حتشبسوت: الملكة التى أصبحت ملكًا

  بعد عقود من الاستقرار، وجدت "مصر" نفسها مرة أخرى فى أزمة، عندها قررت امرأة واحدة أن تقوم بتغيير هذا الوضع جذرياً.

كان هناك إعتقاد بأن الفراعنة قد ورثوا العرش بحق إلهى ولذلك
 كانوا يُعبدون باعتبارهم آلهة على الأرض. لقد بُنيت المعابد الضخمة لتكريمهم، ونُحتت التماثيل على صورهم، وشُيدت الأهرامات لإحياء ذكراهم وضمان بقاء إرثهم إلى الأبد. مع ذلك، ففى واحدة من أكبر عمليات التستر فى التاريخ، تم محو إرث أحد أعظم حكامها، تقريبًا من الذاكرة ، وتم دفنه فى الرمال. 

قد يبدو السبب وراء محو عهد هذا الملك من التاريخ غريباً بالنسبة لنا الآن: لقد كان هذا الفرعون امرأة.

في القرن السادس عشر قبل الميلاد، كانت "مصر" تمر بفترة طويلة من الاستقرار. فقد أسس "أحمس الأول" الأسرة الثامنة عشرة فى عام 1543 قبل الميلاد، والتى مثلت بداية العصر الذى وصلت فيه الإمبراطورية إلى ذروة قوتها. فبعد أن طرد "أحمس" المستوطنين الهكسوس من شمال "مصر" ووضع دلتا النيل تحت سيطرته، توحدت البلاد سياسيًا لأول مرة منذ أكثر من 500 عام. 

أعاد "أحمس" تنظيم إدارة البلاد وبدأ العديد من مشاريع البناء الضخمة، والتى استمرت عندما تولى خليفته، "أمنحتب الأول"، العرش فى عام 1526 قبل الميلاد. 

كانت تلك فترة قوة واستقرار عظيمين.

ثم جاء عهد "تحتمس الأول" من 1506 إلى 1493 قبل الميلاد، الذى وسع حدود الإمبراطورية أكثر من أى وقت مضى. عندما توفى، انتقل العرش إلى ابنه من زوجة ثانوية، "تحتمس الثانى". ولتأمين حكمه، تزوج "تحتمس الثانى" من أخته غير الشقيقة، ابنة "تحتمس الأول". 

لقد كانت ذات دم ملكى كامل وأعلن عنها زوجته الرئيسية: كان اسمها "حتشبسوت'.

حتى فى سن الثانية عشرة، كانت "حتشبسوت" تتمتع بنفوذ كبير فى البلاط الملكى. من المحتمل أن "تحتمس الثانى" كان أصغر منها سنًا، لذلك تولت زوجته زمام الأمور فى صنع القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية والداخلية. كان زوجها أيضًا ضعيفًا جسديًا، كما تكشف مومياءه النحيلة والمليئة بالجروح، وحكم لمدة لا تزيد عن 13 عامًا قبل أن يموت في العشرينيات من عمره. قدمت له "حتشبسوت" الكثير خلال فترة حكمه القصيرة، لكنها لم تتمكن من منح "تحتمس" الشىء الوحيد الذى كان يحتاجه لاستمرار سلالته: وريثًا ذكرًا.

بدلًا من ذلك، انتقل العرش إلى ابنه من إحدى زوجات الحريم. وكان هذا الصبى، الذي يُدعى أيضًا "تحتمس"، طفلًا صغيرًا، لذلك كان بحاجة إلى وصى يمكنه إدارة شؤون الحكم حتى يكبر بما يكفى للقيام بذلك بنفسه. وكما تقتدى التقاليد، وقعت المهمة فى يد الملكة الأرملة – زوجة أبيه وعمته. 

لفترة من الوقت، سارت الوصاية كما يحدث فى أى وصاية أخرى شهدتها المملكة القديمة. تُظهر النقوش والتماثيل من ذلك الوقت "تحتمس الثالث" الصغير يؤدى واجباته الفرعونية مع "حتشبسوت" إلى جانبه. 

مع ذلك، فبحلول العام السابع من حكمه، وربما قبل ذلك بكثير، حدث شىء دمر الاستقرار الذى عمل فراعنة الأسرة الثامنة عشرة بجد لتحقيقه. 

لقد تولت "حتشبسوت"، الوصية الأنثى، العرش كملك.

يمكن تتبع هذا التحول من خلال التغييرات الطفيفة فى النقوش والكتابات من ذلك الوقت. بعد بضع سنوات من صعود "تحتمس" الصغير، بدأت النقوش تصور "حتشبسوت" وهى تقوم بمهام كانت عادةً محفوظة للفرعون، مثل تقديم القرابين للآلهة وبناء المسلات.


ثم غيرت لقبها من "زوجة الملك" إلى "زوجة الإله آمون"، واتخذت اسمًا جديدًا، "ماعت كا رع" (من "ماعت"، التى تعنى النظام والعدالة كما أرساها الآلهة). وهى بذلك، كانت تعزز فكرة أن العرش ملكها بحق إلهى. فقد كانت هى فقط من تأتى من سلالة ملكية مباشرة، وبالتالى فقط هى من يمكنها الحفاظ على ازدهار البلاد واستقرارها.

ومع ذلك، كانت هناك مشكلة صغيرة تتعلق بجنسها. كانت الديانة المصرية القديمة تقتضى أن العرش يمكن أن ينتقل فقط من الأب إلى الابن، حيث لم يكن يُعتقد أن النساء قادرات على أداء واجبات الملك. 

لتبرير حكمها، كان على "حتشبسوت" أن تتبنى صفات ذكورية. 

بدأت النقوش تصورها وهى ترتدى غطاء الرأس المخطط (النمس) والأفعى الملكية (اليوريوس)، وهى رموز ملكية. كما صورتها النقوش الأخرى وهى ترتدى ثوبًا نسائيًا طويلًا ولكنها تقف بوضعية ذكورية، مثل تلك التى كانت تُصور بها الشخصيات الذكورية فى ذلك الوقت. وبالمثل، حملت النقوش عناصر ذكورية وأنثوية للفرعون الجديد، حيث استخدمت نهايات كلمات أنثوية أدت إلى ألغاز نحوية مثل "جلالته، نفسها". 

مع مرور السنوات، يبدو أنها تخلت عن أنوثتها تمامًا وصُورت بصدور عارية ولحية الفرعون الزائفة.

ما الذى دفع "حتشبسوت" لفعل المستحيل وتتويج نفسها فرعونًا؟ 

يقول البعض إنه كان طمعًا فى السلطة، بينما يجادل آخرون بأن التهديدات من فرع منافس للعائلة المالكة هو ما أجبرها على تولى العرش لضمان خلافة ابن زوجها. ولكن ما هو مؤكد أنه خلال فترة حكمها، لم يتم وضع "تحتمس الثالث" تحت الإقامة الجبرية، بل أُرسل إلى الجيش ليتعلم كيف يصبح جنديًا جيدًا، وبالتالى ملكًا جيدًا. 

ربما تكون نية "حتشبسوت" الإطاحة بتحتمس وجعل ابنتها، "نفرورا"، خليفتها، هو سيناريو غير مرجح، لكنه لا ينبغى استبعاده تمامًا أيضاً.

مهما كان الدافع، ألفت "حتشبسوت" نفسها عازمة على إثبات أنها فرعون جيد بحكم سلالة دمها الملكية. فبدأت فى استعادة طرق التجارة التى تعطلت خلال فترة احتلال الهكسوس، مما زاد بشكل كبير من ثروة الأسرة الثامنة عشرة. 

كان أحد هذه الطرق يؤدى إلى أرض "بونت"، وهى مملكة تقع فى مكان ما على ساحل البحر الأحمر والتى اكتسبت مكانة أسطورية تقريبًا. أبحرت خمس سفن باسمها، وعادت من "بونت" بسلع قيمة, كالبخور والمر وخشب الأبنوس. كما أرسلت حملات نهب إلى جبيل وسيناء. 

على الجانب الآخر، كانت سياستها الخارجية بشكل عام سلمية، على الرغم من أنه من المحتمل أنها قادت حملات عسكرية ضد النوبة وكنعان.

ولكن من خلال مشاريعها الإنشائية، تركت "حتشبسوت" أكبر أثر لها. إنها تُعتبر واحدة من أكثر البنائين نشاطًا فى "مصر" القديمة، حيث كانت مشاريعها أكبر وأكثر عددًا من أى من أسلافها فى المملكة الوسطى. 

لقد وظفت المهندس العظيم "إينينى" لبناء النصب التذكارية فى معبد الكرنك، الأمر الذى كان تقليدًيا لدى الفراعنة، وكذلك لترميم الأجزاء التى دمرها الحكام الأجانب. وأقامت مسلتين توأمين عند مدخل المعبد؛ كانتا فى ذلك الوقت الأطول فى العالم، حيث بلغ طولهما حوالى 30 متراً. 

وتُظهر النقوش التى تحتفل بهذا الحدث المسلتين يتم سحبهما عبر نهر النيل بواسطة 27 سفينة تعمل بـ 850 مجدفًا. 

لقد كان حدثًا ضخمًا.

كما كانت مسؤولة عن تنفيذ برنامج واسع للأشغال العامة فى جميع أنحاء الإمبراطورية، بما فى ذلك إنشاء شبكة من الطرق المخصصة للمواكب والمقدسات. ومع ذلك، فإن تحفة "حتشبسوت" المميزة هى معبدها الجنائزى فى الدير البحرى. بُنى المعبد على الضفة الغربية لنهر النيل، بالقرب من مدخل ما يُعرف الآن بوادى الملوك، حيث بدأت الفرعونة الأنثى عصرًا جديدًا من الدفن الملكى فى هذا الموقع الأيقونى.  

المعبد هو هيكل ذو أعمدة بُنى فى وجه الجبل ومحاط بالحدائق. صممه "سننموت"، المهندس المعمارى والمسؤول الحكومى الذى كان أيضًا معلماً لابنتها.

كان "سننموت" رجلاً من أصول متواضعة، وقصته مثيرة للاهتمام. 

ظهر اسمه لأول مرة فى السجلات التاريخية على المستوى الوطنى كـ"وكيل زوجة الإله" عندما كانت "حتشبسوت" لا تزال وصية، ولكن بعد تتويجها فرعونًا، حصل على ألقاب أكثر تألقاً – 93 لقبًا فى المجموع – وأصبح "الوكيل العظيم لآمون"، مما جعله المسؤول عن جميع أنشطة البناء والأعمال فى الكرنك.

لا شك أن هذا الرجل كان يتمتع بنفوذ كبير فى البلاط الملكى. بل ويعزو بعض المؤرخين نجاح "حتشبسوت" إليه، واصفين إياه بأنه القوة الحقيقية وراء حكمها. يعتقد آخرون أنه ربما لعب دورًا أكثر حميمية فى حياة الملكة. فقد سمحت له بوضع اسمه وصورة خلف أحد الأبواب الرئيسية فى المعبد، وعلى جدران قبره تم وُصفه بأنه "من أسعد قلب الملك يوميًا"، و"خدم فى قصر قلبها"، وحتى "اهتم بكل ملذات الملك". 

وهناك بعض الرسوم الجدارية التى عُثر عليها فى قبر غير مكتمل استُخدم كمنزل استراحة لعمال معبد الدير البحرى، تصورهما سويا فى اوضاع حميمية. يُعتبر هذا العمل الفنى دليلًا إضافيًا على أن الاثنين كانا فى علاقة. 

بخلاف ذلك، لا يوجد الكثير مما يشير إلى أن العلاقة بين الفرعون ومهندسها قد تحولت إلى علاقة عاطفية. لكن لو كان ذلك قد حدث بالفعل، لكانت علاقتهما غير مسبوقة، حيث أن "سننموت"، على الرغم من ألقابه العديدة، كان لا يزال، من عامة الشعب.

توفي "سننموت" دون زواج، وتبعته "حتشبسوت" بعد فترة قصيرة فى عام 1458 قبل الميلاد بعد 22 عامًا على العرش. توفيت فى منتصف الأربعينيات من عمرها، ربما بسبب سن مصابة، أو ربما حتى تسممت بمرهم استُخدم لعلاج حالة جلدية مزمنة ورثتها هى وزوجها المتوفى عن أسلافهم. 

وفى محاولة أخيرة لتبرير حكمها، طلبت نقل والدها، "تحتمس الأول" المحبوب، إلى قبرها ليرقدوا معًا.


"تحتمس الثالث" ومحو ذكرى "حتشبسوت":

استمر "تحتمس الثالث"، ابن زوج "حتشبسوت"، فى الحكم لمدة 30 عامًا إضافية، حيث أثبت أنه بنّاء طموح ومحارب عظيم. قاد 17 حملة فى أراضى العدو، وغزا أراضى تمتد شمالًا حتى سوريا وجنوبًا حتى الشلال الرابع لنهر النيل. فى غضون ذلك، ظلت آثار عهد "حتشبسوت" شامخة فى الأفق المصرى، حيث كانت مسلاتها الشاهقة وتماثيلها الضخمة تلقى بظلالها على الأرض التى كانت تدعوها يومًا ملكها.

ومع ذلك، مع اقتراب نهاية فترة حكم "تحتمس الثالث"، أصدر أوامر بإزالة خراطيش "حتشبسوت" وصورها من النقوش، وهدم تماثيلها وتشويهها وتحطيمها قبل دفنها فى حفرة. حتى أنه كانت هناك محاولة فى الكرنك لإحاطة مسلاتها بجدران. 

تم تقديم نظريات مختلفة لتفسير هذا التحول المفاجئ والدراماتيكى. 

يرى البعض أن هذا كان عملًا تقليديًا لتعزيز الذات خلال سنوات "تحتمس" الأخيرة، بينما يقترح آخرون أنه كان طريقة لتوفير المال، حيث يمكن نسب المبانى القائمة إلى الملك الحالى.

ولكن يبدو أن التفسير الأكثر ترجيحًا ليس بهذا القدر من سوء النية، بل كان محاولة عقلانية باردة المشاعر لإطفاء ذكرى "ملكة غير تقليدية" قد يتم  تفسير عهدها من قبل الأجيال القادمة على أنه انتهاك خطير لمبدأ الماعت (العدالة والنظام الكونى)".

تقول بهذا الرأى عالمة المصريات "جويس تيلديسلى". تعتقد "تيلديسلى" أن "تحتمس" فكر بعناية فى الكيفية التى قد يأثر بها حكم فرعونة ناجحة على النظام الاجتماعى المصرى بشكل عام، وقرر فى النهاية محو سجلاتها لمنع أى انتفاضة نسوية. 

جريمة "حتشبسوت" الوحيدة قد تكون مجرد كونها امرأة.


النساء الفراعنة بعد "حتشبسوت":

لا يزال هناك جدل حول ما إذا كانت هناك نساء أخريات تمكنّ من أن يصبحن فراعنة فى السنوات التى تلت عهد "حتشبسوت". إحدى اللواتى أثارت الكثير من التكهنات هى زوجة حفيد حفيد "تحتمس الثالث"، "نفرتيتى"، حيث توجد أدلة على أنها تمت ترقيتها إلى وصية مشاركة وربما حكمت كفرعونة بعد وفاة زوجها. من الواضح أنه إذا حدث ذلك، فإن المصريين لم يرغبوا فى تذكر عهدها، حيث تم إزالة اسمها من السجلات، تمامًا مثل "حتشبسوت".

مر أكثر من 1000 عام قبل أن تصعد فرعونة أخرى إلى عرش "مصر". كان اسمها "كليوباترا"، وعلى عكس "حتشبسوت"، سُردت قصتها فى كل ركن من أركان العالم لآلاف السنين القادمة.■


عن:أليسيا فرانسيس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة