الملك العظيم "رمسيس الثانى"

 "رمسيس الثانى" المُخلَّد فى الأساطير والأشعار، هو بلا شك أعظم وأقوى فراعنة الإمبراطورية المصرية.  

كان ذلك فى العام 1274 قبل الميلاد.

بدا وكأنه إلهٌ فى طريقه إلى المعركة. 

واقفًا بطوله الفارع الذى يقترب من 190 سم، بفكه المربع البارز، وشفتين غليظتين، وأنف طويل حاد.

"رمسيس الثانى" يقود عربته الذهبية متقدمًا جيشًا قوامه 20,000 من الرماة، ومقاتلى العربات، والمشاة المدربين.

بعد خمس سنوات فقط من حكمه كفرعون، كان قد أثبت بالفعل أنه محارب شرس وقائد عسكرى استراتيجى، ووريث شرعى لسلالة الأسرة التاسعة عشرة حديثة التأسيس، والابن الروحى للإلهة إيزيس نفسها. 

كان جنود "رمسيس" يرون قائدهم الأعلى كما يراه باقى المصريين: إلهًا فى صورة بشرية، يتمتع بقوة وشجاعة أسطورية، معصوم من الخطأ، ومكلف بمهمة إلهية لإعادة تأسيس مصر كقوة عظمى مهيمنة فى الشرق الأوسط.  

كانت وجهة "رمسيس" هى "قادش"، مدينة سورية محصنة بشدة فى وادى نهر العاصى. 

كانت قادش مركزًا تجاريًا واقتصاديًا مهمًا، وعاصمة فعلية لمملكة "عمورو"، وهى قطعة أرض شديدة الأهمية تقع على الحدود بين الإمبراطوريتين المصرية والحيثية. عندما كان "رمسيس" صبيًا، رافق والده "سيتى الأول" عندما استعاد الملك المصرى أخيرًا قادش من الحيثيين بعد أكثر من نصف قرن من المحاولات الفاشلة. 

لكن بمجرد عودة "سيتى" منتصرًا إلى "مصر"، أعاد حكام قادش الماكرون ولاءهم للحيثيين. 

الآن يعود "رمسيس" إلى سوريا لإنقاذ سمعتين: سمعة والده وسمعة إمبراطوريته العظيمة.  

كان "رمسيس" وجيشه يسيرون لمدة شهر. غادروا من مقر الفرعون الملكى على الضفة الشرقية لدلتا النيل الخصبة فى أبريل، عبروا شبه جزيرة سيناء، واتبعوا منحنى الساحل المتوسطى صعودًا عبر كنعان، مرورًا بموقع مَجيدو الاستراتيجى فى المرتفعات، وصولاً إلى الوديان الخصبة فى لبنان، وأخيرًا وصلوا إلى الغابات خارج قادش. 

انتشر الكشافة التابعون للفرعون لتقييم استعدادات العدو للمعركة. 

قدم السكان المحليون صورة مضللة ومفيدة. كان الملك الحيثى "مواتلى" خائفًا جدًا من "رمسيس" العظيم ومقاتلى عرباته الأسطوريين لدرجة أن الجيش الحيثى كان ينتظر على بعد مائة وخمسون كيلومتر.  

وُلد جد "رمسيس الثانى" باسم "باراميسو"، كان جندى مشاة صعد إلى رتبة جنرال فى الجيش المصرى. لقد نال رضا "حور محب"، وهو رجل عسكرى آخر كان قد أصبح فرعونًا بعد وفاة الملك الشاب "توت عنخ آمون". رأى "حور محب"، الذى لم يكن لديه أبناء، فى "باراميسو" تلميذًا  نجيباً سيقود حملته العدوانية لقمع القبائل المتمردة فى النوبة وليبيا وسوريا البعيدة من أجل تعزيز نفوذ المملكة. 

عندما توفى "حور محب"، صعد "باراميسو" إلى العرش وغير اسمه إلى "رعمسيس محبوب آمون"، الرجل الذى يعرفه التاريخ باسم "رمسيس الأول".  

تم إعداد "رمسيس الثانى" منذ ولادته، ليكون فرعونًا. 

ورث والده "سيتى الأول" العرش بعد 18 شهرًا من تتويج "رمسيس الأول" ملكًا، وتربى الابن فى القصور الملكية الفاخرة للفراعنة، حيث كان يقوم على خدمته الممرضات والخادمات، وقام بدراسة وإتقان الكتابة، والشعر، والفن، والأهم من ذلك، القتال. 

عين "سيتى الأول" إبنه "رمسيس" قائدًا أعلى للجيش عندما كان الأمير الصغير فى العاشرة من عمره فقط. وفى سن الرابعة عشرة، بدأ "رمسيس" مرافقة والده فى الحملات العسكرية، وشهد قوة مقاتلى العربات المصريين الساحقة فى المعركة أكثر من مرة.  

بيراميسى:  

تقع "بيراميسى" على بعد 120 كيلومترًا من القاهرة الحديثة، بدأت كقصر صيفى متواضع بناه والد "رمسيس"، "سيتى الأول"، بالقرب من مسقط رأس العائلة على الضفة الشرقية لدلتا النيل. وعلى مدار 18 عامًا من البناء والتوسع، أصبحت "بيراميسى" ثالث أكبر مركز دينى فى "مصر" بعد "ممفيس" و"طيبة"، والعاصمة السياسية للإمبراطورية بأكملها. 

لم يتبق الكثير من عظمة "بيراميسى" اليوم، لكن الروايات تصفها كمدينة لا تضاهى فى جمالها وثروتها. كان الحى الملكى يقع على تلة تطل على النيل. شوارع مبطنة بالمقار الملكية والمعابد، وعشرة كيلومترات مربعة من الأعمدة الشاهقة، والساحات الواسعة، والسلالم المزينة بالفسيفساء متعددة الألوان. عاشت بها أغنى عائلات الإمبراطورية، والمسؤولون الحكوميون، وكهنة المعابد فى فيلات محيطة متصلة بالقنوات والحدائق المائية الخصبة.  

كانت الأراضى الزراعية المحيطة بالمدينة من بين الأكثر خصوبة وإنتاجية فوفرت لبيراميسى الحبوب والفواكه والخضروات الكافية لإطعام 30,000 من سكانها وملء مخازن الفرعون الواسعة. كانت بيراميسى أيضًا عاصمة عالمية مبهرة. من المحتمل أن "رمسيس" اختار موقع المدينة لقربها من قلعة "صالح"، البوابة التقليدية للمقاطعات الشرقية فى فلسطين وسوريا والإمبراطوريات الآسيوية. 

وصل الدبلوماسيون الأجانب والتجار والعمال المهاجرون إلى العاصمة الجديدة بأعداد كبيرة. فبالإضافة إلى المعابد المصرية التقليدية المبنية لـ"ست" و"آمون"، كانت هناك طوائف أجنبية مكرسة لـ"بعل" و"عناة" والإلهة السورية "عشتروت"، التى تبناها الفرعون كإلهة راعية لخيول عرباته. 

من المهم أن نلاحظ أن فراعنة "مصر" القديمة لم يكونوا مجرد رموز؛ لقد أدوا أدوارًا متعددة كقادة دينيين، وجنرالات عسكريين، وحكام سياسيين. كانت المسؤولية النهائية للفرعون هى قيادة الإمبراطورية نحو "ماعت"، الحالة المثالية للتناغم الكونى، والعدل، والنظام، والسلام. 

كان المصريون فلكيين ماهرين، ورصدوا حركات الأجرام السماوية المنتظمة والمتوقعة، وكان كل منها مرتبط بإله أو إلهة. كان هدف الأفراد والمجتمع المصرى ككل هو عكس التناغم الإلهى للسماء على الأرض. 

ومن خلال أدواره القانونية والدينية والعسكرية، كان الفرعون هو الأكثر تأثيرًا فى تحقيق ذلك.  

بهذا المعنى، كان "رمسيس" بالفعل فرعونًا عظيمًا.  

تمتعت الإمبراطورية المصرية تحت حكمه بفترة طويلة من الاستقرار و"ماعت". ورغم كل الادعاءات حوله كمحارب خارق سحق أعداءه بمئات الآلاف، إلا أن "رمسيس" كان فى الواقع استراتيجيًا عسكريًا وسياسيًا ذكيًا.

ليست "قصيدة بنتاور" هى الوثيقة الوحيدة التى تثبت عظمة "رمسيس". توجد معلقة فى ممرات مبنى الأمم المتحدة فى "نيويورك" نسخة طينية من أول معاهدة سلام فى العالم، وُقعت عام 1269 قبل الميلاد من قبل الملك الحيثى "حاتوسيليس الثالث" والملك المصرى "رمسيس الثانى". 

لقد كانت النتيجة الحقيقية لمعركة قادش هى مأزق دموى. فعلى حين أنقذ وصول التعزيزات من البحر "رمسيس" من كمين العربات الحيثية. دفعت القوات المصرية الحيثيين إلى ما وراء نهر العاصى، لكن كلا الجانبين فقد الكثير من الرجال فى المعركة الدموية لدرجة أن كلا الملكين فقدا شهيتهما للقتال. وعاد "رمسيس" إلى "مصر" بعد حملة عسكرية استمرت أشهرًا.  

بعد عقد من الزمان، عاد الفرعون مرة أخرى لإثبات قوته بقيادة قواته شمالًا لاختبار قوة عمورو وقادش. هذه المرة، كان الملك الحيثى مواتلى قد مات، وكانت الإمبراطورية الحيثية في خضم أزمة خلافة. استولى "رمسيس" بسهولة على المدينة وضم عمورو إلى "مصر". 

رغم توقعه لرد فعل عنيف من الحيثيين، فوجئ "رمسيس" بوفد من الدبلوماسيين الحيثيين. 

كان الملك الجديد حاتوسيليس لديه ما يشغله أكثر من فرعون مصرى لديه عداء قديم معهم. 

فقد جمع الآشوريون فى الشرق ثروة وقوة سياسية تهدد بسحق أى إمبراطورية تقف فى طريقها. اقترح حاتوسيليس، أنه يمكن للحيثيين والمصريين الدفاع عن سيادتهم معا.  

معاهدة السلام المعلقة فى الأمم المتحدة هى شهادة على الرؤية السياسية طويلة المدى لرمسيس. كان يمكنه بسهولة اعتبار عرض حاتوسيليس علامة ضعف ومحاولة سحق الحيثيين مرة واحدة وإلى الأبد. بدلاً من ذلك، رأى فرصة للتخلى عن عداء عمره قرون كلف "مصر" أرواحًا وموارد، وانخرط فى عمل دبلوماسى غير مسبوق يجلب السلام والاستقرار للمملكة لأجيال قادمة. ولإضفاء الطابع الرسمى على العلاقة الجديدة بين الحيثيين والمصريين، قبل "رمسيس" إحدى بنات حاتوسيليس كزوجته السابعة الرئيسية.  

هناك حيلة فنيه اخرى اتبعها "رمسيس"، حيث أمر بنقش جميع معابده بنقوش غائرة من الداخل والخارج. وهذا هو أحد الأسباب التى مكنت "رمسيس" من بناء معابد أكثر من أى ملك قبله أو بعده.  

هناك من ينتقدون أسلوب "رمسيس" المسرحى" المتفاخر بالذات ويدللون بأدلة دامغة فى التمثالين فى أبو سمبل. كلتا البنيتين منحوتة مباشرة فى الصخر على منحدر صخرى يطل على منعطف فى نهر النوبيين. 

يرون أن "رمسيس" تخلى عن كل ادعاءات التقوى فى بناء المعبد الأكبر فى أبو سمبل، الذى يُطلق عليه "معبد رمسيس محبوب آمون". 

أربع تماثيل ضخمة لرمسيس - يبلغ ارتفاع كل منها أكثر من 21 مترًا - تحرس مدخل المعبد العظيم.

فى الداخل، كل جدار يحمل إشارة إلى الفرعون العظيم "رمسيس". كل عمود فى القاعة الكبيرة منحوت على شكل "رمسيس" فى صورة "أوزيريس". وتصور النقوش الجدارية انتصارات "رمسيس" العسكرية البطولية. 

وفى أقدس الأماكن، تجلس ثلاثة من أكثر الآلهة الموقرة فى البانثيون المصرى - "بتاح"، "آمون"، و"رع" - بجانب صورة رمسيس المؤله نفسه.  

كان "رمسيس" فى عصره، هو بلا شك أقوى رجل على وجه الأرض. كان الحاكم الإلهى لحضارة مزدهرة ومتماسكة، كانت متقدمة بقرون على عصرها. كفرعون لمصر، تفوق فى كل المجالات: سحق الأعداء الأجانب فى المعركة، وحافظ على النظام الداخلى فى مملكته، وبنى آثارًا ضخمة للآلهة فى جميع أنحاء "مصر"، وحفظ إرثه المجيد حتى وفاته.  


وطالما ظلت صورته الصارمة باقية على منحوتاته الحجرية فى مملكته العظيمة، ستستمر عظمة "رمسيس" فى الصمود عبر العصور.



ل: ديف رووس  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة