الرحلة الأولى ل"جوزفين بيكر"* داخل أوروبا ثلاثينات القرن الماضى
كما روتها ل"مارسيل سوفاج" فى لو فيزينيه، فرنسا، عام 1930
*"جوزفين بيكر" ( Joséphine Baker) ( 3 يونيو 1906 – 12 أبريل 1975) هى راقصة ومغنية وممثلة أمريكية المولد فرنسية الجنسية. تعد أول نجمة سوداء فى التاريخ الحديث. تركزت مسيرتها الفنية بشكل رئيسى فى أوروبا، وخاصة فى فرنسا. كانت أول امرأة سوداء تشارك فى بطولة فيلم سينمائى رئيسى، عام 1927. خاطرت بحياتها اثناء الحرب العالمية الثانية، حيث عملت جاسوسة للمقاومة الفرنسية ضد النازية. كما كانت ناشطة حقوق مدنية ومناضلة ضد التمييز العنصرى فى الولايات المتحدة. عندما توفت دفنت فى مقبرة العظماء فى باريس.
السرد:
هولندا:
ما أحبه فى النجاح، يا سيد سوفاج، هو ذلك الحب الذى يأتى مصاحباً له، ليست المفاجأة أو الدهشة، وبالتأكيد ليس الإعجاب بل إنه الحب.
لذا، كونى أصبحت مصدراً لفضول الآخرين هو أمر شاق جدًا بالنسبة لى.
إننى اقوم بوظيفة لا يتم تقديرها، يمكننى أن أريك عقود جولتى الأوروبية: فى كل مرة، بعد عروض المسرح وصالات الموسيقى، كان على الذهاب للرقص فى الكباريهات، وأن أقدم عروضى الخاصة للترفيه على الناس كما كنت أفعل فى كباريه مونمارتر. كان ذلك مكتوبًا فى هذه العقود: "وظيفتك الترفيه عن الناس"... نتف لحية الرجال الكبار، أو مجاملة السيدات البدينات، وجعلهن يرقصن بمعاطفهن الفاخرة وملابسهن المبالغ فيها—تعرف هذا النوع. الناس بحاجة إلى المرح هذه الأيام. وكانوا يعتقدون أننى أيضًا أستمتع بذلك، بالطبع أحيانًا كنت أستمتع، ولكن ليس بالطريقة التى قد يظنها البعض.
سأبدأ من عام 1928، فى هولندا.
الهولنديون أناس جادون ومنفتحون. يأكلون جيدًا وهم لا يبتسمون كثيرًا، ولكن عندما يبتسمون، فإنهم يعنون ذلك حقًا. كلهم تقريبًا أقوياء، مثل جدران البحر فى بلادهم. ويمكن للجميع التحدث بسهولة بثلاث أو أربع لغات.
سرعان ما أصبحت معروفة فى جميع أنحاء "هولندا". ذات مرة، فى مدينة صغيرة نظيفة—وهادئة، هادئة جدًا—أوقفنى بعض الناس فى الشارع. جذبونى من كمى وطلبوا منى الرقص. فرقصت. كان الجميع سعداء. كانت هناك امرأة تشاهدنى وهى تحمل طفلًا صغيرًا، طفل جميل، فحملته. أردت أن أقبله، وأن أهزه قليلاً؛ كنت أرغب فى الرقص معه قليلاً أيضًا، ولكن والدته رمقتنى بنظرة احتقار، وقبل أن أدرك، كانت قد انتزعته منى... هل تفهم؟ لقد أخذت طفلها بعيدًا عن هذه المتوحشة.
يعتقد الناس أننى جئت مباشرة من الأدغال. أعتقد أنه فى بعض مناطق هولندا، والدول الأخرى التى زرتها، لن يجد الناس أى غضاضة فى إطعامى زجاجًا مطحونًا. عندما يتعلق الأمر بالسود، فخيالات الناس البيض هى أنهم بدائيون يتميزون بالحماقة وانعدام الاحساس، التحيزات هى هى نفسها فى كل مكان.
ولكن بالنسبة لى أصبحت "باريس" الآن هى الادغال التى انتمى اليها. اننى أحبها من كل قلبى، وهذا الحب يشبه النبيذ—(الذى لا أستطيع شربه)، لأنه يذهب مباشرة إلى رأسى الصغير.
انا لا أستطيع الشرب على الإطلاق. ولكن "باريس" تسكرنى.
اعذرنى... كنا نتحدث عن "هولندا".
"لاهاى" هى عاصمة الدراجات والطوب الأحمر. رجال الشرطة يرتدون قفازات بيضاء كبيرة مثل تلك التى يرتديها الممثلون الزنوج فى العروض الاستعراضية.
بالنسبة إلى "روتردام" و"أمستردام": فهناك الكثير من الأحداث، إنها أكثر حيوية؛ القوارب، التجارة، وتعج بالألوان، بقع وشظايا من كل لون، مثل قطع الزجاج فى تلك التلسكوبات التى تدورها، أتعرف؟
الهولنديون يحبون الكثير من الألوان الكبيرة، الألوان الحقيقية، مثل الأحمر والأصفر. قضيت شهرًا واحدًا فى تلك البلاد المليئة بالماء والرمل وأشجار الصنوبر. من أغسطس إلى سبتمبر 1928. وتعلمت أن أحبها. أود أن أحب كل البلدان. ولكى تفعل ذلك، يجب أن ترتدى مثلما يرتدون فى تلك البلدان. لذا ارتديت مثل سيدة هولندية، بقبعة بيضاء، فستان طويل واسع، وصنادل صفراء. نعم، لقد رقصت الشارلستون بالصنادل الصفراء! وحملت الحليب فى جرار حديدية كبيرة.
الدنمارك، السويد، والنرويج:
"كوبنهاجن"، "أوسلو"، "ستوكهولم"، و"جوتنبرج": خمسة وأربعون يومًا، من شهر يونيو إلى شهر أغسطس عام 1928.
"كوبنهاجن": "بعد القيام بالأداء فى مسرح داجمار، كنت أقوم بالغناء والرقص والترفيه عن الزبائن فى نادى أدلون، بنفس الطريقة التى كنت أقوم بها فى الكباريه فى شارع فونتين فى باريس."
"ستوكهولم": "بعد الأداء فى مسرح أوسكار، قمت بالغناء والرقص والترفيه عن الزبائن فى الحديقة الشتوية فى الفندق الكبير، بنفس الطريقة"
"أوسلو": "بعد الأداء... الغناء والرقص والترفيه عن الزبائن..."
بهذه الطريقة، أصبح الجميع سعداء.
هذه كانت أنظف الدول التى قمت بزيارتها، وأكثرها تهذيبًا, لدرجة أخافتنى فى البداية. من الجنون أن أصف لك كيف أن كل شىء نظيف في تلك الدول، ياسيد سوفاج. إنه شعور رائع: كل شئ نظيف بحيث يمكنك الاتكاء على أى شىء تريده. والأكثر من ذلك — وهذا صحيح، أقسم لك، لم أكن لأقوله لو لم يكن حقيقيًا — لقد كنت ناجحة جدًا هناك. سترى بنفسك.
فى "كوبنهاجن"، رقصت لعائلة الملك، وسط تصفيق حار.
فى "ستوكهولم"، قدمت عرضًا للملك نفسه. لكن إذا سألتنى كيف كان، لن أستطيع أن أخبرك. عندما أرقص، وأنا أرقص — لا أنظر إلى أى أحد، ولا حتى الملك.
كان هناك الكثير والكثير من الناس متجمعين خارج فندقى فى "كوبنهاجن"، ينتظرون تحت نافذتى. كان الطقس لطيفًا ذلك اليوم. كانت لدى فكرة، لكنها لم تكن ذكية تمامًا، أن أقوم بإلقاء بعض الصور من الأعلى... وما حدث بعد ذلك — حسناً ... لم أرَ أبدًا هذا العدد الكبير من القبعات القش المكسورة.
فى كل مساء فى "أوسلو"، كان يرافقنى شرطيان وسيمان على ظهور الخيل من مخرج المسرح إلى الفندق. كان لطيفًا. لكن الشرطة دائمًا ما تكون محرجة، خاصة على ظهور الخيل، وكنت قلقة بعض الشىء. كان الناس ينظرون إلينا. لذا كنت أقوم بإلقاء نكات صغيرة للشرطيين، لأظهر للناس أنه لم يتم إلقاء القبض على. أتفهم ما أعنيه؟
في "ستوكهولم"، كان لدى ستة شرطيين، لحمايتى من الفضوليين. كانوا يقومون بتحيتى كما لو كنت جنرالًا. كنت أضطر لرفع رقبتى لأراهم. كانوا ضخمين، هؤلاء الشرطيون. لقد كنت صغيرة جدًا فى السويد.
كنت خائفة من أن تُفزع العاصفة الجمهور المكون من ثلاثة آلاف متفرج؛ وأنهم قد يحطمون كل شىء، بل وقد يسحقوا بعضهم البعض.
لقد كان عرضاً متعجلًا، لدرجة أن الأوركسترا تخطى نصف النوتات.
ثم هطلت أول قطرة مطر، قطرة ضخمة، سقطت على رأس قائد الأوركسترا. الذى قفز خمسة أقدام فى الهواء وأطلق العنان للأوركسترا، التى بدأت تعزف بأقصى سرعة. كنا كأننا فى سباق لإنهاء إنهاء نصف العرض.
ثم، قبل أن نستفيق — طبطب، طبطب — بدأت قطرات المطر الضخمة تتساقط يمينًا ويسارًا. أصبح السيد تاناسى، قائد الأوركسترا شاحبًا، وكاد العازفين يفقدوا صوابهم. كانوا يركضون عبر القاعة، عبر الأجنحة. كان السيد تاناسى يئن، "لقد خسرت كل شىء، يا أطفال، خسرت كل شىء!"
وفى كل هذا لم تكن — طبطب، طبطب — إلا مجرد مقدمة الهطول.
لقد ألغوا العرض، وصعدت إلى المسرح. لكن وعاء الحلوى الذي كان من المفترض أن أتسلق إليه كان أعمق مما توقعت و... كراش! سقطت فيه كما لو كان بئرًا. اضطررنا لإغلاق الستارة. ثم ظهرت مرة أخرى أمامها، وتضاعفت قطرات المطر. فتحت مئات المظلات أمامى، ورأيت مئات النساء يرفعن تنانيرهن فوق رؤوسهن.
مع الخطوة الأولى من رقصتى، انطلقت العاصفة فجأة. يا للسيد تاناسى المسكين! لا تهتم بالمطر! قررت أن أستمر فى الرقص.
رقصت بمظلة. كان جميع الموسيقيين يعزفون وهم يحملون مظلات.
كانت النوتات خارج الإيقاع! كان الأمر جنونيًا! والرعد، أوه لا لا...
هرب نصف الجمهور خلال الهطول. كان الناس يستردون أموالهم عند المخرج. لكن، لحسن الحظ، كان الآخرون، الذين كانوا ينتظرون فى الخارج لأن المكان كان ممتلئًا، بدأوا يندفعون الى الداخل ، ليروا جوزفين.
في تلك اللحظة، كنت قد أغلقت مظلتى وكنت أرقص كما لو كنت داخل حوض سمك. كان حزام المصنوع من الموز الخاص بى منقوعًا بالماء. بدأت حبات الموز الرطبة تسقط — بلوب، بلوب — على الأرض.
انفجر الجمهور الجديد بالضحك فى فرح وسعادة غامرة. كان كريم تثبيت شعرى والمكياج يتساقطون فى عينى.
كنت أيضًا أرتدى ريشًا، فبدوت مثيرة للشفقة، كأننى دجاجة صغيرة تتراقص وهى مبللة، ومنقوعة تمامًا فى الماء.
لكن الأوركسترا استمرت فى العزف، وخرجت النوتات أكثر فأكثر عن الإيقاع. ماذا كنت تتوقع؟ كانوا يغرقون فى المياه هم أيضًا، فى الحفرة الخاصة بالأوركسترا. كان الماء يدخل فى الأبواق، ويتدفق داخل التشيلو. كان الطبلة الكبيرة تتدلى أكثر مع مرور الوقت.
صاح السيد تاناسى: "توقفوا! توقفوا! لا مزيد من استرداد الأموال!" بينما كان مساعدو تاناسى يتبعانه، يقطران بالماء بينما يهرولان.
استمر المطر فى الهطول! واستمرت جوزفين فى الرقص، يا سيد سوفاج. كانت ليلتها الوداعية.
على الرغم من المطر، كانت جميع المناظير والانظار موجهة نحوى. نسينا المطر، وواصلنا، وواصلت أنا، وواصلنا جميعًا في مواجهة العاصفة. يا له من جمهور، يا صديقى! يا له من حماس. ويا له من عاصفة... يا له من دش!
تشيكوسلوفاكيا:
هناك من بين آلاف المشاهدين في الجمهور، انطلق الأوركسترا في عزف الموسيقى الخاصة برقصتى. الآن، فكرت، الأسوأ قد مضى. لقد نجوت.
فى البداية، سار كل شىء على ما يرام. بذلت قصارى جهدى لتغطية المسرح بأكمله بخطواتى، وأنا أرقص من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ثم لاحظت أن الأوركسترا بدأت تسرع تدريجيًا. نظرت إلى قائد الأوركسترا. لم يبدُ عليه القلق. كان أنفه مضاءً من الأسفل ويداه البيضاء، الشبيهتان بالأشباح، تتحركان هنا وهناك، وكأنه يحاول أن يضرب النوتات الموسيقية كبعوض غير مرئى حول رؤوس الموسيقيين... والموسيقى تتسارع، وتتسارع أكثر... رقصت أسرع لأواكب الإيقاع وحاولت لفت انتباه قائد الأوركسترا.
عندما مررت أمامه، قرعت الأرض بقدمى بقوة. نظر إلى فقط بعينيه الواسعتين، ولم يفهم، هذا الرجل—لم يفهم. والآن كانت ذراعيه تتحركان بسرعة مرعبة. لكنى استمررت فى الرقص على الإيقاع الذى كان يفرضه على. بدأ العرق يتدفق على جسدى، وقطرات تتساقط من أنفة، وفقدت يداى السيطرة.
اقتربت أكثر من قائد الأوركسترا وصرخت، "السرعة كبيرة، السرعة كبيرة!"
إما أن كلماتى اختفت وسط الموسيقى أو أن قائد الأوركسترا لم يفهمنى. لذا صرخت مرة أخرى: "السرعة كبيرة، السرعة كبيرة، trop vite، trop vite!"
كان الأمر جنونيًا، لكنى واجهت التحدى ورقصت كالمجنونة. فجأة انزلقت، وسقطت على جنبى، لكنى قفزت إلى قدمى مرة أخرى. كنت قد خدشت ذراعى ومرفقى بالكامل، وشعرت بدمى يمتزج بعرقى، ويتدفق حتى أطراف أصابعى. فى نفس الوقت، سمعت تصفيقًا مدويًا: لقد اعتقد الجمهور أن سقوطى كان جزءًا من العرض...
صرخت للمرة الأخيرة: "Trop vite! Trop vite!"
لكن قائد الأوركسترا نظر فقط إلى وكأننى مجنونة وأطلق العنان للموسيقيين بسرعة جنونية. شعرت بالدوار؛ سقطت على ركبتى. لكن فقط لثانية. ثم جززت على أسنانى وقلت لنفسى، إذا توقفت، فكل شىء سينهار. عليك أن ترقصى. عليكى أن تجهدى الأوركسترا وذاك الوحش قائد الأوركسترا!
كانتا ركبتاى تنزفان. ويتدفق الدم على ساقى. كنت كأنه تم سلخ جلدى حيًا، مغطاة بالدماء. رقصت كالشيطان، رقصت ورقصت ورقصت، دورت وقفزت وركضت. حاولت دوامة الموسيقى أن تجرفنى—لكنى كنت أقوى.
فكرت أنه إذا استسلمت، فستقع النتيجة على رأسى.
لم أستسلم. أخيرًا، أسقط قائد الأوركسترا ذراعه وبدا أن الأوركسترا تهاوت، وكأنها انهارت فجأة. دارت آلاف الوجوه فى تلك القاعة الضخمة "لوسيرنا" من حولى. أصبح كل شىء حولى أحمر، وكأنه يحترق.
سمعت هديرًا عميقًا، كأنها عاصفة تنفجر، وانهرت، كنت فى قمة تعبى، إنهاكى، وألمى.
لقد كنت أحترق كاللهب.
هتف الجمهور وصاح، لكن دون جدوى. لم تُرفع الستارة مرة أخرى. كنت قد فقدت الوعى. أخذونى إلى غرفة تغيير الملابس. كنت مغمى على. كنت أنزف بهدوء على الأرض، على السجادة، وذراعى ملفوفة من حولى.
النمسا:
إذا كانت "براغ" تمتلك برج إيفل صغيرًا، فإن "فيينا" تمتلك عجلة دوارة كبيرة تشبه تمامًا تلك التى كانت لدينا هنا فى "باريس". كنت قد حصلت على تغطية إعلامية لافتة قبل وصولى إلى "فيينا". كان ذلك أولاً، بفضل سياسى تشيكى—يعيش نصف مليون تشيكى فى فيينا—يدعى السيد "جيرزابيك".
قاد السيد جيرزابيك حملة ضخمة ضدّى. حتى أنه نقل الأمر إلى البرلمان—لم أكن أتوقع ذلك أبدًا، يا سيد سوفاج، إنه أمر غير متوقع تمامًا.
وهكذا، بفضل السيد جيرزابيك وبدون علمى، أصبحت أمثل "الانحلال الأخلاقى الذى يهدد الدولة العظيمة النمسا."
وثانيًا، بفضل القس اليسوعى "الأب فراى"، الذى من الواضح ان معرفته بى أتت من خلال أكثر القصص تفاهة، وإثارة للاشمئزاز، بحيث أصبحت أمثل أيضًا "الشهوة" بذات نفسها.
فعند كل زاوية شارع، كانوا يوزعون منشورات الكراهية ضدّى: "لتعاقب هذه المرأة، كما تستحق، فهى تجسيدا للفساد الأخلاقى.
" حسنًا، لا يمكننى إنكار أن هناك الكثير من الناس—والكثير من أفضل انواعهم كما أعتقد— قاموا بالترحيب بهذا التجسيد للفساد الأخلاقى، فرغم أجراس التحذير والمنشورات الصغيرة. إلا أن رجال فيينا ساحرون ونساؤها لطيفات.
يجب على هنا أن أوضح بعض الأمور الهامة. أولاً، جاءت زيارتى فى وقت سىء—وقت أزمة وبطالة. كانت أسعار التذاكر مرتفعة جدًا، باهظة للغاية. لذلك فربما كان هذا الغضب الجماعى خارج أبواب المسرح كل ليلة للاعتراض بشكل أساسى على ارتفاع تكلفة الدخول.
بالإضافة إلى ذلك، كنا مخطئين بإدراج عرض لأزياء العارضات—"ملكات أمريكا وملكة الجنة"، ووفقًا للبرنامج— كن يرتدين فساتين فاخرة تكلف كل منها خمسة وعشرين ألف فرنك.
الجياع يكرهون البذخ، ويكرهون أن يتم السخرية منهم، ويكرهون أي تلميح بأننا قد نكون نسخر منهم، أليس كذلك؟ وهم على حق تمامًا... لكن لم يكن أى من ذلك خطئى ولم يكن هناك ما يمكننى فعله. أنا شخصياً لا أعبد المال.
فى المرة الأخيرة التى صعد فيها "القس فراى" إلى منبر القديس بولس قبل وصولى—بجوار مسرح يوهان شتراوس، حيث كنت سأؤدى—كانت الكنيسة ممتلئة. كان الجميع ينتظر أن يبدأ فى الصراخ. لكنه لم يفعل. فقط وصفنى بنبرة حزينه أننى ببساطة أيقونة عصرنا الخاطئ. لقد قام فى الواقع، وبصوته العذب، بالصاق كل خطايا أوروبا القديمة بى.
شكرًا لك، أيها الأب. الجميع مسموح له بارتكاب الأخطاء.
فى الواقع، فإن التوبة—أو هذا على الأقل ما تعلمته، حتى لو لم أتعلم شيئًا آخر، فى مدرسة صغيرة فى كنيسة أمريكية فى سانت لويس، مع بعض الأطفال الآخرين بدرجات مختلفة من السواد ولكنهم تقيّون للغاية—أن التوبة فتحت العديد من الأبواب لأكثر الخطاة يأسًا.
لكن فى مساء اليوم نفسه، عندما كان "الأب فراى" يعظ بشكل رئيسى ضد "الزنوج البيض"—ويقصد الأوروبيين وأولئك النمساويين الذين تجرأوا على رقص تشارلستون—فى ذلك المساء نفسه، كان مسرح يوهان شتراوس، المقابل لكنيسة القديس بولس، ممتلئًا أيضًا، ممتلئًا حتى الحافة، بنفس الأشخاص بالضبط، بالطبع، رجالًا ونساءً.
كانوا ينتظرون أن مشاهده الشيطان...
قمت بدخول بسيط جدًا إلى المسرح. كانت هناك لحظة من الصمت التام والدهشة. ثم غنيت من كل قلبى، بكل قلبى المرتجف النابض. غنيت "نمّ، يا طفلى المسكين"، وهى ترنيمة زنجية قديمة من أيام العبودية، عندما كان الزنوج لا يصلحون لشىء سوى الموت من الإرهاق واليأس بعد أن كانوا يُضربون من قبل مالكيهم المسيحيين للغاية.
سامحنى، لكنه شعور وكأن المسرح حقًا بأكمله ينهار...
عندما هدأت الهتافات والتصفيق، رقصت كما كنت دائمًا أرقص وسأظل أرقص، لا أفكر في الخير أو الشر ولكن فقط في رقصتى، رقصتى الصادقة والنقية للغاية، لأظهر للبشرية ولله—الذى أؤكد أنه إله جميع الناس، سواء كانوا بيضًا أو سودًا أو صفرًا أو حمرًا—أن هناك شبابًا حرًا، أبديًا وخالدًا، رغم كل شىء، فإن الاستمتاع بحياة عظيمة وبسيطة تكفى بذاتها.
المجر:
فى محطة "بودابست"، استقبلنى صف من كاميرات التصوير؛ صف من الجنود بأسيافهم المسلولة؛ وصف من رجال الشرطة يحملون بنادق...
زرت بودابست مرتين، فى عامى 1928 و1929.
فى المرة الثانية، ذهبت متنكرة حتى لا أزعج أحدًا وحتى لا أضطر إلى أن أكون مصحوبة بالسيوف والبنادق، التى لم أكن مولعة بها أبدًا.
"بودابست" هى المدينة التى قدمت لى أفضل وأسوأ الترحيبات،. وهى المدينة التى أثرت فى بعمق. لهذا السبب أردت أن أتحدث باللغة المجرية وأن أغنى وأؤدى بها. ربما لم أستطيع نطقها بشكل مثالى، أو أن اتبع القواعد بدقة، لكن ذلك كان تقديرى الصغير.
وهكذا، فى مسرح أورفيوم الملكى، قدمت مشهدًا مسرحيًا حقيقيًا.
لكن انتظر، تلك كانت فى زيارتى الثانية.
فى الزيارة الأولى، كنت مدينًة بحياتى لعربة ثور كبيرة اختبأت بداخلها، وسط الحشد، كأنها حصن. المجريون لم يجرؤوا على تسلقها. لكنهم مزقوا فستانى إربًا ليحصلوا على تذكار. أرادوا رؤيتي عارية. هؤلاء المجريون بالغوا قليلاً٠٠٠، . وسرعان ما ستلاحظون أنهم تجاوزوا الحدود أكثر. فأولاً، تم مناقشة زيارتى فى البرلمان ثلاث مرات. لم يكونوا يريدوننى، أطلقوا على "الشيطانة السوداء"، كما كانوا يسموننى فى فيينا.
لقد كان على قبل أى شىء آخر، أن اقوم بتقديم عرض خاص لهيئة الرقابة التى يترأسها وزير حكومى. ثم ماذا تعتقدون حدث بعدها؟ حسنًا! لقد حققت نجاحًا باهرًا. لذا اضطررت لتقديم عرض إضافى لهيئة الرقابة. بل وحتى الوزير اعتقد أننى كنت أرتدى الكثير من الملابس، ملابس أكثر من اللازم!
قلت لنفسى: سأكون بخير هنا. واستكشفت "بودابست" كما أحببت.
في وسط المدينة توجد صخرة يبلغ ارتفاعها 770 قدمًا تسمى: تل جيليرت. إنه مكان ملىء بالكهوف الرائعة، وهناك حزام من الينابيع الساخنة يحيط به بالكامل. "بودابست" هى مدينة الحمامات. فى أى جانب من المدينة تكون، ستجد حمامات بمياه فوارة وأعمدة رخامية وتماثيل رخامية وزهور تنمو على التراسات الرومانية.
شارعهم المشابه لشارع الشانزليزيه يسمى "أندrássy út".
يقع مسرح أورفيوم الملكى، حيث كنت أؤدى، فى زاوية شارع إليزابيث. على درجات جميع المسارح، عند المدخل والمخرج، ستجد نساء فلاحات يرتدين الزى الوطنى، بألوان زاهية. يبعن تطريزًا يدويًا، إنه حقًا مدهش. لماذا لا نرتدى جميعًا التطريز المجرى طوال الوقت؟ أوراق الشجر، الكروم، الزخارف العربية، الأربطة المزخرفة...
كان قاعة أورفيوم ممتلئة بالجمهور.
عندما بدأت فى الرقص، سمعت ضجة غريبة.
نظرت إلى الأعلى ورأيت فجأة رجلاً يتدلى من جانب الشرفة. كان يحمل شيئًا. ثم رماه فى وسط القاعة... قنبلة! لثانية طويلة، شعرت بالقشعريرة تحت ريش النعام الذى كنت أرتديه.
أغمضت عيناى...
كانت مجرد قنبلة أمونيا. ومع ذلك، يمكنكم تخيل الخوف. وبمعجزة ما، لم يُصب أحد بالذعر. لكن القنبلة سقطت على ساق امرأة، وأصيبت بحروق خطيرة.
قلت لنفسة: المجريون حقًا يبالغون.
واستمررت فى الرقص...
إسبانيا:
عندما وصلت "مدريد"، كانت مغطاة بالثلوج. رغم أن ذلك لم يكن هذا خطأ الإسبان، لكننى شعرت بخيبة أمل. كنت أتوقع أن أجد الزهور على كل الشرفات وأن تشرق الشمس على كل زهرة. على كل حال ولحسن الحظ، لم يستمر ذلك طويلًا: لقد اختفى الثلج فى غضون أربع وعشرين ساعة.
"إسبانيا" هى على الأرجح أكثر دولة أعرفها فى أوروبا. مكثت هناك لعدة أشهر. وقدمت عروضًا فى كل مدينة وبلدة... "إسبانيا" تبدو وكأنها بلد بعيد، إنها أشبه بقرية صغيرة، منعزلة عن الإبتكارات الحديثة. لكن لديها تنوع لا يُصدق، وجماليات أصيلة كثيرة: الرجال، النساء، الرقص، وكل انواع الأرز الرائعه! منها ما هو مطبوخ على طريقة "فالنسيا"، مع الفلفل، الجمبرى، بلح البحر، والدجاج. كنت أأكل منه حتى شعرت بالمرض.
لا يوجد أى طعام فى أمريكا يمكنه أن يتفوق على الأرز الذى يُطهى فى "فالنسيا".
هل نأخذها مدينة تلو الأخرى؟
"مدريد" — قدمت أول عرض لى هناك فى مسرح يقع على أطراف المدينة، ثم فى جران ميتروبوليتانو، حيث حققت نجاحًا كبيرًا. بالطبع، طلبوا منى أن أشاهد مصارعة الثيران، لكننى أفضل رؤية الثيران تجرى فى المروج بدلًا من الحلبة — لا يهمنى الأمر كثيرا، لكنى اعتقد أنه سيكون أفضل لهم.
"برشلونة" — مدينة فريدة تمامًا، مدينة النوجا الملونة، قصص الحب فى الواجهة البحرية، النقابات العمالية، العمال، المدينة الأكثر حيوية فى إسبانيا بأكملها.
لكنهم قالوا لى: "أنت لست فى "إسبانيا" هنا."
ثم غنيت باللغة الكاتالونية، وكان ذلك أفضل. كان وقت الكرنفال. شاهدت الموكب. كانت لاس رامبلاس تلمع بالحلويات الملونة. ألقوا على بينما كانوا يمرون كرات صغيرة ملونة ، والكثير من الشرائط الورقية،... كانت متشابكة تمامًا،، وكانت هذه هى السعادة الحقيقية.
زرت جميع نوادى الرقص فى "برشلونة" وتعلمت كم يمكن أن يكون الرقص استثنائيًا. هكذا قابلت لا مكارونا، التى علمت باستورا إمبيريو ولا أرجنتينا، انها امرأة صغيرة كانت تزن ما لا يقل عن 120 كيلو! وهى راقصة جميلة، ذكية، ومعبرة، لقد أعجبت بها للغاية وصفقت لها طويلا.
الراقصون الغجر هم الإيقاع الخالص، هم رقصات الحب، والشغف، والحزن أيضاً، ذلك الشجن الأصيل الذى يعبر عن كل شىء فى شخصية إسبانيا. الغجر يرقصون طوال النهار والليل، يبدو أنهم لا يرتاحون، وكأن حياتهم تعتمد على رقصهم، إنهم سكارى به.
"وشقة" — عندما أنهيت عرضى، انحنيت... وفجأة انفجرت عاصفة من الهتافات، كان هناك فيضان من القبعات الطائرة، المعاطف، المناديل، الربطات، الأحزمة، الزهور، السترات، وحتى بعض الأحذية... كانت دقات قلبى متسارعة، كنت مغمورة بالمشاعر الفياضة، وأصبحت على وشك البكاء. لقد بذلت قصارى جهدى، ولكنى لم أكن أعرف أن هذه هى طريقة إظهار الحماسة فى إسبانيا. كنت خائفة. التقطت حذاءً وحزامًا... أعلم أنك تتساءل إذا ما كنت سعيده وهل ضحكت بعد ذلك. لكن فى تلك اللحظات، لم يكن الأمر مضحكًا...
"إشبيلية" — نزلت من القطار وماذا رأيت؟ فى جميع الشوارع، فى كل مكان، تجمع ضخم لجماعة كو كلوكس كلان: كان أسبوع الآلام. أغطية رأس عالية ومدببة مثل أرغفة السكر. مشاعل يخرج منها دخان، تصدر أصواتًا مزعجة. شموع بلهب شاحب ومتذبذب. كان هناك غناء مع القيثارات. كان المصلون يرتدون أزياء فاخرة، مآزر حمراء، أقنعة أرجوانية، عصى صفراء، وعلى ظهورهم صليب ذهبى ضخم . العديد منهم كانوا حفاة. تماثيل مقدسة، بهالات مثل شمس استوائية، كانت تتحرك بين المجموعات المختلفة. لقد جعلونى أدفع أربعين بيزيتا للحصول على مقعد لمشاهدة ذلك.
"إشبيلية" هى "إسبانيا" الحقيقية، "إسبانيا" الأساطير، حيث ترتدى النساء الشالات الطويلة اللامعة.
بينما كنت فى "إشبيلية"، كان يقام المعرض الأيبيرو-أمريكى الكبير. كانت الفنادق ممتلئة، جميع الغرف فى المدينة كانت مؤجرة — لا توجد فرصة لإيجاد سرير. وفى النهاية، وجدت واحدًا مع عائلة فقيرة، لكن السرير كان أقصر بعشرين سنتيمترًا على الأقل. لا داعى للقول إننى بالكاد أغمضت عينى خلال الليالى الثمانى التى قضيتها هناك. بدلًا من ذلك، استمعت إلى الضجة النارية لإشبيلية على ضفاف نهر الوادى الكبير، وشاهدت جميع الحشرات الصغيرة تسير على السقف والجدران، وتتنافس معا، العناكب تصطاد، الحريش، الخنافس — كانت تلك الغرفة تحتوى على كل شىء. لكنى لم أعد أستطيع تحمل ذلك السرير الصغير... ، لذا، لم يكن هناك بأس، ان امد قدمى. وقت العشاء، أيها الحشرات الصغيرة!
"مالقة"، فى وسط منطقة مليئة بالغبار، "سان سيباستيان"، "أوفييدو"، "سانتاندير"، "لوجرونيو"، "خيخون"... لا يمكننى وصفها جميعًا، لكننى أحب نطق أسمائها، التى تبدو مثل القرقعة والمجوهرات. فى "سرقسطة"، رقصوا من أجلى الهوتا . أوه! كم كان ذلك ساحرًا. كنت أرغب فى رقص الهوتا داخل دائرة من الأيدى التى تصفق. فى "فالنسيا"، مدينة أشجار البرتقال والزهور، شاهدت كوميديا مع غناء؛ كانت ذات إيقاع رائع ومصممة كرقصة باليه. أكلت الأرز هناك... دعونا لا نتحدث عن ذلك مرة أخرى، لقد فعلت ذلك بالفعل... لكن ذلك الأرز! يستحق الرحلة من أجله وحده. حبات أرز كبيرة مع... آسفة، دعونا لا نتحدث عن ذلك مرة أخرى.
تبنت فى المجمل 12 طفلًا
تعليقات