هل الطاقة المظلمة، حقيقة أم وهم
هذه المقالة تتعرض لتصور جديد حول كيفية اختلاف مرور الزمن عبر الكون، وبالتالى إمكانية التخلص من واحدة من أكثر كيانات الكون غموضًا.
عن مقال بقلم: "ستيوارت كلارك"
تخيل أنك تنظر إلى مشهد طبيعى خلاب، حيث تلمع أشعة الشمس على قمم الجبال الثلجية البعيدة، بينما يتعرج نهر عبر التلال المتدحرجة هناك. يوجد شىء ساحر فى مراقبة تضاريس هذا المشهد الطبيعى المهيب.
الكون أيضاً له تضاريسه الخاصة، قد لا يكون الأمر واضحًا عندما تنظر إلى السماء ليلاً– فلطالما عرفنا أنها خيوط من المجرات تفصل بينها فراغات شاسعة. لكن الآن، تقترح مجموعة من علماء الكونيات أن الكون لا يمتلك فقط تضاريس، بل أيضًا "منظر زمنى" أو "تضاريس زمنية".
الفكرة الرئيسية هى أن تدفق الزمن نفسه يختلف من مكان إلى آخر.
لطالما اعتقدنا أنه على النطاقات الكبيرة، فى جميع أنحاء الكون يمر الزمن بنفس السرعة. لكن فى هذا التصور الجديد والمثير للجدل – المعروف باسم "علم كونيات المنظر الزمنى" – توجد هناك مناطق واسعة من الكون حيث مر الزمن فيها أكثر بمليارات السنين مما كنا نعتقد عادةً.
قد يبدو هذا غريبًا، لكن ما يجذب بعض الفيزيائيين لهذه الفكرة، هو تلك البساطة والأناقة التى تتمتع بها. فهى لا تتضمن فيزياء غريبة، بل تنبثق بشكل طبيعى من النظرية النسبية العامة.
يقول "ديفيد ويلتشاير" من "جامعة كانتربرى" فى نيوزيلندا، وهو مبتكر الفكرة: "إنها جزء من بنية النسبية العامة، لكنها فقط جزء لم يفكر فيه الناس من قبل".
قد يتمكن اقتراحه هذا من تفسير أحد أكبر ألغاز الفيزياء، ويقلب الطريقة القياسية التى يتصور بها علماء الفلك تصميم الكون.
والآن، مع ظهور نتائج جديدة من مسوحات السماء، هناك تلميحات بأن هذه الفكرة ربما تكون صحيحة.
من المعروف لعلماء الفلك منذ قرن تقريبًا أن الفضاء يتمدد. كل شىء غير مرتبط بالجاذبية يبتعد عن كل شىء آخر.
هذا متوقع، نظرًا لأن الكون بدأ بانفجار كبير أدى إلى بدء التمدد. لكن فى منتصف التسعينيات، اكتشفت مجموعتان بحثيتان مستقلتان شيئًا أساسيًا ومفاجئًا لدرجة أنهما فازتا بجائزة نوبل.
ليس فقط أن الكون يتمدد، بل إنه يتمدد بمعدل متسارع. وبما أنه لا يوجد تفسير سهل لهذا، اقترح علماء الكونيات أن الفضاء ملىء بـ"طاقة مظلمة" غامضة تدفع الكون للتمدد بشكل أسرع.
المشكلة هى أنه لا يوجد تفسير طبيعى لما يمكن أن تكون عليه هذه الطاقة المظلمة. وعلى الرغم من عقود من البحث والتفكير المضنى، ومع عدم وجود بديل أفضل، تحولت "الطاقة المظلمة" لتصبح مبدأً أساسيًا فى علم الكونيات.
هذا هو أيضًا الوضع مع ذلك الافتراض المعروف باسم "المبدأ الكونى"، الذى تم تقديمه عام 1933 من قبل عالم الفيزياء الفلكية البريطانى "إدوارد آرثر ميلن". وينص "المبدأ الكونى" على أنه لا توجد أماكن خاصة فى الكون، وبالتالى فإن الاستنتاجات المستخلصة من موقعنا على الأرض تنطبق على الكون بأكمله.
ولناخذ على سبيل المثال، عمر الكون. يقدر علماء الفلك أنه حوالى 13.8 مليار سنة. وعلى الرغم من أنه تم حسابه باستخدام قياسات مأخوذة من الأرض، فإن "المبدأ الكونى" ينص على أننا سنحصل على نفس الإجابة إذا قمنا بنفس القياسات من أى مكان بعيد وعشوائى فى الفضاء. ذلك لأن الكون، وفقًا للمبدأ الكونى، متجانس ومتسق فى النطاقات الكبيرة.
يقول "جوشوا فريمان"، عالم الكونيات فى "جامعة شيكاغو".،
"إذا نظرت إلى توزيع المجرات على النطاقات الكبيرة، أرى نفس العدد تقريبًا من المجرات عندما أنظر شمالاً كما عندما أنظر جنوبًا أو شرقًا أو غربًا".
مع وجود هذا المبدأ، مقترنًا بتمدد الكون ونظرية النسبية العامة لأينشتاين – التى تصف كيف تشوه الجاذبية الزمان والمكان – نصل إلى نموذج لعلم الكونيات يحتاج إلى مكونات إضافية لتفسير كوننا، وهى هنا المادة المظلمة والطاقة المظلمة. النسخة القياسية من هذا النموذج تفترض أن المادة المظلمة تتكون من جسيمات ثقيلة وبطيئة تُعرف باسم "المادة المظلمة الباردة" (CDM)، بينما الطاقة المظلمة هى مجال طاقة ثابت يمثله الحرف اليوناني "لامدا" (λ). وهذا هو ما يعطى "النموذج الكونى" القياسى اسمه:
– "لامدا-سى دى إم" (ΛCDM) –
وهو العدسة التى ينظر من خلالها معظم علماء الفيزياء الفلكية وعلماء الكونيات إلى الكون.
مع ذلك فالمشكلة مع "المبدأ الكونى"، هى أن الكون متجانس ومتسق فقط على نطاقات يبلغ مداها حوالى 400 مليون سنة ضوئية أو أكثر. أما دون ذلك، فالأمور تختلف بشكل كبير من مكان إلى آخر.
هناك عناقيد مجرية تحتوى على الكثير من المادة بحيث تبقى متماسكة، ومنفصلة تمامًا عنها وهناك الفراغات – مناطق شاسعة وفارغة تقريبًا حيث يستمر التمدد بشكل طبيعى.
في منتصف العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، أصبح "ويلتشاير" على علم بأعمال "توماس بوشيرت"، الذى كان يعمل فى مختبر "سيرن" للفيزياء بالقرب من جنيف، سويسرا. أدرك "بوشيرت" أن هذه اللا تجانسية يمكنها أن تؤثر على تمدد الكون. ومع افتراض أن الفراغ يشكل ما يصل إلى 95% من حجم الكون، بدأ "بوشيرت" فى حساب طريقة أفضل للتعامل معها، بدلًا من فقط افتراض صحة "المبدأ الكونى".
أخذ "ويلتشاير" أساليب "بوشيرت" وقام بتطبيقها على النسبية العامة، وفى عام 2007 ولد نموذج "المنظر الزمنى".
السر وراء هذا النموذج هو ظاهرة غريبة تُعرف باسم "تمدد الزمن الجاذبى": قوة الجاذبية للأجسام الضخمة تشوه الزمكان، مما يؤدى إلى مرور الزمن بشكل أبطأ بالقرب من هذه الأجسام مقارنة بالأماكن البعيدة. كلما كانت قوة الجاذبية أقوى، كان الزمن أبطأ.
هذا المفهوم نفسه ليس جديدًا، لكن علماء الكونيات افترضوا عمومًا أن هذه التأثيرات تتلاشى على النطاقات الكبيرة، لأن "المبدأ الكونى" ينص على أن المادة موزعة بشكل متساوٍ فى الكون.
إذا قمنا بالتخلى عن "المبدأ الكونى"، كما يقترح بذلك "ويلتشاير" وزملاؤه، فلن يمكننا بعد الآن افتراض ذلك. إذا أردت نموذجًا لعلم الكونيات يتوافق مع هذه الرؤية، عليك الخوض فى تفاصيل معادلات أينشتاين التى تربط خصائص الزمكان بكمية المادة والطاقة الموجودة فيه. هذه الخصائص تحدد ما إذا كان ذلك الجزء من الكون يتمدد وبأى معدل، وكذلك مدى سرعة مرور الزمن فى تلك المنطقة.
نظرًا لوجود القليل جدًا من المادة في الفراغ، فإن الزمن يمكن أن يمر بشكل مختلف تمامًا هناك.
يقول "رايان ريدن-هاربر"، أحد أعضاء الفريق من "جامعة كانتربرى": "يمكن أن تكون الفراغات أقدم بحوالى 4 مليارات سنة من العناقيد المجرية". بعبارة أخرى، لقد مر وقت أكثر فى الفراغات منذ الانفجار الكبير مقارنة بمجرتنا "درب التبانة"، وبالتالى فإن عمر الكون سيكون مختلفاً بشكل كبير اعتمادًا على موقعك فيه.
هذا يعنى أيضًا أن الفضاء داخل الفراغات كان يتمدد لمدة تصل إلى 4 مليارات سنة أكثر مما نعتقد إذا استخدمنا فقط عمر الكون المحسوب من داخل مجرتنا. وطبقا لما سبق، يدعى الباحثون أنه بمجرد تصحيح هذا الاختلاف بين المواقع باستخدام نموذج "المنظر الزمنى"، فإن الحاجة إلى الطاقة المظلمة تتلاشى.
كانت هذه الفكرة صعبة القبول منذ طرحها لأول مرة – وليس فقط من فريق "ويلتشاير". لقد كانت هناك محاولات سابقة للتعامل مع اللا تجانسية الواضحة فى بنية الكون، ولم تنجح أى منها فى تغيير الرأى السائد.
يقول "فريمان": "هناك أدبيات كاملة حول [علم الكونيات اللا متجانس]. عندما تدرج هذه الهياكل الكبيرة، هل يمكن أن تؤثر على تمدد الكون بطريقة تحاكى تأثيرات الطاقة المظلمة؟
فى رأيى، معظم الأدبيات تشير إلى أن هذا "لن يحدث".
ولكن "ويلتشاير" يقول إن الجهود المبكرة لبناء نماذج كونية لا متجانسة من قبل مجموعات أخرى كانت تروى نصف القصة فقط، لأنها استمرت فى افتراض وجود عمر ثابت للكون. ما لم يدركه الكثيرون، كما يقول، هو أن نموذج "المنظر الزمنى" مختلف, لأنه يتضمن اعمارا متغيره للكون. وهو ما يجعل هذا النموذج يعمل، من خلال السماح للفراغات بالتمدد لمليارات السنين أكثر مما نتوقع من حساباتنا المحلية.
الآن، ربما تكون هناك فرصة أخرى لإقناع زملائه، فبفضل مجموعة بيانات جديدة تُسمى "بانثيون+".
تحتوى هذه المجموعة على ملاحظات لـ 1535 مستعرًا أعظميًا من النوع "1a"، وهى نجوم تنفجر وتطلق نفس الكمية من الطاقة تقريبًا، لذا فإن أى اختلاف فى سطوعها هو ناتج عن بعدها عنا. هذا ما يجعلها طريقة ممتازة لقياس الكون.
لكن القيمة الحقيقية لمجموعة البيانات هذه بالنسبة ل"ويلتشاير" هى أن جميع الملاحظات تمت معايرتها لإزالة الأخطاء المحتملة التى قد تنتج عن تسجيل المستعرات الأعظمية بتلسكوبات مختلفة. مثل هذه المجموعة الكبيرة والدقيقة من البيانات تسمح أخيرًا بمقارنة ذات معنى بين نموذج "المنظر الزمنى" ونموذج "لامدا-سى دى إم".
فى تحليلهم الأخير، الذى نُشر فى يناير 2025، قام "ويلتشاير" وفريقه بمقارنة مدى توافق نموذج "لامدا-سى دى إم" مع بيانات "بانثيون+" مقارنة بنموذج "المنظر الزمنى". ويدعى الفريق أن تحليلهم الإحصائى يقدم "أدلة قوية جدًا لصالح "المنظر الزمنى" على حساب "لامدا-سى دى إم".
ومع ذلك، لم يقنع هذا التطور الأخير "فريمان"، الذي يدير "مسح الطاقة المظلمة" (DES)، وهو تعاون يضم أكثر من 400 عالم من جميع أنحاء العالم. ذلك على الرغم من أن DES لديه مجموعة بيانات خاصة به عن المستعرات الأعظمية التى تم جمعها بين عامى 2013 و2019، والتى عند تحليلها وحدها، أيدت أيضًا نموذج "المنظر الزمنى" على حساب "لامدا-سى دى إم".
سبب تشكك "فريمان" المستمر يكمن فى قياسات ظاهرة كونية أخرى تُعرف باسم "التذبذبات الصوتية للباريونات" (BAOs).
يمكننا اعتبار "BAOs" بأنها تموجات فى البنية الكبيرة للكون، وهى مرتبطة بموجات صوتية تتحرك فى البلازما البدائية – ذلك الحوض من الجسيمات فائقة السخونة التى ملأت الكون فى مراحله المبكرة وتجمعت فى النهاية لتشكل المجرات التى نراها اليوم. تركت هذه العملية تباينات فى الكثافة عملت كقالب لنمط العناقيد المادية والفراغات التى نراها اليوم.
عندما قام "رايان كاميليرى" من "جامعة كوينزلاند" فى أستراليا وزملاؤه باستخراج بيانات "BAOs" من ملاحظات DES واختبروها مقابل توقعات "لامدا-سى دى إم" و"المنظر الزمنى"، وجدوا أن النموذج الكونى القياسى فاز بشكل مقنع.
يريد "ويلتشاير" وفريقه التحقق من هذه النتيجة.
يقول "ريدن-هاربر": "أكثر شىء مثير للاهتمام يمكننا القيام به حاليًا هو الاقتراب من مسألة التذبذبات الصوتية للباريونات ومعرفة ما إذا كان هذا صحيحًا، من أن 'لامدا-سى دى إم' بالفعل يتوافق بشكل أفضل".
من الضرورى التأكد من ذلك بشكل صحيح لأن هناك الكثير على المحك. نموذج "لامدا-سى دى إم" يوفر أساسًا لفهمنا للكون، لكن على الرغم من نجاحاته العديدة، فهناك عدد من التحديات التى تواجهه فى علم الكونيات – وليس فقط تلك المتمثلة فى فكرة "المنظر الزمنى".
في عام 2005، بدأ "آدم ريس" من "جامعة جونز هوبكنز" فى ماريلاند، الذى شارك فى الحصول على جائزة نوبل لاكتشاف الطاقة المظلمة، فى لفت الانتباه إلى لغز يُعرف باسم "توتر هابل".
يتعلق هذا بحقيقة أن هناك طريقتين رئيسيتين لحساب معدل تمدد الكون الحالى، وهناك رقم يُعرف باسم "ثابت هابل"، لا تتطابق فيه الطريقتين. الطريقة الأولى، باستخدام ملاحظات المستعرات الأعظمية فى الكون القريب نسبيًا، والتى تعطى قيمة حوالى 73 كيلومترًا في الثانية لكل ميجا فرسخ. الطريقة الأخرى لحساب ثابت هابل هى البدء بملاحظات الخلفية الكونية الميكروية – الإشعاع الخافت المتبقى بعد الانفجار الكبير – واستخدام "لامدا-سى دى إم" لتتبع تطور الكون على مدى الـ 13 مليار سنة الماضية للوصول إلى قيمته الحالية.
هذه الطريقة تعطي قيمة 67.7 كم/ث/ميجا فرسك.
يعتقد "ويلتشاير" أن نموذج "المنظر الزمنى" قد يكون قادرًا على حل هذا التوتر.
عندما تم إصدار الإشعاع الذى يشكل الخلفية الكونية الميكروية، بعد حوالى 380,000 سنة من الانفجار الكبير، كانت البلازما البدائية التى ملأت الكون متجانسة تقريبًا. لكن مع تجمع المادة بفعل الجاذبية، تشكلت البنية وأعطت الكون الحديث نمطه اللا متجانس من العناقيد والفراغات.
نموذج "المنظر الزمنى"، -حسب رأيه- يعوض عن هذا التطور، بينما النموذج القياسى لا يفعل ذلك. النتيجة هى أن نموذج "المنظر الزمنى" يتنبأ بقيمة أعلى لثابت هابل اليوم، مما يفسر توتر هابل، إنه بسبب التمدد الإضافى الذى حدث فى الفراغات.
على كل حال، فإن اللحظة الحاسمة لفكرة "المنظر الزمنى" على وشك الحدوث. ذلك انه خلال السنوات الخمس المقبلة، ستتوفر مجموعات بيانات أكثر وأفضل لعلماء الكونيات، ويقول "ويلتشاير" إن هذه البيانات ستكون قادرة على التمييز بشكل نهائى بين نموذجه و"لامدا-سى دى إم".
كل هذا يعنى أن مستقبل علم الكونيات معلق حاليًا فى الميزان . لكن "ويلتشاير"، لا يمانع الانتظار. لقد عمل على فرضيته "المنظر الزمنى" لمدة تقارب عقدين، لذا فهو مستعد لانتظار بضع سنوات أخرى لمعرفة ما إذا كان قد كشف سرًا من أسرار الكون تجاهله الآخرون.
يقول: "بحلول نهاية هذا العقد، سنعرف الإجابات".
"ستيوارت كلارك" هو كاتب علمى مقيم فى المملكة المتحدة. أحدث كتبه هو "تحت جناح الليل".
تعليقات