتزلة : 

يبقى فكر "المعتزلة" مثالًا بارزًا على النزعة العقلانية فى الإسلام، حيث سعوا إلى التوفيق بين الدين والعقل، وإعلاء مبدأ العدل الإلهى، مما جعلهم أحد أهم الفرق الفكرية فى تاريخ الإسلام. وعلى الرغم من تراجع حضورهم السياسى، إلا أن تأثيرهم لا يزال قائمًا فى الجدل الدينى والفلسفى حتى اليوم.

رغم تراجعهم بعد القرن الخامس الهجرى، إلا أن أفكارهم عادت للظهور فى العصر الحديث عبر مفكرين مثل:  

- محمد عبده(مصر)، الذى دعا إلى تجديد الفكر الدينى باستخدام العقل.  

- نصر حامد أبو زيد (مصر)، الذى أعاد قراءة النصوص بتأثير اعتزالى.  كما يمكن أن نضيف مفكرين آخرين مثل "أحمد أمين" و"طه حسين". وأيضاً الكثير من المفكرين العلمانيين، الذين يرون فى افكار "المعتزلة" سندًا تاريخيًا لربط الإسلام بالديمقراطية وحقوق الإنسان.


فى عصر تتصاعد فيه النزعات النصوصية والتطرف، يقدم "المعتزلة" نموذجًا لإسلام عقلانى يتوافق مع العلم والحداثة. إن تأكيدهم على حرية الإرادة الإنسانية والعدالة الاجتماعية يجعلهم أقرب إلى الروح الإنسانية الكونية، كما أن منهجهم النقدى يشجع على التسامح مع الرأى الآخر. 

لقد كانوا روادًا فى الدفاع عن إسلام منفتح، وهو ما نحتاجه اليوم لإعادة بناء خطاب دينى متوازن.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة