منتوحتب الثانى: الفرعون الذى أعاد توحيد مصر

بعد الفوضى والانقسام الذى أعقب سقوط المملكة القديمة، عملت أسرة جديدة على استعادة النظام.  

لم يكتفِ الفرعون "منتوحتب الثانى" بإعادة توحيد مصر، بل كان هو الرجل الذى مهد الطريق لازدهار المملكة الوسطى، التى تُعتبر اعظم العصور الذهبية فى العصور القديمة.

دعونا نتعرف على حياة "منتوحتب الثانى" وحكمه.  

بحلول عام 2181 قبل الميلاد، انهارت المملكة القديمة شديدة المركزية إلى مقاطعات ومناطق محلية. 

يقسم علماء المصريات تاريخ "مصر" إلى فترات من السيطرة المركزية المنظمة، تُعرف باسم "الممالك"، وفترات من عدم الاستقرار السياسى والسلطات المحلية، تُعرف باسم "الفترات الانتقالية". 

وقد أدت نهاية المملكة القديمة إلى بداية الفترة الانتقالية الأولى، التى امتدت من حوالي 2180 إلى 2040 قبل الميلاد. لم تعد "ممفيس"، عاصمة المملكة القديمة، قادرة على ممارسة السيطرة السياسية على الحكام الإقليميين، الذين كانوا يحكمون مناطق تُعرف باسم "نوم"، فأصبح هؤلاء الحكام فى الواقع ملوكًا وقادة محليين.  

من ناحية أخرى، كان لانهيار السيطرة المركزية تأثير إيجابى تمثل فى إعادة توزيع الثروة بشكل أوسع فى جميع أنحاء "مصر". 

كانت الطقوس الجنائزية لفراعنة المملكة القديمة تستنزف موارد هائلة لبناء مقابر الملوك المتوفين. ومع انهيار المملكة القديمة، أصبحت هذه الموارد متاحة على نطاق أوسع. على سبيل المثال، فى حين كانت المبانى والمقابر والنقوش الجنائزية فى السابق حكرًا على النخبة العليا فى المجتمع المصرى، أصبح بإمكان الأشخاص العاديين بحلول نهاية الفترة الانتقالية الأولى الحصول على كتب إرشادية عن الحياة الآخرة على شكل "نصوص التوابيت". وهذا يعنى عمليًا أن الفرعون لم يعد الوحيد الذى يمكنه أن يأمل فى حياة آخرة.  

تخلّى خلفاء فراعنة المملكة القديمة العظماء عن عاصمتهم فى "ممفيس" وانتقلوا شمالًا إلى هيراكليوبوليس (وكانت المدينة تُعرف فى اللغة الديموطيقية باسم "ابن الفرعون"). 

ومن هناك، سيطر هؤلاء الحكام على دلتا النيل ومصر السفلى. 

فى هذه الأثناء، بدأ "إنتف الأول"، حاكم مدينة "طيبة"، فى توسيع نفوذه من خلال غزو المقاطعات المجاورة وتأسيس أسرة جديدة، وهى الأسرة الحادية عشرة. وقام الملوك اللاحقون – وعددهم أربعة – بتوسيع المنطقة الخاضعة لسيطرة الأسرة الحادية عشرة تدريجيًا.

كان أهم انتصار لهم هو الاستيلاء على مدينة "أبيدوس"، موقع دفن أقدم الفراعنة. وبغزو "أبيدوس"، كان ملوك الأسرة الحادية عشرة يؤكدون أحقيتهم بأن يكونوا الخلفاء الحقيقيين لفراعنة الماضى، بدلًا من الملوك الذين كانوا يحكمون من "هيراكليوبوليس".  

لم يُرقِ هذا الأمر لملوك "هيراكليوبوليس". وعلى الرغم من مرور كل هذا الوقت إلا أن الأدلة تظل غير واضحة، ولكن يبدو أنه كانت هناك فترة من الحروب المتقطعة دارت بين ملوك "هيراكليوبوليس"، الذين ادعوا أنهم الخلفاء الشرعيون لفراعنة المملكة القديمة، وحكام "طيبة الطموحين"، الذين أصبحوا الآن يطالبون بحكم "مصر". 

وقد شهدت "طيبة"، التى كانت فى السابق مدينة صغيرة على ضفاف النيل، برنامجًا ضخمًا لبناء المقابر والقصور، حيث كان خلفاء "إنتف الأول" يقومون بدورهم المصرى التقليدى فى السعى للعرش: من خلال بناء منازل أكبر وأفضل لموتاهم مقارنة بغيرهم.  

لكن كان للأحياء أيضًا دورهم فى هذا الصراع، ذلك أن الحملات العسكرية ضد ملوك "هيراكليوبوليس" أضعفت موقفهم بشكل كبير. وفى حوالى عام 2055 قبل الميلاد اعتلى عرش "طيبة" ملك جديد كان يدعى أحقيته فى حكم "مصر العليا والسفلى". وكان اسمه "منتوحتب".  

نظرًا لأن حكم "منتوحتب" كان طويلًا بشكل غير معتاد، حيث استمر حوالى 50 عامًا، فمن المرجح أنه اعتلى العرش فى سن مبكرة. وقد مرت السنوات الأربع عشرة الأولى من حكمه بسلام نسبى، حيث لا يوجد فى السجلات التاريخية ما يشير إلى صراعات واسعة النطاق خلال تلك الفترة. 

ويبدو أن الملك الشاب كان حريصًا على التأكيد على شرعية حكمه، حيث أن بعض النقوش الصخرية الباقية التى تصوره، تعطى انطباعًا واضحًا بأن الملك كان يحاول إثبات شرعيته بشكل مبالغ فيه. فالنقوش على منحدرات وادى شط الرجال يظهر "منتوحتب" على شكل عملاق يتفوق على الشخصيات الثلاثة الأخرى المنحوتة معه: والده المفترض "إنتف الثالث"، ووالدته، والمسؤول البلاطى الذى خدم كمستشار لكليهما، "خيتى". 

كما يظهر نقش آخر فى "تود" "منتوحتب" بحجم كبير مع أسلافه الملكيين الثلاثة، وكلهم يُدعون "إنتف"، منحوتين بحجم أصغر خلفه.  

هذا الإصرار على التأكيد على نسبه الملكى فى النقوش الحجرية يوحى للمؤرخين المتشككين بأن شرعية حكم "منتوحتب" لم تكن مؤكدة تمامًا: إما لأنه لم يكن ابنًا شرعيًا للسلالة الملكية، أو لأن ملوك "هيراكليوبوليس" كانوا يشنون حملة دعائية لتقويض شرعية الملك الشاب فى طيبة.  

إذا كان الأمر الثانى هو الصحيح، فإن هذه الحملة انقلبت بشكل سىء على ملوك "هيراكليوبوليس". ففى السنة الرابعة عشرة من حكمه، وربما ردًا على هجوم شنته الأسرة المنافسة على "ثينيس"، العاصمة غير المكتشفة حتى الآن للأسرة الأولى من حكام مصر، شن "منتوحتب" هجومًا على مصر السفلى وحكامها فى "هيراكليوبوليس". 

لا يُعرف الكثير عن تفاصيل هذا الصراع، لكنه انتهى بانهيار أسرة "هيراكليوبوليس". فقد توفى حاكم "هيراكليوبوليس"، "مريكا رع"، خلال الحرب قبل أن يلتقى الجانبان فى معركة حاسمة. وفى خضم هذا الصراع، لم يتمكن خليفته من تعزيز حكمه، مما سمح لمنتوحتب بإعادة توحيد مملكتى "مصر" العليا والسفلى تحت قيادته.  

على الرغم من أن تفاصيل الحرب غير واضحة، فإن الهواء الجاف للغاية فى الدير البحرى على الضفة الغربية للنيل قد إحتفظ بشهادة صامتة ولكنها معبرة عن شراسة الصراع. 

كان الدير البحرى موقع المجمع الجنائزى الخاص بمنتوحتب، وهو مشروع ضخم تم بناؤه خلال فترة حكم الفرعون – حيث كان حكام مصر يعرفون جيدًا أنهم يجب ألا يتركوا مسألة أمان حياتهم الآخرة فى يد خلفائهم.  

بالقرب من المقبرة المخطط لها للفرعون، عثر علماء الآثار فى عشرينيات القرن الماضى على سلسلة من الأنفاق التى تمتد لمسافة 60 مترًا فى حضن الجبل. وفى هذه الأنفاق، تم العثور على بقايا 60 جنديًا ملفوفة بالكتان ولكنها غير محنطة. وعلى الرغم من أن الجثث لم تكن محنطة، فإن انعدام الرطوبة فى الجو أدى إلى تجفيفها بدلًا من تحللها: مما جعل منها أفضل الجثث المحفوظة من المملكة الوسطى.  

وقد دُفن هؤلاء الجنود على مرأى من المقبرة الملكية، وكانت أغطيتهم تحمل خرطوشة "منتوحتب"، كما كانت الجثث تحمل علامات موتهم: جماجم محطمة ومثقوبة، وسهام عالقة فى الأجساد. وأكثر التفسيرات احتمالاً هو أن هؤلاء الرجال كانوا جنودًا فى حرب توحيد "مصر" التى خاضها "منتوحتب" ضد أسرة "هيراكليوبوليس"، وكانوا هم الذين دفعوا الثمن فى صراعات الملوك.  

لقد قاموا بخدمة "منتوحتب" فى الحياة وفى الممات؛ فى الحياة كرجال ساعدوه فى هزيمة الأسرة المنافسة، وفى الممات كأبطال يُعتبرون مثالًا على الخدمة التى تُقدّم للفرعون. 

لقد أصبح "منتوحتب" الآن وبحق فرعونًا, وحاكم مصر العليا والسفلى.  

لا نعرف كم استغرق "منتوحتب" لتوحيد مصر بعد هزيمة ملوك "هيراكليوبوليس"، ولا مدى صعوبة ودموية هذه العملية. ولكن ما يشير إلى أن هذه كانت أوقاتًا عنيفة وغير مستقرة، هو عدد الرجال العاديين الذين دُفنوا مع أسلحتهم فى مقابرهم. 

لقد كان المصريون يتوقعون أن تكون الحياة الآخرة استمرارًا للحياة الحالية، لذا فإن الدفن مع الأسلحة يشير إلى حياة مليئة بالحروب. كما أنه تم تصوير العديد من مسؤولى البلاط وهم يحملون أسلحة بدلًا من شارات المنصب.  

ومع استمرار حكم "منتوحتب" الطويل، أصبحت الصور الجنائزية والنقوش الرسمية تدريجيًا أكثر سلمية، مما يشير إلى عودة الاستقرار السياسى.  

لكن أن يكون فرعونًا لم يكن هذا كافيًا لمنتوحتب: لقد أراد أن يصبح إلهًا. 

فقد شهد حكمه تركيزًا متزايدًا على مكانته بين الآلهة. فقد دُعى "منتوحتب" بـ"ابن حتحور"، وتم تصويره وهو يرتدى رموز الآلهة "آمون" و"مين"؛ كما تم تمثيله فى بعض الأحيان بشكل "مين" ذو القضيب المنتصب – وهى كلمة تستحق البحث إذا كنت لا تعرف معناها!  

هناك العديد من الدلائل على أن "منتوحتب" قد بنى مجمعه الجنائزى، "بيت ملايين السنين"، متوقعًا أن يُستخدم كمركز لعبادته. وفى هذا، يكون قد سبق التطورات الدينية التى شهدتها المملكة الحديثة لاحقاً. 

كما غير الفرعون لقبه الرسمى، الذي كان يعبر عن أهداف الملك، مرتين خلال فترة حكمه، ليصبح "الإله ذو التاج الأبيض" ثم "موحد الأرضين".  

من عاصمته فى "طيبة"، قام "منتوحتب" بتقليص سلطات الحكام المحليين، بحيث احتفظ بمن دعموه فى حربه ضد أسرة "هيراكليوبوليس" وتخلص من الذين قاتلوا ضده. ومع ذلك، فحتى الحكام المحليين الذين نجوا من هذه التصفية كان عليهم أن يتوقعوا زيارات تفتيشية  متكررة من المسؤولين الملكيين.  

ترك إنجاز "منتوحتب" فى إعادة توحيد "مصر" بصمة عميقة على المجتمع وعلى الذاكرة الجمعية المصرية، بحيث حملت العديد من المقابر الخاصة، حتى الأسرة العشرين، نقوشًا تخلد ذكرى هذا الرجل الذى وحد "مصر" مرة أخرى بعد الفوضى التى أعقبت سقوط المملكة القديمة.  


عن: إدواردو ألبرت  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة