معضلة المال

يعبد بعض الناس المال، بينما يراه البعض أصل كل الشرور. 

لماذا يحدث هذا الاختلاف الكبير؟ وما هى النظرة الصحية تجاهه؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه مع "إيما يونج".  

هناك مقولة غريبة قليلاً لديكتاتور من الشرق الأوسط يقول فيها: "الفلوس .. الفلوس، اهم حاجة فى الدنيا الفلوس". فهل هذا حقيقى بالفعل؟

حسناً، لدينا جميعاً مواقف مختلفة جدًا تجاه المال، وقد تجعلنا بعض المحظورات الاجتماعية نتجنب مناقشته. ويمكن للمال أن يسبب شقاقًا فى علاقات كانت سعيدة. 

هناك الآن اتساع متزايد فى الفجوة المالية، فقد وجد تحليل أجرته مؤسسة "فيرنس فاونديشن" الخيرية أن الفجوة بين أفقر وأغنى الأسر فى "المملكة المتحدة" زادت بنسبة 50% بين عامى 2011 و2019 – والوضع أسوأ فى "الولايات المتحدة". 

بدأ علماء النفس مؤخرًا فى فهم الأسباب التى تجعل من المال موضوعًا عميقًا، وليس مجرد وسيلة لدفع الفواتير.

إنهم يقومون بعمليات تفكيك لكل شىء، بدءًا من توقيت وكيفية تكوّن أفكارنا حول المال، وصولًا إلى ما الذى يشكل علاقة صحية – أو غير صحية – معه. قد تبدو بعض نتائجهم مفاجئة، بل وحتى مناقضة لافتراضاتنا. لكن المهم، أنهم يقدمون لنا رؤية جديدة.  

حقائق عن المال: 

إنه هام بلا شك: فهو ما يجلب لنا ضروريات البقاء، ولكن هل يمكنه شراء السعادة أيضًا. 

فى عام 2010، اقترح بحث أجراه الحائز على جائزة نوبل "دانيال كانيمان" وزملاؤه وجود "هضبة رفاهية" تبدأ عند دخل سنوى قدره 75 ألف دولار (ما يعادل حوالى 108,500 دولار اليوم)، بحيث لا يؤدى كسب المزيد من المال بعد هذا الحد إلى تحسين الشعور. 

لكن منذ ذلك الحين، وجدت دراسة شملت أكثر من 33,000 شخص فى "الولايات المتحدة" بدخل يتراوح بين 15,000 و480,000 دولار سنويًا أن السعادة تزداد مع زيادة الدخل، حتى بعد تجاوز حاجز 75,000 دولار. 

وأكدت دراسة تمت عام 2023 أجراها باحثون من كلا الفريقين صحة هذا الأمر – على الأقل بالنسبة لمعظم الناس.  

الأثر النفسى العميق للمال:

يمكن رؤية ذلك حتى فى صور الدماغ. فخسارة المال أو تلقى مطالبة مادية غير متوقعة، ينشط مناطق فى الدماغ مشابهة لتلك التى تنشط عند الشعور بالألم، وخاصة نوعية الألم الاجتماعة مثل مشاعر الرفض من الأخرين. كما يظهر تصوير الدماغ أننا نشعر بالخسائر المالية بقوة أكبر من المكاسب المماثلة – وهو ما يعكس تحيزًا نفسيًا معروفًا باسم "النفور من الخسارة". 

وعندما تكون الأموال شحيحة – كما هو الحال بالنسبة للكثيرين الآن – تنشط الخلايا العصبية فى اللوزة الدماغية والحُصين، مما يحفز استجابة الجسم للتوتر.  

تقول عالمة النفس "جوليا سيسينى" من الجامعة الكاثوليكية للقلب المقدس فى "ميلانو" بإيطاليا، إن هذا يمكن أن يؤثر على الصحة العقلية والجسدية. فالقلق المالى المستمر يمكن أن يؤدى إلى "إرهاق إدراكى": "عندما يحدث هذا، تكون خلايا العقل منشغلة جدًا بالتركيز على التهديدات والمشكلات المحتملة، مما قد يضعف قدرتنا على اتخاذ قرارات مالية وحياتية سليمة".

مع ذلك، وبغض النظر عن قيمة ثروتهم، فإن طريقة تفكير أى شخصين حول المال ستكون على الأرجح مختلفة. والأهم، أن وجود هذا النفور من الحديث عنه، يعنى أننا نادراً ما ندرك مدى اختلاف آرائنا أو أسباب هذا الاختلاف. 

على سبيل المثال، وجدت دراسة فى "المملكة المتحدة" أن ثلثى الشباب يعتبرون أن المال يعتبر موضوعاً محظوراً.

تبدأ ردود أفعالنا تجاه المال فى وقت أبكر مما قد نتخيل. تشير أبحاث حديثة إلى أن الرضع يبدأون فى الحكم على الأشخاص من خلال مؤشرات الثروة فى عمر 15 شهراً - ويفضلون التفاعل مع أولئك الذين يبدون أكثر ثراءً. 

قد يبدو هذا انتهازياً، ولكن من الناحية التطورية، فإن مظاهر الثروة هى "مؤشرات صادقة على اللياقة"، ومن المنطقى أن ينحاز الرضع إلى الأفراد الأكثر لياقة لأن ذلك يزيد من فرص بقائهم على قيد الحياة.  

ولأن فهم من يمتلك الثروة، وما يعنيه ذلك يترسخ فى وقت مبكر، فليس من المستغرب أن يكون لدخل الوالدين وطبقتهما الاجتماعية وعاداتهما المالية تأثير كبير على الأطفال. 

تقول "سيسينى": "يلعب السياق العائلى دوراً محورياً فى تشكيل المواقف تجاه المال". ولا يعنى هذا أن دروس سنواتك الأولى تحدد هذه المواقف بشكل دائم. 

فمع تقدمنا فى العمر، يمكن للأحداث التى نواجهها أن تدفع إلى تحولات كبيرة فى آرائنا وسلوكنا المالى. 

علاوة على ذلك، فحتى داخل الأسرة الواحدة، يمكن للاختلافات التى تحدث فى تعرض الأطفال للضغوط المالية أو الإسراف لدى والديهم، إلى جانب الاختلافات الشخصية والتجارب الفردية، أن تؤدى إلى مواقف متناقضة بشكل لافت فى مراحل البلوغ.  

يستخدم علماء النفس للتعمق فى فهم ذلك، مجموعة متنوعة من الاستبيانات التى تقيس التصورات والمعتقدات والمشاعر المتعلقة بالمال. تميل هذه الاستبيانات إلى تضمين مقاييس متدرجة تقيس أشياء مثل درجة تفضيلك الادخار للمستقبل مقابل الإنفاق الآن، ومدى قلقك بشأن المال، ومدى ترددك فى المواقف التى تتضمنه، ومدى رؤيتك للأمور المالية كوسيلة للتباهى والتأثير على الآخرين. 

تركز بعض الدراسات تحديداً على مفهوم "حب المال". 

هنا، يسجل المقياس أشياء مثل مدى حرصك على أن تكون غنياً، ومدى تحفيزك برغبة الحصول على المال، ومدى أهميته وقيمته فى نظرك.

في دراستين حديثتين أجرتهما 'سيسينى"، تم تحليل مئات الأبحاث لفهم العوامل المؤثرة فى نظرتنا للمال، وكشفت النتائج عن أنماط مثيرة للاهتمام:

الاختلافات العمرية والشخصية:

- الشباب: يميلون لاعتبار المال أكثر أهمية، ويربطونه بالقوة والحرية، لكنهم أيضًا الأكثر قلقًا بشأنه (خاصة مع تفاقم الديون وارتفاع أسعار المساكن).  

- الشخصية العصابية: تتزايد لديهم مشاعر القلق المالى، بينما يكون الأشخاص المنضبطين، أقل مادية.  

- الانطوائيون: أكثر ميلًا لرؤية المال باعتباره شر مقارنة بالمنفتحين.  

- محبوا المال: يرتبطون بسلوكيات غير أخلاقية مثل الكذب والغش.  

الاختلافات بين الجنسين:  

- الرجال: يرون المال كأداة للسيطرة وإبهار الآخرين، ورمزًا للنفوذ والمكانة.  

  ولديهم معدلات أعلى فى "حب المال"، ويعتقدون أن الثراء يزيد جاذبيتهم.  

- النساء: هن أكثر عرضة لربط المال بالقلق، لكنهن أيضًا يرونه مصدرًا للأمان والحب.  

 ومن المفارقات، أن هذه الفجوات ظلت قائمة حتى فى الدراسات الحديثة (1972–2021)، على الرغم من تحسن فرص العمل والاستقلال المالى للنساء!  

وتفسر "سيسينى" ذلك: "قد يحتاج المجتمع وقتًا ليعكس هذه التغيرات على المواقف النفسية".  

تأثير الثقافة والمجتمع: 

أظهرت دراسات من أوروبا وآسيا أن النظرة للمال تتشكل أيضًا عبر التجارب الشخصية (مثل الإفلاس أو الأبوة)، والتعرض المتباين لضغوط الوالدين المالية أثناء الطفولة.  

الخلاصة، أن المال ليس مجرد عملة، بل مرآة لقيمنا، مخاوفنا، وحتى تاريخنا الشخصى والاجتماعى.

تلعب الثقافة أيضًا دورًا حاسمًا فى تشكيل مواقفنا تجاه المال. 

تُركّز معظم الأبحاث حول الآثار النفسية للمال على مجتمعات"WEIRD" (الغربية، المتعلمة، الصناعية، الثرية، الديمقراطية). 

لكن كشفت دراسة حديثة أجراها "دانيلا ميدفيديف" من "جامعة شيكاغو" وزملاؤه عن مفارقة مثيرة:  

فعلى عكس المتوقع، وجدت الدراسة أن الأفراد فى الدول الأقل ثراءً (مثل "الصين" و"الهند" و"المكسيك" و"جنوب أفريقيا") كانوا أقل قابلية للتحفيز بواسطة المال، مقارنة بنظرائهم فى "الولايات المتحدة" و"المملكة المتحدة"! 

وكلما زادت الاختلافات الثقافية بعدا عن النموذج الأمريكى، زادت هذه الفجوة.  

 - فى التجارب، توقف أكثر من نصف الأمريكيين عن العمل بمجرد ضمان الحد الأدنى للأجر، بينما واصل 90% من المشاركين المكسيكيين العمل بحماس.  

 يُرجح "ميدفيديف" أن هذا يعكس اختلافًا ثقافيًا فى مفهوم "العقد الاجتماعى" للعمل، حيث قد يراه غير الغربيين واجبًا أخلاقيًا وليس مجرد معاملة مالية.  

حب المال: سعادة أم تعاسة؟:

- وجدت "جابرييل فوند" من "جامعة واشنطن" أن "التركيز المفرط على الثراء" يرتبط بانخفاص الشعور بمعنى الحياة وتقبل الذات مع زيادة المشاعر السلبية. تفسير "سيسينى" لذلك هو أن الأشخاص الذين يرون المال كرمز للقوة والمكانة يميلون إلى: الاندفاع وقلّة المشاعر الودية، ويفضلون إتباع التكتيكات المكيافيلية (مثل المكر والتلاعب).  

لماذا يفشل التباهى بالثراء؟

في تجربة أجرتها "شالينا سرنا" من "جامعة ميشيجان": قلّت احتمالية اختيار اللاعبين لشركاء لهم يرتدون ملابس بماركات فاخرة (مقارنة بملابس عادية)، حتى لو كانوا هم أنفسهم يفضلون الماركات!  

الإشارة إلى الثراء تكشف أمرين: أن الشخص غنى، وأنه قرر التباهى بذلك. والتباهى هو ما يضرّ بصورته كشخص".  

الخلاصة: المال ليس محايدًا — قيمته بالنسبة لك تُشكّلها ثقافتك، شخصيتك، وتجاربك، لكن التركيز عليه كهدف قد يسرق منك جوهر السعادة ويُضعف علاقاتك. الأهم هو كيف تستخدمه، لا كم تمتلكه.

النظرة المادية وتأثيرها على العلاقات والصحة النفسية: 

أكدت الأبحاث أن الميل المادى المفرط (التركيز على جمع الثروة والممتلكات كرمز للمكانة) يُضعف العلاقات. 

كشفت دراسة حديثة أجرتها "أولايا موليدس" فى "جامعة كارديف" البريطانية  أن التعرض لرسائل تركّز على المال والرفاهية (مثل إعلانات العلامات الفاخرة) يرفع توقعات الأشخاص من الآخرين، مثل الرغبة فى أن يكونوا أكثر جاذبية وطموحًا، مما يزرع مشاعر عدم الرضا.  

لكن عدم الاهتمام بالماديات ليس الحل الأمثل أيضًا! فقد وجدت "سيسينى" أن الأشخاص غير الماديين يميلون لنهج " شديد التحفظ" فى التعامل مع المال (البعض يراهم "حريصين"، والآخرون "بخلاء").  قد يكونوا أقل عرضة للديون أو الإفلاس، لكنهم أكثر قلقًا بشأن المال، وقد يبالغون فى الادخار بشكل غير عقلانى.  

ما هى النظرة الصحية للمال؟: 

لا توجد إجابة واحدة، لكن العلم يقدم لنا بعض التوجيهات:  

1. العطاء يزيد السعادة: التبرع بالمال (إذا كنت قادرًا) يعزز اللمشاعر الإيجابية.  

2. الاستثمار فى التجارب الحياتية وليس الأشياء المادية: فالسفر أو حضور حدث مميز يُشعرك بسعادة دائمة أكثر من شراء سلعة ما.  

3. استثمر وقتك: مثل الانضمام لصالة رياضية قريبة، أو شراء البقالة بنفسك، يقلل التوتر ويزيد الرضا.  

نصيحة "ميدفيديف": "قبل شراء حذاء جديد أو سلعة مميزة، اسأل نفسك: هل يساوى هذا أكثر من لحظات ذات معنى مع أحبائى؟".  

التأثير المعرفى للفقر: 

وجد علماء النفس أن الضغوط المالية تُضعف القدرة على اتخاذ قرارات مالية سليمة، مما يعمق الفقر.  

وفى دراسة أجرتها "كييان أونج" من "جامعة سنغافورة الوطنية" أظهرت الحل المفاجئ، فسداد دفعة واحدة من ديون الأفراد، لم يخفف من توترهم فحسب، بل حسن وظائفهم الإدراكية، وساعدهم على كسر حاجز الفقر.  


الخلاصة أن المال أداة ذات حدين:  

- إذا كنت غنيًا: تذكّر أن قيمتك الحقيقية ليست فى ما تملك، بل فى كيف تستثمره لخلق ذكريات وعلاقات ذات معنى.  

- إذا كنت تعانى ماليًا: اعلم أن الضغوط ليست خطأك، وأن التغيير ممكن حتى بخطوات صغيرة. الأهم هو عدم السماح للمال بأن يتحكم فى سعادتك أو إنسانيتك.

تؤمن "سيسينى" بأننا جميعًا يمكننا الاستفادة من استكشاف أعمق لعلاقتنا الشخصية مع المال. تقول: "اسأل نفسك: كيف أشعر عندما أفكر فى المال؟ هذا السؤال البسيط يمكن أن يكشف الكثير عن علاقتك بالمال ويقدم رؤى قيّمة حول مواقفك ومشاعرك الشخصية."  

وتضيف أن مشاركة هذه الأفكار يمكن أن تُحسّن العلاقات العاطفية وتُعزز التفاعلات الأسرية. ورغم أن الانفتاح حول المال قد لا يمنع الشكاوى من البخل أو الإسراف، إلا أنه قد يساعد فى كسر بعض المحظورات الاجتماعية. وهذا أمر إيجابي بلا شك، لأن امتناعنا عن مناقشة موضوع المال يحرم الكثيرين منا من مشاركة آرائهم الصادقة مع أحبائهم.  



'إيما يونج" كاتبة مقيمة فى "شيفيلد"، المملكة المتحدة


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة