ركاب قطار الليل - قصة من الأدب الاسبانى بقلم: "رودولفو إنريكى فوجويل"

الترجمة من الإسبانية: ويل فاندرهايدن

ترجمة: حازم فرجانى

لا أحد يعلم كيف بدأت هذه القصة. 

كانت الأخبار أولًا قد انتشرت يوم خميس، لكن هذا لا يُثبت أى شئ.

 فربما كل شئ كان قد بدأ قبل أيام أو ربما أسابيع، من ذلك الصباح فى أوائل الصيف. 

عندما أبلغ بائعو السجائر والصحف فى محطة القطار، أن جنوداً قد عادوا إلى الديار، وأنهم رأوا "دييجو أوريارتى" ينزل من القطار الذى يأتى حاملاً صحف اليوم السابق، والحليب، وطرود طلبات تجار الجملة.

كان أول من بدأ فى نشر الخبر صباح ذلك اليوم، هم "خيمينيز"، من كشك المجلات، و"كينتروس"، بائع السجائر، وهو ما جعل الجميع فى المدينة يعتقد أن ذلك هو اليوم الذى بدأ فيه الجنود بالعودة إلى منازلهم.

لكن ربما كان الأمر قد بدأ مبكراً عن ذلك.

ربما فى اليوم السابق، أو الخميس السابق، وربما على متن قطار آخر، أو على متن نفس القطار. ذلك القطار الذى دائمًا ما يغادر العاصمة مع حلول الظلام ويصل فى الصباح الباكر، والذى يُطلقون عليه اسم قطار الليل.

يقولون أنهم رأوا "دييجو أوريارتى" ينزل من قطار الليل. وأنهم رأوه يودّع مجموعة من الجنود يكتسون بجبائر وضمادات، ثم قفز إلى الرصيف من عربة البريد، وكيف أن رجلان آخران، يرتديان أيضًا الزى العسكرى، قد قفزا خلفه. 

يظن "خيمينيز" أن أحدهما لا بد وأن يكون "ميجيل ساندرز"، لكن لا هو ولا "كينتروس" تعرفا على الرجل الآخر، وهو رجل نحيل ذو بشرة داكنة.

هذا ما أخبروا به الجميع، وقالوا أيضًا إنهم رأوا الرجال الثلاثة يلوحون وداعا للجنود الآخرين وهم يتجهون نحو البلدة التى كانت منيرة بشروق الشمس، على الرغم من أن أضواء الشارع كانت لا تزال مضاءة فى الساحة وفى المحطة وفى نوافذ بعض الشركات الكبيرة.

ثم افترق الثلاثة وذهب كل منهم فى طريقه منفردًا.

"أورياريتى" عبر الشارع الرئيسى نحو منزله؛ والغريب ذو البشرة الداكنة نحو الطريق المؤدى إلى البساتين؛ والرجل الآخر، الذى قال "خيمينيز" إنه لا بد أن يكون "ميجيل ساندرز"، صعودًا نحو التل ونحو محجر الحجر الجيرى. 

لم يتعرف "كينتروس" عليه، لكنه قال إنه قد يكون بالفعل الشاب "ساندرز"، ذلك أن عائلة "ساندرز" تعيش على الجانب الآخر من المحجر، بعد التل الأبيض، وهذا هو الطريق الذى سيسلكه للوصول إلى منزل والدته.

فى كل الأحوال، فلابد ان كل شىء قد بدأ فى ذلك الصباح. 

على الأقل هذا ما يعرفه الجميع، وهذا ما تم التحدث عنه وعلى نطاق واسع فى ذلك الصباح. 

الرجلان اللذان كانا فى المحطة ينتظران وصول القطار، تعرفا على "دييجو" من بين الجنود الثلاثة العائدين. 

عندما كان "دييجو أورياريتى" طفلاً، كان محبوبًا من الجميع، فوالده كان يدير البوفيه فى النادى الاجتماعى، والذى كان يضم أيضًا الكازينو. كما أنه كان قائد فريق كرة السلة وبطلًا فى لعبة البيلوتا. لقد اعتقد الجميع فى البلدة أن "دييجو أورياريتى" قد مات قبل عامين فى الجبهة، بل واقيمت له بالفعل قداسات جنازة متعددة. 

ولهذا، أكثر من أى شىء آخر، انتشرت الأخبار بسرعة كبيرة، وذلك هو أيضاً السبب الذى جعل الجميع يتذكرون ويتفقون على أن الجنود بدأوا فى العودة يوم الخميس، الخامس من ديسمبر.

بالطبع، لم يكن أحد يريد إخبار "دييجو" أنهم اعتبروه ميتًا وأنهم حتى حضروا جنازته. وفى أثناء فرحة عائلته وأيضاً صدمتهم برؤيته حيًا وفى المنزل، لم يذكر له أحد ذلك. 

من المؤكد أنه حين وصل لمنزل والده، خلع زيه العسكرى للمرة الأخيرة، وذهب مباشرة لينام، فهو كان مرهقًا من أثر الرحلة، وسعيدًا أن يستلقى أخيرًا على سرير نظيف. ثم ظهر يوم السبت فى وسط المدينة، على الرصيف أمام "نافورة الصودا" وحول طاولات الكازينو فى النادى الاجتماعى، وحينها كان الجميع يعرفون بالفعل أنه عاد، وكانوا قد بدأوا بالفعل فى نسيان التأبينات والجنازات.

لكن لاحقًا، لا بد أن هناك شخصًا ما، بدافع من الفضول أو ربما على سبيل المزاح، قام باخباره، هو أو أحد الآخرين الذين عادوا - عن الجنازات. 

ولكن أحدا لم يخبر "ميجيل ساندرز" عن ذلك. 

تعيش عائلة "ساندرز" على الجانب الآخر من السييرا، بعد محجر الحجر الجيرى، وهم بالكاد يأتون إلى البلدة. فهم عادة ما يتسوقون من متجر "سانتياجو نصار" فى الريف، ويذهبون إلى الحفلات والرقصات فى بلدة أخرى، حيث تعيش أخوات والدة "ميجيل" وحيث ذهب هو وإخوته إلى المدرسة الابتدائية. 

لكن شخصًا ما، مازحًا أو ربما بدافع الفضول، أخبر "دييجو أورياريتى"، أو أحد الآخرين، أن الجميع فى البلدة، وحتى أمهاتهم، قد اعتبروهم أمواتًا.

يُقال إن والدة "فيديريكو أورتيز" تلقت برقيات تعزية بأطراف سوداء، من الجيش، وشيك تعويضات قامت بصرفه من "بنك بروفينسيا". تلقت معظم الأمهات، إن لم يكن جميعهن، شيكات أو برقيات تعزية فى أبنائهن المتوفين. لكن إن كان عاجلًا أم آجلًا، فلا بد أن والدة "أورتيز" أو والدة "أورياريتى"، أو أى أم أخرى تلقت شيكًا أو برقية - قد ذكرت الأمر كله لابنها، ولا بد أن أكثر الأمهات كن يتساءلن عما إذا كانت الأموال - وهى بضعة بيزوات تافهة - ستُسترد من قبل الحكومة.

لكن لا توجد طريقة لمعرفة إذا ما كانت والدة "أورتيز" أو أى من الأمهات الأخريات، على وجه اليقين، قد قلن أى شىء لأبنائهن أو لأصدقائهن أو لأبناء أصدقائهن. وهل حافظن على الصمت، عندما تعلق الأمر بموضوع البرقيات والشيكات، كما تحافظ الأمهات عادة على الصمت بشأن العديد من الأمور. 

كان قطار الخامس من ديسمبر هو أول حالة معروفة، لكن ربما كان كل شىء قد بدأ قبل ذلك. 

طوال الصيف، استمرت قطارات ليلة الأربعاء - التى تصل دائمًا بين الخامسة والنصف والخامسة وخمس وأربعين دقيقة صباح يوم الخميس - فى العودة محملة بالجنود العائدين. وبدأت أمهات الجنود، اللواتى كن يعرفن أن أبناءهن قد يتم تسريحهم، فى الخروج للانتظار على الرصيف. كن ينتظرن، بينما يستمر القطار فى طريقه، متجهاً ببطء نحو "سييرا باخا"، بينما مجموعات من النساء الباكيات تتجمع حول عدد قليل من الجنود المتعبين للغاية. جميعهم يبكون: بعضهم بدموع الفرح لأنهن استقبلن أبناءهن فى المنزل؛ والبعض الآخر بدموع الحزن لأن الأبناء الذين كن يأملن أن ينزلوا من ذلك القطار لم يعودوا إليهن.

هذه أمور تأتى مرتبطة بالحروب. لكن الأمهات، اللواتى يقمن طواعية بإنجاب الأطفال، وتربية أطفالهن وأطفال الآخرين، لا يعرفن كيف يستسلمن لفقدان أطفالهن، ولذلك استمررن فى التوجه إلى الرصيف للانتظار يحدوهن الأمل. كثيرات منهن أتوا مع أزواجهن أو أطفالهن بالتبنى أو زوجات ابنائهن أو أحفادهن.

وهكذا، فى الصباح المبكر لكل يوم خميس، كانت تزدحم المحطة بانتظار وصول قطار الليل.

لكن فى تلك الأسابيع الأخيرة - فى مارس أو أبريل، خلال موسم الأمطار - خرج عدد قليل جدًا للانتظار.

وصل آخر جندى فى نهاية أبريل، بمفرده. 

كان "سيرجيو جيوبيل"، ابن مالكى متجر مستلزمات المزارع. فى محطة القطار، استقبله والداه وبعض الجيران وخطيبته، و"خيمينيز" و"كينتروس"، اللذين كانا يتحدثان مع والد "سيرجيو" عن الحرب وأخبرا الجميع أن الرجل العجوز، كان يدخن سيجارة تلو الأخرى على الرصيف، مبتلًا من المطر، منتظرًا.

يبدو أن "سيرجيو جيوبيل" خرج من العربة الثانية، وقبل أمه التى كانت تبكى، وبكى هو أيضًا، ليس فقط لرؤية عائلته ولكن لأنه اضطر إلى توديع زملائه الجنود، الذين كانوا معه طوال الحرب ولا شك أنهم سينزلون فى بلدات أخرى، على طول الطرق الأخيرة من خط السكة الحديد.

لم تتلق والدة "جيوبيل" رسالة تعزية أو شيكًا، وإن كانت قد تلقت رسالة ثناء، لأن ابنها، كما ذكرت الرسالة، قام بعمل بطولى ضد دبابات العدو. رؤية "جيوبيل" فى أنحاء البلدة، بزيّه العسكرى الفضفاض القديم، وحذائه القتالى البالى، دون أوسمة وبدون حتى رتبة نقيب أو رقيب، تجعل المرء يعتقد أن البرقية كانت يمكن أن تقول ذلك، إذا كان يمكنها أن تقول أى شىء على الإطلاق.

 كان "إيميليو رينزى"، الذى كان قد فاز للتو باليانصيب، يغادر مكتب البريد بعد إيداع الشيك عندما صادف "سيرجيو جيوبيل"، فى ذلك الوقت، كان "سيرجيو" المسكين يتجول وسط المدينة مثل ديك رومي كبير، لا يزال يرتدى الزى العسكرى. حين خرج "رينزى" من مكتب البريد، وهو دائمًا ما يحكى نفس القصة، عن كيف أنه كاد أن يسقط على الأرض: "مع كل الضجة حول الشيك وكل ما خصموه والأيام الثلاثة التى اضطررت لانتظارهم لمعالجته، لم أكن أفكر حتى فى الحرب. كنت أغادر مكتب البريد وأتجه نحو البلدية ورأيت "رينزى" واقفًا هناك مثل الدمية... كدت أن أسقط على مؤخرتى!"

الحرب شىء ملىء بالأخطاء. على سبيل المثال: فى معركة 22 أغسطس، كان المدفعيون يعتزمون قصف مصنع "دو بونت" المغلق، حيث كان العدو يخزن الذخائر والأدوية، لكنهم قصفوا مصنعًا آخر، مصنع "دينام"، لأنه تم خلط أسماء المصانع على خريطة قديمة للمدينة التى كانوا يحاولون احتلالها. من يعرف كم من الأشخاص الذين كانوا يعملون فى ذلك المصنع ماتوا بسبب خطأ رسام قام بنسخ دليل العاصمة بشكل خاطئ؟ مئات أو آلاف الأشخاص قتلوا دون داعٍ بسبب خطأ على الخريطة...! قصف مصنع "دينام" هو مجرد مثال واحد: كل تلك الخبرة والبحث فقط لتدمير المصنع الخطأ.

لكن الناس يتكيفون، يعتادون على الأمر. الأمر نفسه فى المدن الكبيرة كما فى المدن الصغيرة والمتوسطة الحجم مثل هذه؛ الناس يتكيفون. "كايتانو ساين"، الذى جمع ثروة من إعادة بيع الزهور، يشرح الأمر هكذا:

"كنت أحاول الإقلاع عن الشرب. كنت أشرب كل ما أريده خلال الوجبات — كنت أشرب النبيذ ولكن لا "فيرموث" ولا قطرة من الكحول إلا أثناء الوجبات. فى أحد أيام السبت، كنت فى "نافورة الصودا"، فى أقصى الخلف، وجلست بجانب "خيسوس نوبل"، وهو أيضاً أحد العائدين. كان هذا بعد فترة من بدء الجنود العودة فى قطار الليل، لكننى لم أكن قد رأيت "نوبل" بعد. 

سلمت عليه كما لو أن شيئًا لم يحدث. كان ودودًا، وسلم على كما لو أن أسبوعًا واحدًا فقط قد مر منذ آخر مرة رأينا فيها بعضنا. من يعلم إذا كان ذلك مجرد صدفة، من يعلم إذا كان ربما، بعد أن رأى الكثير من الناس فى "نافورة الصودا"، فربما اعتقد أنه قد صادفنى قبلا بالفعل. 

كان يشرب النبيذ الأبيض وانضممت إليه. بحلول الجولة الثانية، كنا نحكى القصص ونتبادل الأحاديث. أعتقد أننى شربت حوالى عشر كؤوس، ولكن لم يكن لها أى تأثير. استمر هو، وشرب بقدر ما شربت. كافح للنهوض من الطاولة وهو نصف مخمور، وكاد أن يختنق بلسانه عندما حاول الكلام. لكن بالنسبة لى، شعرت كما لو أننى كنت أجلس هناك مع أى شخص، كما لو كنت أجلس مع رئيس العمال "روجيليو"، بدلاً من الجلوس معه. شعرت أن الأمر طبيعى..."

 وفقًا لـ"بولييزى"، بائع المزادات فى البلدة، فان العادات تتغلب على كل شىء، العادات دائمًا تفوز فى النهاية. يحكى قصة عن كيف أنه فى أحد الأيام، كان هو وشريكه "أفيلينو"، يتفقدان مزرعة صغيرة، وعندما اضطر "أفيلينو" إلى المغادرة لمقابلة عميل فى المدينة، سمح له "بولييزى" بأخذ السيارة، لأن "كيروس" — أحد الجنود العائدين أيضًا —  كان قد عرض عليه أن يوصله إلى البلدة بشاحنته، من نوع "سكانيا".

يقول "بولييزى" إنه ركب فى شاحنة السكانيا، ولم يكن ليتذكر أى شىء له علاقة بالحرب، لو لم يلحظ تلك الميدالية المعلقة التى كتب عليها "كريستو فينسيدور" وصورة الجنرال منقوشة عليها. ويقول، أن تلك اللحظة تركت انطباعًا قويًا لديه: "ضع فى اعتبارك أننى كنت عضواً فى لجنة الكنيسة، لذا حضرت جميع الجنازات، بما فى ذلك جنازته، جنازة "كيروس" الجالس فى السكانيا بجوارى."

لكن "بولييزى" قضى وقتًا ممتعًا للغاية فى الحديث مع "كيروس" عن الراديو وأشياء تهم هواة الراديو، حتى نسى أمر الجنازة على الفور، وكان كما لو أن الشخص الذى يقود السكانيا هو شريكه، "أفيلينو"، وليس أحد هؤلاء الجنود العائدين.

يوضح "بولييزى": "كنت أعرف بالفعل، من خلال لجنة الرعية الكنسية، ما الذى حدث فى البلدات الأخرى..." 

حتى عندما تكون على علم تمامًا بما يحدث حولك، سيظل سلوك الآخرين يحمل الأهمية الأكبر.

فالحقيقة هى ما ترى أن الناس يفعلونه، وليس أى شئ آخر. حتى "توراجا"، الذى لم يرد أن تتزوج ابنته من "هوراسيو"، الجندى العائد الذى كانت تواعده فى صغرها، يعترف بذلك:

"ليس لأننى كنت أعتقد أن ابنتى لا تحبه، أو أن الشاب ليس جيدًا. ولكن عندما طلب منى "هوراسيو"، الذى كان يأتى إلى المنزل طوال الوقت، أن يتزوجها، قلت له إننا بحاجة إلى التفكير فى الأمر، لأننى رأيت كيف أن ابنة "أورلاندو" تزوجت من أحد العائدين منذ حوالى ثلاث سنوات ولم ينجبا أى أطفال. 

كما أن أرملة "الدكتور ألفاريز"، القابلة، التى تزوجت لاحقًا من جندى عائد آخر، "ماركيز"، كانت تحاول الحمل لمدة عامين ولم تستطع، وهى قابلة. 

كان ذلك الخوف هو السبب، وليس لأننى كنت أحتقر الشاب. لقد طلبت منها إعادة النظر، لكن اليوم لا أحد يستطيع أن يمنع الشباب من الزواج، وإذا عارض والد الفتاة الأمر، يكون الوضع أسوأ. إنهم يلتقون فى فنادق الطرق السريعة، فأنت عندما تمر يوم السبت ترى تلك الأماكن مليئة بالشباب والسيارات التابعة لآبائهم متوقفة بالخارج وتعرف تمامًا من بداخلها، إنهم ينغمسون تماماً فى الشبق..."

هكذا تسير الأمور مع العادات وكيفية تكيف الناس، وأكثر من أى شىء قد تعتقد أنك تعرفه، فإن ما يظهره الناس لك بأفعالهم هو ما يهم. 

هذه الأيام، يقبل الناس حقيقة أن الشباب يأخذون سيارات آبائهم، ويصطحبون الفتيات فى البلدة، ويتجهون إلى فنادق الطرق السريعة حوالى منتصف الليل أيام الجمعة والسبت، والآباء — الذين لم يخطر ببالهم أبدًا، عندما كانوا يواعدون النساء اللواتى أصبحن الآن زوجاتهم، أن يفعلوا مثل هذه الأشياء، تاركين سياراتهم على طول الطريق السريع ليراها الجميع — الآن يسمحون لبناتهم بالتوجه إلى الفنادق كما لو كانت مهرجانات محلية. 

وشخص مثل "بولييزى"، الذى حضر جنازة "كيروس"، يمكنه الآن أن يذهب بمرح لصيد الأرانب معه، ويمكن ل"أفيلينو" أن يقضي ليالٍ كاملة يلعب البوكر مع "دييجو أورياريتى"، الذى لم يتزوج أبدًا وانتهى به الأمر كمقامر مدمن، يخسر كل ما يكسبه من العمل خلف بوفيه النادى الاجتماعى على طاولات الكازينو فى نفس المكان.

وليس الأمر أيضًا وكأنهم فعلوا شيئًا معينًا لجذب الانتباه. لن يدعى أحد أنهم يمروا دون أن يلاحظهم أحد، لكن أفعالهم أيضاً لم تجذب انتباه الناس، كأنهم يعلمون أنه مع مرور الوقت، ستصبح البلدة بأكملها ترى أن وجودهم أصبح أمرًا طبيعيًا.

أحيانًا يتم رؤيتهم معًا، فى مجموعات ثنائية أو ثلاثية. ذات مرة، عندما أخذت "مارينا إتشاجوى" طلابها إلى مضمار السباق وجلست عند المنعطف الأول — حيث يحب غالبية الشباب الوقوف ليروا كيف تأتى السيارات بأقصى سرعة— لاحظت وجود "فيديريكو أورتيز"، وبالقرب منه،، كان هناك "دييجو أورياريتى"، وفى المقعد التالى رأت "خوان مولينا"، أحد العائدين الآخرين. ربما كانت تلك صدفة، لكن "مارينا" تقول أنه عندما خرج الناس من الحشد للمساعدة فى دفع سيارة "روبولينو"، والتى اصطدمت بالسياج، ظل الثلاثة — "دييجو"، "خوان"، و"فيديريكو" — هناك، معًا، يتحدثون فيما بينهم، وعلى الرغم من أنهم كانوا قد عادوا منذ وقت طويل، إلا أن هذا المشهد أثار دهشتها حقًا.

وهناك أوقات، هناك من يراهم عندما يجتمع اثنان أو أكثر منهم فى التجمعات المتنوعة، وهم يتحدثون ويمزحون ولا يستطيع المرء إلا أن يتساءل. 

لقد كان هناك الكثير من التساؤلات عندما علم الناس أن الشىء نفسه لم يحدث فى البلدات الأخرى. 

جاءت تلك الأخبار من بعض السكان، الذين ذهبوا إلى اجتماع فى "كورونيل إنسوا' حيث تم طرح الموضوع، ورأوا صدمة الحاضرين الآخرين، فقرروا الاستفسار، واكتشفوا أن بلدتهم هى الوحيدة التى عاد جميع جنودها. 

فى ذلك الوقت، ازداد الفضول حول ما الذى كانوا يفعلونه — وما إذا كانوا يتآمرون معًا أو يتحدثون مع بعضهم البعض — لكن لم يلاحظ أحد أى شىء مختلف. 

مرة أخرى، كما ترى، كانوا واثقين من أنه مع مرور الوقت، سيتم نسيان حقيقة أن هذا حدث فقط فى بلدتهم.

وكانوا على حق، لأنه بمرور السنين، تم نسيان كل شىء. 

ومع الوقت تغيرت الأمور. بدأ العديد من الأزواج يحصلون على منازلهم الخاصة، ويسافروا إلى الخارج، ويقضوا الليالى فى الاحتفالات — إنهم يقلدون بعضهم البعض، يتفاخروا بالملابس الجديدة، ويتفحصون السلع الاستهلاكية الجديدة — أصبح الزواج بدون إنجاب أطفال أكثر شيوعًا، ولذلك لم يعد من المستغرب أنهم هم أيضًا لا ينجبون أطفالًا، انهم الآن يشكلون جزءًا صغيرًا فقط من هؤلاء الأزواج الذين لا ينجبون أطفالًا والذين دائمًا ما يتفاخرون بملابسهم الجديدة. 

الأطفال الذين ولدوا فى ذلك الصيف الذى بدأ فيه الجنود العودة إلى المنزل يجب أن يكون عمرهم الآن حوالى عشر سنوات وربما لا يعرفون شيئًا عن كل ذلك. بالنسبة لهؤلاء الأطفال، كل ما يتعلق بالحرب هو مجرد قصة للكبار، وعندما فى بعض الأحيان، يتعاملون مع أحد هؤلاء الجنود — كأن يتم ترك أبناء أخوة أو أخوات "أورتيز" أو "فيجليانى" تحت رعاية عمهم — فإنهم يلعبون معهم كما يفعلون مع أى شخص آخر، وعمهم يرفعهم فى الهواء أو يأخذهم إلى السيرك أو إلى السينما، تمامًا مثل أى عم آخر فى البلدة. 

إذن هؤلاء الأطفال يكبرون دون معرفة أى شىء — مثلهم مثل الكبار تمامًا، الذين يعيشون دون الاعتراف بما كان يحدث طوال هذه السنوات.

لهذا السبب لن يخبرهم أحد أبدًا، وسيكبر الأطفال، وينجبون أطفالًا خاصين بهم، ويعيشون، ويموتون دون معرفة أى شىء عن هذا، لكن العديد من الناس يدونون هذه الأشياء ويحتفظون بها، فى حالة، بعد سنوات، أن يكون شخص ما مهتمًا. 

هناك مدرس فى المدرسة يدعى "موريزى": جاء كبديل لبضعة أشهر، وأعجب بالبلدة، وبقى فيها. لديه درجة فى الفلسفة، ويستمتع بالأدب، ويقضى وقت فراغه وعطلاته فى تجميع كتابات الآخرين وتنظيم مسابقات كتابية لوزارة الثقافة فى البلدة. يمكنه أن يؤكد أن أطفال اليوم ربما لن يعرفوا أبدًا ما حدث حقًا.

فى احدى الأمسيات فى بار قال: "الأمر يشبه الأسماك: آخر شىء تدركه السمكة هو أنها تعيش فى الماء."

"حتى يذهب شخص ما لصيدها ويصطادها...".

أجابه "موريزى": "بالطبع، لكنها تكون قد ماتت بالفعل، ولن تفيدها كثيرًا معرفة أنها قضت حياتها فى الماء..."

عندما لا تكون هناك رياح، فى ليالى الصيف الهادئة، وأيضًا فى الشتاء، قبل العواصف، يمكنك سماع مرور القطارات من أى مكان فى المدينة. 

فى منتصف الليل يمر القطار الشمالى، مضاء بالكامل من الداخل لأنه دائمًا ما يحمل ركاب الدرجة الأولى الذين، أثناء تنقلهم عبر البلدة، يستمتعون بمحادثة ما بعد العشاء فى عربة الطعام الفاخرة. فى الواحدة والنصف، يصل القطار السريع، وهو قطار شحن، وعلى الرغم من اسمه، يبطئ لتغيير المسارات. فى الرابعة، هناك القطار كومبو، الذى يغادر العاصمة فى السادسة مساءً، ويحمل عربات شحن وركاب. ذلك القطار لا يتوقف، لكن الحارس يلوح بالفانوس الأخضر والأحمر تحيةً أثناء مروره بجانب كشك الإشارة. 

البلدة بأكملها تعرف تلك القطارات وكيفية التعرف عليها، وأحيانًا، عند الاستيقاظ فجأة فى منتصف الليل، ينتابهم خوف من أن القطار الذي وصل فجأة ليس القطار الشمالى ولا القطار السريع ولا القطار كومبو فى الرابعة، وأنه قد يكون قطارًا جديدًا، قادمًا من الاتجاه المعاكس، يتوقف فى البلدة، ويطلق صفيرًا طويلًا حزينًا، ويبتعد ببطء، متجهًا إلى العاصمة، ويأخذهم جميعًا معه، مرة أخرى، إلى الأبد. ■


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة