نارمر : أبو مصر

الحاكم العظيم الذى وحد "مصر" وأسس مملكة استمرت لآلاف السنين  

عن: "جيمس هورتون"  

يبقى تاريخ "مصر" القديمة، هو واحد من أكثر العصور شهرة ورومانسية وتقديرًا فى التاريخ الإنسانى كله. 

كقوة عظمى فى شمال إفريقيا، وعلى مدى ثلاثة آلاف عام، كان لدى المصريين الوقت لصقل ثقافة رائعة، وبناء آثار ضخمة لحكامهم وآلهتهم، وترك إرث غنى من الآثار التى تمكننا من التفاعل المستمر مع قصصهم حتى اليوم. 

لكن لكل قصة بداية، وفى بداية قصة "مصر" كان هناك "الملك نارمر"، أول ملك لمصر الموحدة.  

على عكس الكم الهائل من التواريخ المنشورة والخطب والسير الذاتية والحسابات الشخصية التى تركتها لنا حضارات أكثر حداثة مثل الإمبراطورية الرومانية، فإن مصادرنا التى تعود إلى زمن الملك "نارمر" – الذى حكم منذ حوالى خمسة آلاف عام – قليلة بشكل مفهوم. ولكن بسبب أهميته الكبيرة، تم توثيق إنجازاته من خلال العديد من القطع الأثرية التى تم اكتشافها، حيث تؤكد كل قطعة بشكل كبير الرواية التى تقدمها القطع الأخرى.  

كما أن القطع الأثرية التى تعود إلى ما قبل وبعد عهد "نارمر" توفر سياقًا لهذه القطع، مما يمكننا من استكشاف التغييرات التى أحدثها الملك الأول فى بلاده وثقافتها. بالإضافة إلى ذلك، بدأ علم الآثار الحيوية المتقدم فى الكشف عن تحركات المستوطنات وحالة الأراضى الزراعية خلال هذه الفترة. وبالتالى، ومع هذه القطع الأثرية الثمينة، يمكننا البدء فى تجميع حياة ضخمة لأول حاكم لمصر.  

ومع ذلك، هناك قطعة أثرية واحدة تستحق ذكرًا خاصًا. إنها واحدة من أقدم السجلات التاريخية فى العالم: لوحة "نارمر". تم اكتشاف اللوحة فى عام 1898، ومنذ ذلك الحين اعتبرت واحدة من أهم الاكتشافات التاريخية على الإطلاق. مع نقوش معقدة ودالة على كلا الجانبين، تعتبر لوحة "نارمر" بوابتنا الرئيسية لفهم الملك نفسه، حيث تم نقش جوهر قصته على وجهى اللوحة.  

عادةً، كانت مثل هذه الألواح الحجرية تستخدم من قبل المصريين لطحن وتحضير مستحضرات التجميل، التى كانت تستخدم على نطاق واسع. كان الكثيرون يضعون مستحضرات التجميل تحت العينين لتخفيف وهج الشمس؛ كما كان يتم تزيين الصيادين بها بشكل طقسى قبل بدء الصيد؛ بالإضافة إلى استخدامها فى الموضة وإظهار الجمال. ولكن من المرجح أن لوحة "نارمر" بسبب حجمها الكبير، كانت تستخدم لأغراض احتفالية داخل معبد دينى، فحجمها كان أكثر من ضعف حجم لوحة التجميل العادية. ربما كانت اللوحة تحمل دلالات رمزية بحتة، بدلًا من أن تكون وظيفية، أو ربما كانت تستخدم لوضع مستحضرات التجميل على تماثيل الآلهة فى المعبد. أيا كان استخدامها، فإننا محظوظون لأن اللوحة صمدت سليمة لخمسة آلاف عام .  

الآن، لننتقل إلى اسم الملك. عادةً ما يكون اسم الشخصية التاريخية بسيطًا، ولكن في حالة "نارمر"، فإن اسمه يعتبر واحدًا من أكثر الجوانب إثارة للجدل. يشتهر المصريون بلغتهم الفنية والرمزية، المتمثلة فى الهيروغليفية. كانت هذه الرموز تشبه الصور ولكنها أدت دورًا مزدوجًا كلغة، حيث كانت تستخدم أحيانًا صوتيًا وأحيانًا تصويريًا. يمكننا أن نفهم اسم "نارمر" فى مثل هذه الظروف – من خلال واحدة من أقدم الحالات الموثقة للهيروغليفية المكتوبة على لوحة "نارمر".  

على كلا جانبى اللوحة، فى الجزء العلوى الأوسط على أحد الوجوه وبجوار الملك نفسه على الوجه الآخر، توجد هيروغليفيتان: سمكة السلور والإزميل. كان المصريون القدماء ينطقون سمكة السلور كـ "نر" والإزميل أحيانًا كـ "مر". إذا تم أخذ هذه الرموز صوتيًا، فإنها تمنح الملك اسمه: "نارمر"، أو "سمكة السلور-إزميل". ومع ذلك، يرى بعض العلماء أن اسم "نارمر" قد يكون خطأً. أولاً، لأن الإزميل له نطق آخر أكثر شيوعًا، وثانيًا لأن سمكة السلور ربما كانت تهدف إلى أن تكون رمزًا للملك بدلًا من تكون دليل صوتى. فى أماكن أخرى على اللوحة، يتم تصوير "نارمر" كصقر وثور، وقد يكون تم تصويره كعقرب على قطع أثرية أخرى. ربما كانت سمكة السلور تصويرًا آخر للقوة من عالم الحيوان – باعتباره مفترس مخيف مثل الصقر والعقرب.  

هناك تعقيد آخر يأتى مع اسم "نارمر" وهو الإشارة اللاحقة إلى ملك يدعى "مينيس"، الذى تم توثيق وجوده فى أماكن أخرى على أنه حكم فى نفس الفترة. ربما كان "مينيس" سلفًا أو خلفًا لنارمر، ولكن على الأرجح أنهما نفس الشخص. من غير الواضح ما إذا كان اسم "مينيس" يعنى ببساطة "شخص ما" – نتيجة لفقدان اسم الملك فى التاريخ لفترة من الوقت – أو بدلاً من ذلك يكون معناه "هو الذى يصمد". ربما كان "نارمر" هو اسم حورس للملك. سواء كان معروفًا حقًا باسم "نارمر" أو "مينيس" أو أى اسم آخر، فإن التاريخ سيتذكر أول ملك لمصر كـ "سمكة السلور-إزميل".  

لحسن الحظ، لدينا ثقة أكبر بشأن "نارمر" قبل أن يصبح أول ملك لمصر الموحدة. فخلال صعوده إلى العرش، كانت "مصر" لا تزال مقسمة إلى قوتين. كانت مملكة "نارمر" تقع فى الجنوب، وتعرف باسم "مصر" العليا (الصعيد الآن). بينما كانت "مصر" السفلى تقع فى الشمال(الدلتا الان)، حيث تلامس البحر الأبيض المتوسط وتحد سوريا وتقترب من فلسطين. أصبح "نارمر" ملكًا لمصر العليا وسرعان ما وجه انتباهه إلى جارته، فاستولى على "مصر" السفلى ووحد المملكة تحت حكمه.  

لا يوجد تصور تاريخى يصف سبب زحف "نارمر" على "مصر" السفلى، ولكننا نتفهم ما يكفى من ظروف تلك الفترة، بما يمكنا من تقديم تخمين مدروس. 

كما يعرف الكثيرون، فإن شريان الحياة لعظمة "مصر"، هو نهر النيل. لدرجة أن المؤرخ اليونانى "هيرودوت"، عندما زار "مصر" فى القرن الخامس قبل الميلاد، وصفها بأنها "هبة النيل". لم يقصد بهذا الإطراء للناس، بل كتصريح بأنه بدون النيل، لما كانت "مصر" ستصل إلى تلك المكانة الفلكية. كان النيل بلا شك مهمًا للغاية: كل عام كان الماء يتحول إلى اللون الأحمر، ثم الأخضر، ثم يرتفع 30 مترًا ويغمر ضفافه. وعندما يتراجع، كان يترك تربة رطبة وخصبة للغاية يستخدمها المصريون كأراضٍ زراعية. لم يفهم السكان المحليون تغيرات اللون كنتاج لتحرك التربة السطحية والنباتات العائمة، ولا ارتفاع منسوب المياه نتيجة الأمطار الصيفية الغزيرة، بل اعتبروها هبة سحرية.  

عاش معظم سكان "مصر" بالقرب من النيل. كان المزارعون من المناطق الصحراوية القاسية يهاجرون ويستقرون بالقرب من ضفافه، مما زاد من عدد السكان. ربما بدأ هذا يضع ضغطًا على "نارمر" وحاشيته للتوسع والمطالبة بأراضٍ جديدة لشعبهم، ولم يكن لديهم مكان يذهبون إليه سوى الشمال. البقاء بالقرب من النيل يعنى العثور على أراضٍ خصبة، أما الابتعاد عنه فكان يعنى العثور على مناطق قاحلة إلى حد كبير.  

ومع ذلك، كان عدد سكان مملكة "نارمر" صغيرًا على الأرجح – حيث تراوح عدد سكان "مصر" بين 200 ألف ومليونى نسمة خلال هذه الفترة – مما دفع العلماء إلى الاعتقاد بأن الأراضى المتاحة لم تكن  هى المشكلة. ولكن إذا لم يكن "نارمر" وحاشيته يطمعون فى ضم جيرانهم الشماليين بسبب أراضيهم الخصبة، فقد كانوا يحسدونهم على روابطهم التجارية. كانت "مصر" السفلى تفصل "مصر" العليا عن الشرق الأوسط وجميع العناصر الغريبة التى كانت ترغب فيها حاشية "نارمر". السيطرة على الشمال كانت تعنى الحصول على حدود مع الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، مما يوفر وصولًا إلى تجارة أفضل.  

لذلك، ربما كانت لمصر العليا، بقيادة "نارمر"، ما تكسبه من ضم جارتها الشمالية. تحول السلطة من عاصمة "مصر" العليا، "هيراكونبوليس"، إلى "ممفيس" فى "مصر" السفلى بعد التوحيد، يشير إلى مكانة الاقتصاد المصرى، مما يعزز فكرة أن "مصر" السفلى كانت مطمعًا لحاشية "نارمر".  

نجد على لوحة "نارمر" دليلًا على أن "مصر" السفلى تم الاستيلاء عليها بالقوة، حيث يظهر الملك، هذه المرة على شكل ثور، وهو يحطم أسوار مدينة. على الجانب الآخر نرى الملك واقفًا بفخر بعد الانتصار؛ فى يده اليسرى يمسك عدوه المهزوم وهو راكع من شعره، وفي يده اليمنى يمسك هراوة مرفوعة عاليًا، مستعدًا لضرب المهزوم. على رأس "نارمر" يوجد التاج الأبيض الطويل لمصر العليا. هذا الوضع، المعروف الآن بوضع "الضرب"، سيتم تقليده من قبل خلفاء "نارمر" على مدى الثلاثة آلاف عام القادمة.  

نرى أيضًا، للمرة الأولى، أن "نارمر" تم تصويره كحورس نفسه على نفس الجانب من اللوحة. العدو المهزوم يتم الإمساك به من أنفه بواسطة صقر – التمثيل الحيوانى لحورس – الذى يمسك الحبل، ويقيد العدو بقوة من مخالبه. اللوحة تعلن أن "نارمر" و"حورس" هما نفس الكيان. تصوره اللوحة كتمثيل للإله "حورس" على الأرض، مما يؤسس تقليدًا سيستمر من قبل جميع فراعنة "مصر" الذين تبعوه.  

فوق صورة الثور على الجانب الآخر من اللوحة، يبدو أننا نقفز إلى الأمام فى الزمن إلى موكب "نارمر". يتم تصويره هنا كعملاق، على الأقل ضعف حجم الذين يسيرون أمامه، وهذه المرة يرتدى التاج السفلى، كدليل على حكمه على كلا المملكتين. وفى نهاية الموكب، بعد مساعده الذى يرتدى جلد الفهد وحاملة الأعلام، يوجد أعداؤه، وقد تم قطع رؤوسهم جميعًا، بينما أيديهم لا تزال مقيدة خلف ظهورهم. الرسالة بسيطة وواضحة: ويل لمن يتحدى الملك الإله. لقد تم توحيد "مصر".  

من الصعب تقدير تأثير "نارمر" على عملية تطور مصر إلى قوة عظمى قديمة. فهو لم يكتفِ بضم أراضى "مصر" تحت حكم حاكم واحد، بل إن حكمه أظهر بشكل أساسى أن الحكم بواسطة ملك، أو لاحقًا فرعون، سيؤدى بالأمة المصرية إلى العظمة. تخيل الانتقال من دولة مجزأة – مليئة بجيوب من الناس يسعون لتحقيق أجنداتهم الخاصة – إلى كيان موحد ومتجانس يعمل الجميع فيه نحو هدف مشترك. هذه هى الإمكانية التى علمها "نارمر" لخلفائه.  

مع وجود "نارمر" كحاكم  مصرى لا جدال عليه، أصبحت لديه الوسائل لتعبئة السكان بأكملهم للقيام بأى مهام، وبالتالى أصبح قادرًا على التحكم فى أكبر مورد موجود لديه: "النيل". 

توجد هناك أدلة على أن بعض عمليات التحكم فى الرى قد حدثت قبل عهد "نارمر", حيث تم حفر قنوات من النيل لزيادة تدفق المياه وتوزيع التربة الخصبة فى الداخل. ولكن لم يحدث من قبل أن تم تنظيم هذا الجهد عبر "مصر" بأكملها. أصبح الإنتاج الزراعى بالقرب من النيل، ربما أكثر من أى وقت آخر، يقدم فائضًا كبيرًا من الغذاء. والرجال الذين كانوا مقيدين سابقًا فقط بالزراعة والصيد، تم تحريرهم من هذه المهام، وبدلاً من ذلك كان يمكن أن يخدموا فى جيش مصر. والمناطق المجاورة التى لم تكن تتمتع بالغلال الوفيرة التى يوفرها النهر العظيم لم تكن قادرة على تجنيد العديد من الجنود، ولا إبقائهم فى الميدان لفترة طويلة. لكن هذا الفائض الغذائى كان بإمكانه تحقيق القوة، وبكميات هائلة.  

"مصر" التى سيتركها "نارمر" ستكون كيانًا مختلفًا تمامًا عن تلك التى ولد فيها. لقد حول أمته إلى ربما أعظم حضارة فى العالم القديم – حضارة ستتبع مثاله وتبقى فخورة وقوية على مدى الثلاثة آلاف عام القادمة.

إنه إنجاز لا يمكن إنكاره، كما أن فكرة الملك الإله وجدت جذورها مع "نارمر"، وستنتشر فى كل جانب من جوانب الثقافة المصرية فى المستقبل.  

كانت مقابض السكاكين المنحوتة قبل "نارمر" تركز غالبًا على الحيوانات والجهد الجماعى للصيد. ولكن فى عهد الفراعنة، تحولت هذه الأعمال لتضع شخصية سلطوية فى مركز العمل. الفراعنة أنفسهم أصبحوا أكثر افتتانًا بمكانتهم، بناءً على سابقة "نارمر". 

لدينا بعض الأدلة التى تشير إلى أن قبر "نارمر" يقع فى "أم القعاب" فى مصر العليا. إذا كان هذا صحيحًا، فإن مكان راحة نارمر كان متواضعًا بشكل مدهش مقارنة بالملوك الآلهة الذين تبعوه. 

ربما مع تعزيز مكانتهم الإلهية، نمت أيضًا طموحاتهم للخلود، حيث تم بناء هياكل ضخمة ومذابح لمواصلة خدمة الملوك الفراعنة فى الحياة الآخرة. ولكن على الرغم من جهودهم الكبيرة في الترويج لأنفسهم، فإن قلة من قادة مصر اقتربوا من محاكاة إنجازات "نارمر" – مؤسس الأسرة الأولى ومؤلف الفصل الأول من تاريخ مصر.  

"ممفيس" – مدينة الجدران البيضاء  

 قلب الثقافة والتجارة والسلطة فى "مصر" القديمة  

تقول الأسطورة إن الملك "مينا"، أو "نارمر" كما يُعرف أيضًا، أسس مدينة "ممفيس" بعد توحيد "مصر". تقع المدينة بالقرب من قاعدة دلتا النيل فى شمال مصر القديم ( موقع قريب من القاهرة الآن)، وسرعان ما أصبحت مركزًا تجاريًا رئيسيًا ومقرًا رسميًا للفراعنة لنحو ألف عام. ومن مركز قوتهم فى "ممفيس"، أشرف الفراعنة على بناء الأهرامات العظيمة والمعابد، التى لا يزال بعضها قائمًا حتى اليوم.  

في بداياتها، أُطلِق على المدينة اسم "الجدران البيضاء" بسبب الطوب الطينى المبيض الذي استُخدم فى بناء قصر الملك. كما ارتبطت باسم آخر، "حوت-كا-بتاح"، تكريمًا للإله بتاح، راعى المدينة. وكان لهذا الاسم أهمية كبيرة فى الألفيات التالية، حيث اختصر الإغريق الاسم القديم للمدينة إلى "إيجيبتوس"، مما أدى إلى ظهور اسم البلاد كما نعرفه اليوم.  

على الرغم من فقدانها مكانة العاصمة بحلول القرون الأولى قبل الميلاد، إلا أن "الإسكندر الأكبر' توج نفسه فرعونًا لمصر فى ممفيس، مما ربطه بأول حاكم لمصر. لسوء الحظ، بحلول القرن السابع الميلادى، كانت المدينة قد تحولت إلى أطلال، ولكن بقاياها نُقلت إلى القاهرة المجاورة، مما جعل المدينة العظيمة القديمة جزءًا من المدينة الجديدة.■

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة