الفراعنة الأوائل

سنستكشف هنا مع "سكوت ريفز" قادة مصر القديمة واسهامتهم فى إنشاء تلك المملكة العظيمة. 

إذا كان هناك شىء واحد يتفق عليه علماء المصريات، فهو أنهم سيختلفون دائمًا حول ما الذى حدث فى فترة (العصر العتيق). 

فخلال القرون الخمسة التى تلت توحيد "نارمر' لمصر العليا والسفلى فى مملكة واحدة، وضع أوائل الفراعنة أسس حضارة مزدهرة استمرت لـ 3000 عام.  

لكن كيفية قيامهم بذلك بالضبط يظل أمر غير واضح. وتظل المصادر المعلوماتية فى أفضل الأحوال متفرقة؛ بحيث يجب على علماء الآثار تجميع النقوش المتناثرة المكتوبة بالهيروغليفية المبكرة التى يصعب ترجمتها. السجلات المعاصرة الوحيدة هى حوليات "باليرمو" الملكية، وهى واحدة من بين سبع لوحات حجرية تشكل معًا السجلات الملكية، والتى تعطى لمحة عن بعض الأحداث الكبرى والطقوس. لكن الفراعنة المذكورين فيها كانوا يحملون عادة أسماء وألقابًا متعددة. ولا يتفق المؤرخون على ترتيب حكمهم، أو علاقاتهم ببعضهم البعض، أو حتى وجود بعض الفراعنة منهم. 

بعد عقود من البحث الدقيق، سنضع هنا ما اكتشفه علماء المصريات عن أكثر الفراعنة الأوائل تأثيرًا وإثارة للاهتمام.  

"دن" 

فى هذه الفترة التى تندر فيها المصادر المعلوماتية، يُعد "دن" أحد أشهر فراعنة العصر العتيق. فباعتباره الحاكم الخامس من الأسرة الأولى، أخذ "دن" الدولة البدائية التى أنشأها جده الأكبر "نارمر"، وأسس نظامًا حكوميًا ملكيًا وطقوسًا استمرت لقرون بعد وفاته.  

كان "دن" هو أول فرعون يُطلق عليه لقب "ملك مصر العليا والسفلى"، وقد يكون أول من صُوِّر وهو يرتدى التاج المزدوج (الأحمر والأبيض) الذي يرمز إلى توحيد شطرى مصر. كما أدخل إداريو "دن" نظامًا رقميًا هيروغليفيًا لحساب الضرائب وتحديد الأحداث السنوية؛ حيث كانت السنوات تُصوَّر قبل ذلك برموز معقدة ومربكة.  

قضى "دن" السنوات الأولى من حكمه الذى استمر 42 عامًا فى تقاسم للسلطة مع والدته، "ميرنيث"، مما يشير إلى أنه تولى العرش وهو طفل وتطلب وجود وصى للحكم نيابة عنه. عند بلوغه، تشير السجلات الناقصة إلى العديد من الأمثلة على قهر "دن" لأعدائه، حيث يُصوَّر الفرعون وهو يمسك بشعر خصمه المهزوم بيد وصولجانًا باليد الأخرى. ومن بين من هزمهم قبائل "إيونتجو" (أصحاب أقواس الصيد)، وهى قبائل بدوية من الشرق كانت غاراتها مصدر إزعاج دائم. وبما أن "دن" هو أول فرعون يتم توثيقه فى النقوش الصخرية فى شبه جزيرة "سيناء"، فمن المحتمل أنه وسع مملكته فى الشمال الشرقى. كما يُحتفى به فى السجلات الملكية لمشاريع بناء شملت قنوات وقلعة.  

من بين مشاريعه البنائية كان قبره فى "أم القعاب"، والذى كان أحد أضخم المقابر. اتبع التصميم التقليدى للمقبرة – مبنى مستطيل بسقف مسطح وجدران مائلة مع قبر محفور تحته – لكنه تميز بأرضية مذهلة مصنوعة من أحجار الجرانيت الأحمر والأسود. كانت هذه المرة الأولى التى يُستخدم فيها الحجر فى البناء الجنائزى المصرى، رغم أنه من المحتمل أن القبر استُخدم في البداية كمخزن حيث كان يتم الدخول إليه عبر سلم بدلًا من عمود رأسى. ربما رأى اللصوص أن القبر هدفًا مغريًا، لكن بابًا خشبيًا أغلق السلالم وبوابة حديدية منعت الوصول إلى غرفة الدفن.  

"جر"

في المملكة الوسطى، كان المصريون القدماء يتدفقون إلى قبر "أوزوريس"، إله العالم السفلى، للاحتفال بمهرجانات تكريمية له. لكن ما لم يدركه هؤلاء المصلون هو أن ما سُمى بالقبر المقدس كان فى الواقع مكان الراحة الأخير لأحد أقدم فراعنة مصر.  

كان "جر" على الأرجح حفيد "نارمر" والفرعون الثالث فى الأسرة الأولى. وعلى الرغم من أن اسمه قد نُسى إلى حد كبير بحلول الوقت الذى أصبح فيه قبره موقعًا للحج لأوزوريس، إلا أن "جر" حكم المملكة الفتية لنحو 40 عامًا، حيث امتدت أراضيه من "منف" فى الشمال إلى "أسوان" الحديثة فى الجنوب.  

عندما انتهى حكمه الطويل، دُفن "جر" إلى جانب جده ووالده فى أكبر قبر فى "أم القعاب", وربما لهذا السبب نُسب القبر لاحقًا بعد قرون إلى أوزوريس. 

لم يكن "جر" هو من دفن وحده خلال الطقوس الجنائزية. حيث تشير المدافن الفرعية المنتشرة حول القبر إلى أن هناك 318 خادمًا قد قُتلوا ودُفنوا فى نفس الوقت، كتضحية مروعة لضمان قيامهم برعاية الفرعون جيدًا فى الحياة الآخرة. 

كانت مثل هذه التضحيات الجماعية تُمارس عند وفاة كل فرعون فى الأسرة الأولى، لكن جنازة "جر" كانت الأكثر دموية.  

أعيد اكتشاف قبر "جر" عام 1895 بواسطة "إميل أميلينو"، ثم مرة أخرى عام 1900 بواسطة "فليندرز بيترى".

"قاع"  

عثر علماء الآثار والمؤرخون على مصادر قليلة تشير إلى عهد "قاع"، لكنهم استنتجوا أن فترة حكمه كانت طويلة – حوالى 33 عامًا – وسلمية، مع وقوع أحداث طقسية روتينية فقط.  

تشير ختمات الأختام التى عُثر عليها فى "سقارة" و"أبو صير" و"أبيدوس" إلى أنه حكم مملكة كبيرة، بينما قد تشير بعض النقوش إلى أن التعدين فى عهده كان يجرى فى الصحراء الشرقية. كما تشير القطع الأثرية المستمدة من سوريا وفلسطين إلى وجود نوع من الاتصال، سواء عبر التجار أو الجيش، مع هذه القبائل عبر "سيناء".  

لا توضح هذه المؤشرات على الازدهار سبب انهيار الأسرة الأولى بعد وفاة "قاع". ومع ذلك، يبدو أن وفاته أثارت حربًا أهلية قصيرة بين حاكمين عابرين: أحدهما "سنفركا" (رغم أن هذا قد يكون اسمًا آخر ل"قاع" نفسه، مما يشير إلى أن الحرب الأهلية اندلعت بينما كان "قاع" لا يزال على العرش).  

كان قبر "قاع" كبيرًا نسبيًا، كما هو متوقع لحاكم طويل الأمد، لكن أدلة على الحريق والسرقة تشير إلى أنه تعرض للنبش بعد دفنه بفترة قصيرة، ربما بسبب الاضطرابات التى أعقبت وفاته. لم تكن وفاة "قاع" نهاية الأسرة الأولى فحسب، بل أيضًا نهاية التضحية بالخدم – حيث كانت المدافن الفرعية الـ 26 حول القبر آخر الأمثلة على قتل الخدم عند دفن ملكهم فى "مصر" القديمة.  

"نى نتجر" 

لم يكن الفرعون الثالث فى الأسرة الثانية يخاف من القيام بالأشياء بشكل مختلف. يُقال إنه أعلن أن للنساء الحق فى الحكم مثل الرجال – وهو قرار قد يكون قد أدى إلى الإعتراف بعد وفاته بملكات الأسرة الأولى "ميرنيث" و"نيث حتب"، اللتين عملتا كوصيتين على أبنائهما الصغار. وربما قد يشير أيضًا إلى والدته. حكم "نى نتجر" لأربعة عقود، ومن المحتمل أنه أصبح فرعونًا وهو طفل. كما قام بإصلاح نظام الضرائب، وجعل تعداد الماشية أحد الطرق الرئيسية لتقييم وجمع الضرائب.  

لكن أكثر سياساته تأثيرًا حدثت بعد وفاته، حيث كان قد أمر بتقسيم المملكة المصرية إلى كيانين منفصلين. يعتقد البعض أن ذلك كان بسبب تأثير كساد اقتصادى نتيجة انخفاض فيضان النيل حول "منف"، بينما يعتقد آخرون أن الدولة المصرية كانت قد قد أصبحت مثقلة بالبيروقراطية. بينما يعتقد آخرون أن تمردًا كان يختمر فى الشمال أو أن "نى نتجر" فقد السيطرة على الجنوب. مهما كان السبب، اعتقد الفرعون أن "مصر" يمكن أن تُحكم بشكل أفضل إذا كانت دولتين منفصلتين بحاكمين مختلفين. من غير الواضح ما إذا كانت رغباته نُفذت على الفور أو إذا كان لديه خليفة تمسك بالسلطة لفترة قصيرة، لكن يبدو أنه فى وقت ما بعد وفاة "نى نتجر"، أصبحت "مصر" مملكة منقسمة مرة أخرى.  

إذا كان "نى نتجر" قد عانى صعوبة فى السيطرة على مملتكة المضطربة، فإن ذلك لا يظهر على قبره، الذى يشبه مصاطب أسلافه فى سقارة. 

تم اكتشاف قبره تحت نصب جنائزى لاحق للفرعون "أوناس"، وكان عبارة عن متاهة من الممرات على عمق 25 مترًا تحت الأرض. نجت إحدى الغرف من اللصوص واحتوت على ثروة من الأشياء، بما فى ذلك جرار النبيذ، وبعضها من مقابر الأسرة الأولى المنهوبة فى "أم القعاب". بينما أعيد فتح غرفة أخرى فى العصور القديمة واستُخدمت لإيواء مومياوات من الأسرة التاسعة عشرة، بعد حوالى 1500 عام من حياة "نى نتجر" ووفاته.  

"حتب سخموى"  

لا يُعرف الكثير عن الأصول والحياة المبكرة للرجل الذى أصبح الفرعون "حتب سخموى" ، لكن اختياره لاسمه الملكى – الذي يعنى "السيدتان فى سلام" – يشير إلى أنه تولى العرش بعد فترة من الصراع بعد وفاة "قاع"، حيث يرمز اسمه إلى أنه جمع بين فصيلين أو شطرى "مصر". من بين إنجازاته ترميم قبر "قاع"، الذى كان على الأرجح حماه، وهى حركة دعائية ذكية عزز بها أول حاكم فى الأسرة الثانية شرعيته من خلال ربط نفسه بفراعنة الماضى.  

ومع ذلك، لم يخشَ "حتب سخموى" كسر التقاليد عندما كان ذلك مناسبًا. يدعي البعض أن قبره كان فى مقبرة سقارة، مما يجعله أول فرعون يُدفن هناك (رغم أن آخرين يقولون إننا لا نعرف مكان قبره بالفعل). قد يكون ذلك مؤشرًا على أن السلطة بدأت تنتقل من عاصمة "نارمر" فى "ثينيس" بمصر العليا إلى "منف" فى "مصر" السفلى، أو قد يكون رد فعل عمليًا على نهب مقابر الأسرة الأولى فى "أم القعاب".  

كان "حتب سخموى" بناءً نشطًا، حيث أمر ببناء المعابد ومقر ملكى جديد. 

وربما تكون هناك كارثة قد وقعت فى عهده تطلبت إعادة البناء، حيث ذكر مؤرخ قديم – كتب ذلك بعد أكثر من 2000 عام – حدوث زلزال فى دلتا النيل حيث "انفتح شق بالقرب من "بوباستيس" ومات الكثيرون."  

"خع سخموى"  

بعد حوالى 50 عامًا من تقسيم "نى نتجر" لمصر، تم توحيدها مرة أخرى على يد آخر فراعنة الأسرة الثانية. يعتقد المؤرخون أن "خع سخموى" حكم لمدة 18 عامًا، رغم أنه من غير الواضح ما إذا كان بدأ حكمه فقط كملك لمصر السفلى أو العليا. ما هو معروف أن شعاره الملكى احتوى على رموز "حورس" و"ست"، آلهة شطرى المملكة، وأنه تزوج أميرة من الشمال لتعزيز موقفه هناك.  

كان "خع سخموى" أحد أكثر البنائين نشاطًا فى" فترة الأسرات المبكرة. يُعرف أنه أمر ببناء حصن فى "نخن" وقبر كبير فى أم "القعاب"، مما يجعله آخر فرعون يُدفن فى المجمع المفضل للأسرة الأولى. 

قريبًا منه أشرف على بناء سور جنائزى، وهو مكان طقوسى يُعبد فيه الفرعون الميت ولا يزال حتى الآن فى حالة جيدة بشكل ملحوظ. قد يكون أيضًا مسؤولًا عن الجسر المدور فى "سقارة"، وهو سور جنائزى آخر يقع بالقرب من مقابر أسلافه من الأسرة الثانية.  

قد تكون تفاصيل كلا السورين الجنائزيين قد ألهمت هرم "زوسر" المدرج الذى بناه ابنه أو ابن زوجته وخليفته. 

ورغم أن المعاصرين ربما لم يكونوا ليميزوا بينهما، إلا أن وفاة "خع سخموى" وتولى "زوسر" العرش كانت نهاية الفترة العتيقة، وبداية الأسرة الثالثة والمملكة القديمة. 

لقد بدأ عصر الأهرامات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة