سياسات تؤدى لأخطار صحية - (الأحداث الجارية)
دروف جولار- نيويورك
كانت "الولايات المتحدة"، عبر معظم تاريخها، مستفيدة من التقدم العلمى، أكثر من كونها محركًا له. "باستور"، "كوخ"، "ليستر"، "مندل"، "كورى"، "فليمنج"— هؤلاء العمالقة الذين أسسوا الطب الحديث لم يكونوا أمريكيين بل أوروبيين.
خلال الحرب العالمية الثانية، تحولت الدفة. فقد أنشأ الرئيس الامريكى حينها، "فرانكلين روزفلت", "مكتب البحوث والتطوير العلمى" وعين لقيادته "فانيفار بوش"، العميد السابق ل"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا". وفى غضون بضع سنوات، قامت الوكالة بتطوير دواء للملاريا، ولقاح للإنفلونزا، وتقنيات لإنتاج البنسلين على نطاق واسع، وبشكل أقل إيجابية، تم تطوير القنبلة الذرية.
أصبح "بوش" مدافعًا صادقا عن البحث العلمى المدعوم من الدولة، وساعد فى تأسيس "مؤسسة العلوم الوطنية" وتحديث معاهد الصحة الوطنية.
لقد كتب: "بدون التقدم العلمى، لا يمكن لأى قدر من الإنجازات فى أى مجالات أخرى أن يضمن صحتنا وازدهارنا وأمننا كأمة."
ربما تكون رؤية "بوش" تلك هى المسؤولة عن قرن كامل من الهيمنة العلمية الأمريكية. حيث ساهمت البحوث الممولة من الحكومة الفيدرالية فى تحقيق إنجازات علمية هائلة، والعديد من التقنيات الحديثة التى أصبحت تحدد سمات عصرنا، مثل: الإنترنت، الذكاء الاصطناعى، ولقاحات mRNA التى أنقذت أرواحًا لا تحصى خلال جائحة كوفيد.
ما بين عامى 2010 و2019، تمت الموافقة على أكثر من 350 دواءً فى الولايات المتحدة، وجميعها تقريبًا يمكن أن تعود جذورها إلى معاهد الصحة الوطنية. كما أن الوكالة نمت لتصبح أكبر ممول لأبحاث الطب الحيوى فى العالم، بميزانية تبلغ 48 مليار دولار، تدعم عمل عشرات الآلاف من العلماء. ووفقًا لبعض التقديرات، فإن كل دولار تستثمره الولايات المتحدة يولد خمسة دولارات من المكاسب الاجتماعية متمثلة فى النمو الاقتصادى وارتفاع مستويات المعيشة.
لكن ومنذ عودته إلى البيت الأبيض، قلب "دونالد ترامب" الإجماع الحزبى الثنائى طويل الأمد بأن على الحكومة تمويل البحث العلمى. فقد أوقفت إدارته الاتصالات مع الوكالات الصحية، وقامت بحذف البيانات من مواقعها الإلكترونية، وفصلت مئات العلماء الحكوميين، واقترحت تخفيض ميزانية "مؤسسة العلوم الوطنية" بمقدار الثلثين. أعلنت أيضًا أن معاهد الصحة الوطنية لن تلتزم بعد الآن بالأسعار المتفق عليها لأى تكاليف "غير مباشرة" على المنح التى تديرها — وهى الأموال التى تستخدمها المؤسسات لأشياء مثل تشغيل المختبرات، وشراء معدات وأدوات البحث، وإزالة النفايات الخطرة، وتمويل الموظفين من أجل مساعدة المرضى للتسجيل فى التجارب السريرية.
يقول "تشارلز روبرتس"، رئيس مركز السرطان فى "مستشفى سانت جود" لأبحاث الأطفال: "هذا يعنى على الأرجح أن علاجات تجريبية أقل ستصل إلى الأطفال. سيموت المزيد من الأطفال."
قام قاضٍ اتحادى بإيقاف هذا التغيير فى التكاليف غير المباشرة مؤقتًا، لكن العديد من العلماء يواجهون مشكلة أكبر: لقد توقفت معاهد الصحة الوطنية فعليًا عن منح منح جديدة. فى الأسابيع التى تلت تولى "ترامب" منصبه، قدمت الوكالة حوالى مليار دولار أقل مما فعلت خلال الفترة نفسها من العام الماضى. وفى تحدٍ لأوامر المحكمة، حافظت الإدارة إلى حد كبير على تجميد التمويل، باستخدام تكتيكات إجرائية لإعاقة الاجتماعات التى يتم فيها مناقشة أو منح المنح، مما أدى إلى إعاقة البحث فى مجال أمراض الزهايمر، والإدمان، وأمراض القلب، وحالات أخرى. (تم السماح لبعض اجتماعات المراجعة العلمية بالاستئناف، لكن الحظر لا يزال قائمًا على الاجتماعات رفيعة المستوى حيث يتم اتخاذ قرارات التمويل.)
بدأت الاضطرابات تنتشر فى الأوساط الأكاديمية. أوقفت كليات الطب عمليات التوظيف؛ وتفكر المختبرات فى تسريح الموظفين؛ على حين تقوم الجامعات بتقليص برامج الدكتوراه، وفى بعض الحالات، تسحب عروض القبول المقدمة للطلاب.
فى الوقت نفسه، يحذر مستثمرو التكنولوجيا الحيوية من حدوث انكماش فى الابتكار الطبى. قال شريك فى شركة استثمارية الشهر الماضى: "تطوير الأدوية يتطلب دعمًا حكوميًا للعلوم الأساسية,ولا يمكن لأحد أن يملأ هذا الفراغ".
لا بأس بالإصلاح — بل هو فى الواقع سمة النظام الصحى. يمكن لمعاهد الصحة الوطنية إعادة هيكلة معاهدها لتقليل الأعمال المكررة، وتمويل المشاريع ذات الإمكانات التحويلية الأكبر، والمطالبة بمزيد من الشفافية فى كيفية حساب المؤسسات للتكاليف الإدارية. لكن ما يفعله "ترامب" ليس إصلاحًا، بل تخريبًا. ولا يمكن أن يأتى فى وقت أسوأ من وقتنا الحالى.
لطالما كانت "الولايات المتحدة" رائدة عالمية فى الإنتاج العلمى، ولكن وفقًا لقياسات حديثة، فان "الصين" الآن تتقدم بسرعة.
فى السنوات الأخيرة، تجاوزت "الصين", "الولايات المتحدة" كأكبر منتج للأوراق البحثية عالية المستوى وطلبات براءات الاختراع الدولية. تمنح "الصين" الآن شهادات دكتوراه فى العلوم والهندسة أكثر من "الولايات المتحدة"، وحتى قبل اضطرابات التمويل الحالية، كان من المتوقع أن تتساوى "الصين" فى الإنفاق على البحث والتطوير بحلول نهاية العقد.
قد يتحدث "ترامب" عن "أمريكا أولاً"، لكن نهج إدارته سيضمن أن تأتى "الولايات المتحدة" فى أحسن الأحوال فى المرتبة الثانية.
إذا كان لدينا اليوم علاجات فعالة لحالات قاتلة مثل فيروس نقص المناعة، وأمراض القلب، وسرطان الدم، فذلك بسبب استثمارات تاريخية فى البحوث الأساسية. بدون مثل هذه الاستثمارات، كان الناس سيستمرون فى الموت من هذه الأمراض بمعدلات غير مقبولة. وقد يعنى تراجع العلم الأمريكى أن الناس سيستمرون فى المعاناة من العديد من الأمراض التى لا نملك حاليًا سوى القليل لتقديمه لها مثل : باركنسون، سرطان البنكرياس، الخرف، وغيرها.
وصف الاقتصادى "أليكس تباروك" المرضى الذين يموتون قبل أن يتم تطوير واعتماد ابتكارات طبيه لهم، بأنهم مدفونون فى "مقابر غير مرئية". من السهل رؤية الآثار الجانبية الضارة للدواء الذى تتناوله؛ لكن من الصعب تخيل كيف يؤثر غياب العلاج على الناس.
قد تعنى إجراءات هذه الإدارة أيضًا، أن الأشخاص الذين كانوا يحصلون على علاجات ضرورية لإنقاذ لحياتهم لن يتمكنوا من الحصول عليها بعد الآن — وأنهم سيبدأون فى ملء ليس مقابر غير مرئية فى المستقبل، ولكن مقابر حقيقية اليوم.
لقد قامت الإدارة بتفكيك الخطة الطارئة للإغاثة من الإيدز (PEPFAR)، والتى يُنسب إليها الفضل فى إنقاذ حياة حوالى 26 مليون شخص على مستوى العالم. وفى وسط أسوأ موسم إنفلونزا منذ سنوات، ألغت إدارة الغذاء والدواء الاجتماع الذى يناقش فيه الخبراء كيفية تحديث لقاح الخريف بشكل أفضل. ومع تزايد خطر إنفلونزا الطيور — حيث ينتشر الفيروس فى المزارع ويتحور بطرق تهدد صحة الإنسان بشكل متزايد — كان رد الفعل غير كافٍ بشكل مؤسف.
في الوقت نفسه، تستمر معدلات تطعيم الأطفال فى الانخفاض، وانتشر تفشى "الحصبة" فى تسع ولايات، حيث توفى شخصان — طفل فى "تكساس" ورجل فى "نيو مكسيكو" — مما يمثل أول وفيات مرتبطة بالحصبة فى "الولايات المتحدة" منذ عقد. ذلك هو ما دفع "روبرت إف. كينيدى" الابن، الذى يشغل منصب أكبر مسؤول صحى فى البلاد وأكبر المشككين فى اللقاحات، إلى تقديم نصيحة متأخرة للآباء للنظر فى تطعيم أطفالهم.
كان "فانيفار بوش" قد خلص إلى أن "العلم، بمفرده، لا يوفر حلًا سحريًا. ولكن يمكنه أن يساهم فى تحقيق الرفاه للإنسانية، وذلك فقط فى حالة كونه عضوا فعالا فى الفريق"
لكن "إدارة ترامب" لا تبدو راغبة فى المشاركة فى اللعب.
تعليقات