"خوفو"
على الرغم من أن الفرعون "خوفو" قد ترك للعالم إحدى أعظم العجائب من خلال الهرم الأكبر، العجيبة الوحيدة المتبقية من عجائب الدنيا السبع القديمة، لكن مكان راحة ودفن الفرعون المفقود فى الجيزة، لا يزال لغزًا محيرًا.
"دوم ريساة-لينكولن"
يظل الهرم الأكبر باعتباره أحد أكثر الآثار المهيبة فى العالم، رمزًا لا يضاهى، لهندسة وإبداع الحضارة المصرية القديمة. بارتفاعه الذى يصل إلى 146.5 مترًا، يطل الهرم على الهرمين الآخرين فى الجيزة، وأبو الهول، كتذكير قوى بقوة إمبراطورية المصريين القدماء.
مع ذلك، نحن لا نعرف سوى القليل عن الرجل الذى أمر ببناء هذا الصرح المهيب.
لطالما كانت حياة الملك "خوفو" لعقود موضوعًا مثيرًا للاهتمام بالنسبة للمؤرخين وعلماء الآثار، خاصةً بسبب حقيقة أن مومياء هذا الملك من عصر المملكة القديمة لم يعثر عليها حتى الآن.
فما الذى حدث لهذا الملك العظيم؟ وكيف يمكن أن نكشف أسرار الهرم الأكبر؟
يظل الملك "خوفو"، ابن الملك "سنفرو"، مؤسس الأسرة الرابعة، شخصية غامضة فى التاريخ. هو ينتمى إلى عصر حكم مصرى يُعرف باسم المملكة القديمة، وكان واحدًا من العديد من الفراعنة الذين طُمست إنجازاتهم مع مرور الزمن. نتيجة لذلك، لا تزال الكثير من المعلومات المتاحة عنه محل جدل.
يعتقد الكثير من المؤرخين أنه وُلد حوالى عام 2609 قبل الميلاد، وكان اسمه الكامل "خنوم-خوفوى"، الذى يعنى "ليحمينى الإله خنوم"، وقد تولى العرش فى العشرينيات من عمره بعد وفاة والده.
بدأ "خوفو" تقريبًا على الفور فى التخطيط لبناء ما سيصبح لاحقاً الهرم الأكبر. كان والده قد بنى أيضًا عددًا من الأهرامات فى حياته، لكن "خوفو" كان مصممًا على الخروج من ظل والده مؤسس الأسرة وترك بصمته الخاصة على العالم.
استمر حكمه ما بين 26 إلى 46 عامًا، وبما أن بناء الهرم الأكبر استغرق حوالى من 10 إلى 20 عامًا، فقد كان هذا المشروع هو ما سيهيمن على فترة حكمه.
تختلف الروايات حول كيفية بناء "خوفو" لهذا الصرح العظيم. ولكن بردية "وستكار" تقدم اكثر رؤية موثوقة عن ذلك المشروع. ففى هذه الوثيقة القديمة، كان "خوفو" حاكم الأسرة الرابعة رجلًا تقيًا، عامل رعاياه بلطف وتبنى روحانية المصريين القدماء.
تقدم هذه الوثيقة "خوفو" كرجل استخدم عمالًا مدفوعى الأجر لبناء الهرم، ذلك على الرغم من أن مثل هذا المشروع كان سيسبب ضربة كبيرة لخزينة الدولة.
وهكذا بدأ "خوفو" فى بناء الهيكل الذي أصبح رمزًا لعظمة المصريين القدماء، وإنجازه الأكبر كحاكم: الهرم الأكبر.
استغرق البناء ما بين عقد إلى عقدين، واستُخدم فيه حوالى 2,300,000 كتلة حجرية، وهو ما يدل على قفزة هائلة فى البراعة الهندسية بين فراعنة وبناة الأسرة الثالثة وخلفائهم فى الأسرة الرابعة.
قبل "سنفرو"، كان ملوك "مصر" يبنون مقابر صغيرة مسطحة القمة لإيواء أجسادهم، لكن فراعنة مثل "خوفو" كانوا يهدفون إلى بناء هياكل ضخمة.
تشير السجلات إلى أن بناة "خوفو"، عملوا على الهرم الأكبر فى الفترة ما بين 2589 و2504 قبل الميلاد، حيث نقلوا أكثر من مليونى كتلة حجرية تزن كل منها على الأقل طنين. تغطى قاعدة الهرم مساحة 55,000 متر مربع، مع كل جانب يزيد عن 20,000 متر مربع، مما يجعله مشهدًا مذهلاً لأى مشاهد من العصور القديمة أو الحديثة على حد سواء. ولم تتوقف الابتكارات المعمارية للأسرة الرابعة عند هذا الحد، حيث استخدمت أساسات الزوايا تصميمًا خاصًا لحماية الهرم من الزلازل.
حتى الملاط المستخدم لربط الكتل الحجرية العملاقة كان نتاجًا للابتكار، وهو ما فشل حتى المهندسون الحديثون فى إعادة إنشائه فى المختبرات المعاصرة. وحقيقة أن هذه المادة أبقت الهرم الأكبر قائمًا لأكثر من 4000 عام تثبت مدى براعة بناة الأسرة الرابعة. كما أن الشكل الخارجى للهرم الذى نراه اليوم لم يكن هو الشكل النهائى الذى رآه المصريون القدماء. فعند اكتماله، كانت الطبقة الخارجية لهرم "خوفو" مغطاة بكتل من الحجر الجيرى المصقول، مما جعل الهرم الأكبر منارة لامعة فى قلب المملكة المصرية. لكن هذه الطبقات الخارجية نُزعت بعد قرون، بعد انتهاء عصر الأسرات.
اليوم، لا يزال الهرم الأكبر لخوفو وبقية أهرامات وآثار "الجيزة" تثيران اهتمام علماء الآثار والعلماء عامة، باعتباره العجيبة الوحيدة المتبقية من العالم القديم.
هناك جهود كبيرة تبذل للحفاظ على هويته القديمة، ونتيجة لذلك، تطورت الأساليب التى يستخدمها الخبراء لإعادة تقييم هذه الآثار، ولكشف المزيد عما بداخلها دون التسبب فى أى أضرار.
إحدى هذه الأساليب تشمل تقنيات مثل المسح الحرارى والتصوير الإشعاعى باستخدام "الميونات" (جسيمات أولية تشبه الإلكترونات ولكن بكتلة أكبر)، والتي تُستخدم كجزء من مبادرة "ScanPyramids" المصرية، التي تساعدنا على النظر إلى الماضى، بطريقة لم تحدث من قبل.
يقول الرئيس والمؤسس المشارك للمشروع: "مهمة ScanPyramids هى مشروع علمى دولى تم إطلاقه بالتعاون بين معهد HIP (التراث والابتكار والحفظ)، وكلية الهندسة (جامعة القاهرة)، ووزارة الآثار المصرية. الهدف منه هو جمع أفضل الفرق العلمية فى العالم التي تمتلك تقنيات غير مدمرة لمحاولة الرؤية من خلال الحجارة بدلاً من إفسادها."
يركز البحث على استخدام الميونات، التي تُعتبر كتلتها الأكبر مثالية لاختراق الأجسام الصلبة وإنشاء صور تفصيلية للهيكل الداخلى. ويضيف: "نستخدم ثلاث تقنيات مختلفة تتضمن التصوير الإشعاعى بالميونات، بالإضافة إلى المسح بالليزر وتقنيات التصوير الضوئى للحصول على نموذج ثلاثى الأبعاد دقيق للجيزة ودهشور."
مشاريع مثل ScanPyramids هى واحدة من العديد من البرامج الجديدة التى تهدف إلى فهم أفضل للهيكل الداخلى للهرم الأكبر، بالإضافة إلى تحديد الفراغات أو الهياكل المخفية المحتملة باستخدام سلسلة من التقنيات غير الغازية. هذا النهج متعدد التخصصات يتقدم بخطى سريعة فى مجال تقنيات المسح الحديثة، حيث يتم استخدام تقنيات بالكاد خرجت من المختبرات البحثية قبل تطبيقها فى الميدان. ومع وجود هذا الفريق بالفعل فى "الجيزة" لدراسة الهرم الأكبر، فإنه يتطلع إلى مشاركة بياناتهم مع الجميع، من خبراء العمارة القديمة إلى علماء فيزياء الجسيمات والمهندسين.
يقول: "نعلم أننا لسنا أول الذين يحاولون، ولكن مع ScanPyramids نريد أن نساهم فى زيادة المعرفة التى نمتلكها عن الأهرامات." ويضيف: "لا نعرف إذا كنا سنجد شيئًا، لكن دافعنا يعتمد على شغفنا وأحلام طفولتنا. باستخدام هذه التقنيات، لا نرى الأهرامات فقط من منظور جديد، بل نقدم أيضًا منظورًا جديدًا للتكنولوجيا التى تتقدم بفضل سحر التراث المصرى."
الهرم الأكبر نفسه يتكون فى الغالب من كتلة صلبة، وعلى الرغم من أنه ليس شبكة معقدة من الغرف كما تظهره الأفلام، إلا أنه يحتوى على عدد قليل من الغرف المبنية خصيصًا للفرعون وملكته. تشمل المساحات الداخلية المعروفة ممر النزول (المدخل الأصلى)، وممر الصعود، والمعرض الكبير، وكهف غامض، وغرفة غامضة بنفس القدر تحت الأرض. بالإضافة إلى الغرفتين الرئيسيتين: غرفة الملك وغرفة الملكة.
ومن المثير للاهتمام أن العديد من المؤرخين يعتقدون أن غرفة الملكة لم تُستخدم أبدًا، ولم يكن المقصود منها أن تُستخدم لإيواء ملكة، بل كانت تمثل حق الفرعون فى أن يكون له ملكة فى الحياة الأخرى.
فماذا عن محتويات الهرم؟ من المؤكد أن مقبرة مبنية لملك ستكون مليئة بالكنوز لمرافقته إلى الحياة الآخرة؟ ولكن للأسف، الواقع أقل بريقًا.
ففى القرن التاسع، بعد فترة طويلة من انتهاء الحضارة المصرية القديمة، كان الخليفة العربى الشاب "عبد الله المأمون" يتوق لمعرفة المزيد عن العالم. أراد أن يرسم خريطة للأراضى خارج مملكته، واعتقد أنه سيجد مستقبل مصيره فى غرفة الملك بالهرم الأكبر فى الجيزة. قام هو ورجاله بفتح المقبرة ودخول الغرفة، فقط ليجدوها خالية تمامًا، مع تابوت فارغ أيضًا. إذ يبدو أن اللصوص كانوا قد سبقوهم إلى كنوز الفرعون العظيم، ونقلوا رفاته بعيدًا.
هذا اللغز الذى ازداد تعقيدًا مع مرور الوقت، أثار المزيد من الأسئلة والنظريات. لماذا يقوم شخص بإزالة جثة ملك مات منذ زمن طويل؟ لماذا لا توجد أى إشارات إلى خوفو فى الغرفة؟ هل كان الهرم الأكبر حقًا مقبرته؟ هذه التكهنات أفرزت العديد من النظريات حول الموقع الحقيقى لرفات "خوفو"، بما فى ذلك احتمال أن الكهنة (إما الذين خدموه بعد وفاته مباشرة أو الذين إتبعوا عبادة الموت التى ازدهرت باسمه خلال الأسرة الرابعة والعشرين) قاموا بنقل رفاته لحمايتها من اللصوص والغزاة.
هذه النظرية – وهى مجرد نظرية، حيث لا يوجد دليل يدعمها أو يدحضها – تشير إلى موقع مقدس ثانٍ لا يزال غير مكتشف حتى اليوم.
إحدى النظريات الشائعة الأخرى تقترح أن رفات "خوفو" لا تزال فى الهرم الأكبر، مخبأة فى غرفة سرية لم تُكتشف بعد. هذه واحدة من العديد من الاحتمالات التى يأمل فريق البحث فى ScanPyramids التحقق منها.
يقول رئيس الفريق: "لسوء الحظ، نحن لسنا علماء آثار. آلاتنا العلمية مصممة لمسح الأهرامات على نطاق واسع، بقدر ما تسمح حدود التكنولوجيا. إذا كان هناك فراغ، فإن علماء الآثار الأخرين هم من سيخبرنا لماذا يوجد هذا الفراغ من خلال معرفتهم التاريخية والمعمارية. يمكن مقارنة نهجنا بما يحدث عندما يطلب عالم مصريات من خبير الطب الشرعى فحص جثة مومياء باستخدام ماسح طبى. إنها عملية تعاونية – إذا تمكنا من تحديد أن الغرف لا تحتوى على أى علامات يمكن اعتبارها تابوتًا، يمكن أن يستمر البحث عن "خوفو" فى مكان آخر. إنه لغز لا يمكن لحقل علمى واحد أن يحله بمفرده."
هذا لا يعني أن ScanPyramids انتهت من دراسة الهرم الأكبر والهياكل الأخرى فى الجيزة. مثل بقية المجتمع العلمى الأثرى، فإن غياب الإجابات الواضحة يزيد فقط من الرغبة فى معرفة المزيد. خذ على سبيل المثال الانعكاسات الحرارية الغريبة التى اكتشفتها فريق مسح منفصل فى عام 2015 – لغز جديد ينضم إلى العديد من الألغاز الموجودة بالفعل.
فريق العمل يركز أيضًا على هذا اللغز الجديد للهرم الأكبر: "لا نعرف بالضبط ما السبب فى هذه البقع الحرارية، لكننا نعمل الآن مع تلسكوبات الميونات من خارج الهيكل لفهم تلك المناطق بشكل أفضل. نقوم أيضًا بإجراء مسح حرارى متعدد لمدة 24 ساعة – هدفنا هو تسجيل الفروق فى درجات الحرارة لفترة طويلة لتقليل تأثير العوامل الخارجية مثل الرياح. هذه المهمة تتعلق بالإحصاءات والقياسات طويلة المدى. الهرم الأكبر قد بُنى منذ أكثر من 4000 عام، لذا فإن مهمة مدتها عام هى الحد الأدنى لفهمه بشكل أفضل."
بينما تحاول ScanPyramids تحسين وتطوير تقنياتها لمواصلة تحليل محتويات ما قد يكون أو لا يكون النصب التذكارى العظيم لخوفو. يقولون: "نعمل بحذر شديد، والتقدم يتحقق خطوة بخطوة. كل يوم نحقق تقدمًا فى التقنيات اللازمة لفهم هذا الهيكل. على سبيل المثال، فى بداية عملنا فى "الجيزة"، كان المستحلب الكيميائى الذى استخدمناه للمسح يمكن تعريضه لمدة 40 يومًا فقط (بسبب الرطوبة ودرجة الحرارة). الآن لدينا مستحلب جديد يمكن تعريضه لأكثر من 60 يومًا – مما يسمح لنا بتسجيل المزيد من مسارات الميونات والحصول على صور أكثر دقة."
لذا، سواء كنت تزور "الجيزة" كسائح أو كعالم، يظل الهرم الأكبر والاهرامات والآثار المجاورة الأخرى من أكثر إنجازات البشرية إثارة للإعجاب.
من خلال تلك الآثار الأبدية تقريبًا، تواصل حضارة عاشت منذ زمن طويل حكم أحفادها الحديثين باعتبارهم حراسها الصامتين.
وسواء كان الهرم الأكبر حقًا مكان راحة "خوفو" الأخير أم لا، فإن المكائد السياسية الغامضة للماضى لا يمكنها أن تقلل من عظمة هذه العجيبة العالمية.
تعليقات