العيش على الحافة - نظرية الأوتار

يعتقد البعض أن "نظرية الأوتار" قد انتهت، ذلك أنها لم تتمكن من تقديم توصيف للكون. لكن وكما يقول "جون كارتريت"، إذا تقبلنا فكرة أن كوننا، هو مجرد حدود محدودة لواقع أكثر اتساعًا وجموحًا، فربما يمكنها ذلك.

تبقى "نظرية الأوتار" هى المرشح الأفضل لتلك النظرية التى تفسر كل شىء. إذا خضع كل شىء لقوانينها، فإن نظريات الفيزياء التقليدية المختلفة ستظهر باعتبارها جزء صغير يمتلك أبعاداً أعلى. 

سوف تتمكن من توحيد قوى الطبيعة الأربع، بما فى ذلك القوة الأكثر إشكالية، "الجاذبية". وقد يمكنها أيضًا تفسير الانفجارات العظيمة والثقوب السوداء.

لكن تبقى هناك مشكلة واحدة: "نظرية الأوتار" لا تستطيع تفسير كون مثل كوننا. 

يمكن لرياضياتها أن تصف أعددًا هائلة من الأكوان، لكن ليس كوننا الذى يتمدد بمعدل متسارع. 

لا أحد يعرف ما الذى يؤدى إلى هذا التسارع – يتم عادةً استخدام مصطلح "الطاقة المظلمة" الغامض كبديل مؤقت. ولكن وفقًا لنظرية الأوتار، لم يكن ينبغى أن يحدث مثل هذا التسارع من الأساس.

على مدى أكثر من 25 عامًا، مثل ذلك معضلة كبيرة، لكن يبدو الآن أننا قد وجدنا طريقة لتجاوزها. 

لن تصدم الإجابة المطروحة أى شخص معتاد على غرابة الفيزياء الحديثة: فكل ما علينا فعله، هو إعادة تصور كوننا، وأن ننظر إليه باعتباره جزء من كيان أضخم بكثير. 

إذا فعلنا ذلك، سيتمكن الكون من أن يتمدد كما يشاء – بل إن هذا التمدد المتسارع  سيبدو أمرًا طبيعيًا. 

لكن علينا الإنتباه، ففى هذا النموذج الجديد، سوف يكون فضاؤنا المألوف معلقًا بشكل دقيق ما بين الفضاء فائق الأبعاد وما بين العدم التام. 

يقول "أنطونيو باديلا"، عالم الفيزياء من "جامعة نوتنغهام" فى المملكة المتحدة: "فى هذا التصور، يكون وجودنا شبيه بالظل – مجرد ظل موجود على حائط فى نهاية العالم."

"نظرية الأوتار"وعلى الرغم من تألقها الحالى، فإن لها جذور متواضعة. لقد نشأت أواخر الستينيات كمعادلة بسيطة لفهم التصادمات بين البروتونات والنيوترونات وجسيمات أخرى مرتبطة معًا بواسطة ما يُسمى بالقوة القوية. لم تُعرف باسم "نظرية الأوتار"، إلا بعد أن أدرك الفيزيائيون أن احتمالات التصادمات يمكن تفسيرها كاهتزازات مختلفة لأوتار ميكانيكية كمومية. ثم بدأوا يتساءلون بحذر، عما إذا كانت هذه الأوتار هى نفسها الجسيمات. 

فى هذه التصور، كل جسيم أساسى – سواء كان إلكترونًا أو كواركًا أو بوزون هيغز أو أى شىء آخر – هو فى الواقع نهاية وتر صغير للغاية، يعزف نغمة معينة.

في البداية، تعثرت محاولات "نظرية الأوتار" فى حساب القوة القوية بشكل صحيح، لكنها سرعان ما حققت تقدمًا فى مجالات أخرى. 

هناك ثلاث قوى أخرى معروفة فى الطبيعة: القوة الضعيفة، ,(التى تحكم النشاط الإشعاعى)؛ الكهرومغناطيسية، (التى تتعلق بالضوء وكيمياء المادة اليومية)؛ والجاذبية، (التى تُعتبر غريبة بعض الشىء، والتى تجعل كل شىء يجذب بعضه البعض). 

كان أول نجاح كبير لنظرية الأوتار هو تحقيق ما فشلت فيه النظريات الكمومية السابقة، وهو وصف الجاذبية. لاحقًا، دخلت القوة الضعيفة والكهرومغناطيسية والقوة القوية أيضًا تحت مظلة نظرية الأوتار. 

وفجأة، أصبحت النظرية المرشحة الأبرز لتكون نظرية موحدة لكل شىء.

كانت رياضياتها جريئة، حيث تتطلب 10 أبعاد للزمان والمكان. 

نحن معتادون على أربعة أبعاد فقط – ثلاثة أبعاد للمكان وواحد للزمان – لكن علماء نظرية الأوتار يعتقدون أن هناك ستة أبعاد إضافية، وهى أبعاد صغيرة جدًا لدرجة أنها غير مرئية لحواسنا أو لأى أدوات حالية. 

هذه الأبعاد الإضافية مكنت المعادلات من العمل، ووفرت المساحة المطلوبه للأوتار لتعمل.

لكنها فى نفس الوقت، أطلقت مجموعة من الأجسام الغريبة الأخرى ذات الأبعاد الأعلى، والتى يمكن أن تُسمى بشكل (مضلل) للاختصار "الأغشية" أو "البرانات". 

حدث هذا فى الثمانينيات. حيث كان كل شىء ممكنًا.

كارثة الأوتار: 

اتضح ولسوء الحظ، أن "نظرية الأوتار" مرنة للغاية لدرجة أنها يمكن أن تصف مجموعة هائلة من الأكوان الخيالية، شىء مثل 10^500 كونًا – وهو رقم ضخم لدرجة أنه يتجاوز أى مقاربة فيزيائية. 

الأسوأ من ذلك، أن المشاهدات الفلكية أواخر التسعينيات، للمستعرات الأعظمية البعيدة كشفت حقيقة مذهلة: كوننا يتمدد بسرعة متزايدة. 

على الرغم من أن هذا كان محيرًا للفيزيائيين بشكل عام، إلا أنه كان كارثة لعلماء "نظرية الأوتار". 

ذلك أن عدد قليل جدًا من الأكوان فى قائمتهم الهائلة إمتلك خاصية التمدد المتسارع تلك. 

يقول "أولف دانيلسون"، عالم النظرية فى "جامعة أوبسالا" فى السويد: "الناس يتساءلون هل كوننا هو من النوع الذى يستحيل وجوده فى نظرية الأوتار، ما زلنا ببساطة لا نعرف."

يبدو غريبًا أن "نظرية الأوتار" تواجه صعوبة فى شىء قد يبدو بسيطًا مثل "كون يتمدد بشكل متسارع". 

السبب فى ذلك، يعود إلى أن معدل التمدد يأتى من هندسة الزمكان نفسها، كما عرّفها "ألبرت أينشتاين" فى نظريه النسبية العامة. 

فى أحد حلول معادلات أينشتاين، يكون الزمكان كرويًا ويتمدد بمعدل متسارع – وهو ما يُعرف الآن ب"فضاء دى سيتر (dS)". فى الحل البديل، يكون الزمكان على شكل سرج ولا يمكن أن يتمدد على الإطلاق، ويُسمى "الفضاء المضاد لدى سيتر" (AdS). 

تشير "نظرية الأوتار" بقوة إلى أن الأكوان ذات الزمكان من نوع AdS هى فقط المستقرة والقادرة على البقاء، على الرغم من أن مجموعة كبيرة من البيانات الفلكية، بما في ذلك تلك المستعرات الأعظمية البعيدة، تؤكد أن كوننا الحالى هو من نوع "فضاء دى سيتر (dS)".

لتجاوز هذا المأزق، وفى محاولة لحل مشكلة مختلفة تمامًا داخل نظرية الأوتار، قام العالمان النظريان "ليزا راندل" و"رامان ساندرام" فى عام 1999، بالتلاعب بمفهوم البرانات ذات الأبعاد العالية، بوضعها فى إطار أقل تعقيدًا وأسهل فى الوصف، وهو إطار خماسى الأبعاد (5D).

في الهندسة، يتطلب سطح الجسم دائمًا بعدًا واحدًا أقل من الجسم نفسه – على سبيل المثال، كل وجه من مكعب ثلاثى الأبعاد (3D) هو مربع ثنائى الأبعاد (2D). 

بالمثل، اكتشف "راندل" و"ساندرام" أنه من الممكن وجود إثنين من الأكوان ذات الزمكان من نوع AdS بخمسة أبعاد، تفصل بينهما برانة مثل كوننا، ذات أربعة أبعاد فقط، . 

علاوة على ذلك، أظهر عمل "راندل" اللاحق مع العالم النظرى "أندرياس كارتش" أن هذه البرانة سيكون لها مثل كوننا هندسة dS متسارعة.

فهل نحن نعيش على برانة؟  انها إمكانية مثيرة للاهتمام.

للأسف، على الرغم من الحل السطحى الذى قدمته برانة "راندل-كارتش"، إلا أنها لم تساعد كثيرًا فى تقليل مشاكل نظرية الأوتار. 

السبب أنها عندما تكون محصورة بين زمكانين عملاقين من نوع AdS، فلن تكون أكثر استقرارًا من الأكوان من النوع dS التى يمكن استخلاصها من نظرية الأوتار. 

مع ذلك، منذ حوالى خمس سنوات، وصل "دانيلسون" وزملاؤه فى "جامعة أوبسالا" إلى فكرة مفاجئة: "فكرنا، ماذا لو لم يكن "عدم الاستقرار" هذا مشكلة أساساً؟ ماذا لو استطعنا تحويل ذلك لصالحنا؟"

كل نموذج للزمكان يحتوى على مستوى معين من الطاقة داخل نسيجه، وهو ما يتحكم فى أنواع وسلوكيات الجسيمات والأوتار والبرانات والكيانات الأخرى التى قد تكون موجودة بداخله. 

إذا لم يكن الزمكان فى أدنى مستوى طاقة ممكن، فميكانيكا الكم تقول إنه سيكون غير مستقر بطبيعته ويخضع لخطر "التحلل"، حيث قد يتحول فجأة إلى كون جديد تكون الطاقة فيه أقل. 

فكرت مجموعة "دانيلسون" فى زمكان AdS بخمسة أبعاد يبدأ من مستوى طاقة مرتفع، ووجدوا أنه إذا تحلل حتى جزء صغير منه، فإن هذا الجزء يشكل بسرعة "فقاعة مظلمة" من زمكان AdS بخمسة أبعاد ذو طاقة أقل. 

وكما هو الحال فى سيناريو "راندل-كارتش"، تكون هذه الفقاعة محاطة بزمكان dS بأربعة أبعاد يشبه زمكاننا – ولكن الأهم من ذلك، أنها ستنشأ من عدم الاستقرار، بدلًا من أن تكون تحت رحمته.

في هذا السيناريو الجديد، هذا الغشاء الفقاعى الذى يتوازن عليه كوننا لن يكون مستقرًا تمامًا. لكن هذا قد يعنى أن فقاعة مظلمة أخرى قد تظهر أحيانًا، أو تتشكل، داخل الزمكان الخماسى الأبعاد الداخلى الذى لا نراه. 

فى الواقع، ستستمر الفقاعات المظلمة الجديدة فى التشكل داخل بعضها البعض، كل منها محاط ببرانة dS – مما يشكل كونًا جديدًا. 

فى مثل هذا الكون المتعدد الكبير، فإن ما نسميه "الانفجار العظيم" سيكون هو تلك اللحظة التى أنجبت فيها الفقاعة الأم فقاعتنا.

يجادل "دانيلسون" بأن هذه الفكرة تبدو أكثر بداهة وقبولاً لوصف الانفجار العظيم. 

يقول: "عادة يتم وصف الانفجار العظيم كبالون يتمدد فى الفضاء. 

وعادةً ما يخبرك أحدهم أن هذا خطأ: البالون لا يتمدد فى الفضاء، لأن ذلك الفضاء الإضافى، ما وراءه، ببساطة غير موجود. 

ولكن مع تلك الفقاعة المظلمة، فانه ط، فى الواقع هو موجود."

منذ فجر فكر الفلسفة، تساءل الناس عن كيفية نشوء المكان والزمان والمادة وحتى القواعد التى تحكم تلك الأشياء – إذا لم يكن هناك شىء فى البداية. وبما أن الفيزياء تتعامل مع العلاقات بين الكيانات، يبدو أن هناك أمل ضئيل فى أن تتمكن من الإجابة بشكل كامل على هذا اللغز.

ومع ذلك، أظهر العالمان "آدم براون" و"أليكس دالين" عام 2012، عندما كانا فى "جامعة برينستون"، كيف يمكن للفيزياء أن تقترب بشكل مدهش من الإجابة. بالاعتماد على أعمال سابقة لزميلهم فى "برينستون" آنذاك، "إد ويتن"، وهو أحد أبرز علماء "نظرية الأوتار"، افترضوا حالة هندسة زمكان AdS التى تنحنى بشكل لا نهائى على نفسها. هذه الهندسة تشبه قطعة من الورق تم تكويرها أكثر فأكثر، حيث تضيف كل طية انحناءًا إضافيًا، حتى تصبح صغيرة بشكل لا نهائى. قال "براون" و"دالين" إن هذا هو أفضل تعريف لـ"العدم" يمكن وضعه فى إطار الفيزياء.

الزمكان بهذه الهندسة هو مكان غير ملائم بالفعل. عند الانحناء اللانهائى، تتقلص جميع الأطوال إلى الصفر، لذا لن يكون هناك أى مساحة لوجود أى شىء. 

من ناحية أخرى، ستظل ميكانيكا الكم تحكم بشكل مطلق، وميكانيكا الكم لا تسمح بأى نتائج نهائية من هذا القبيل. حيث يقولون إنه حتى فى حالة العدم، لا يزال هناك فرصة عابرة لوجود شىء صغير – أصغر مساحة يمكن أن تتشكل فيها فقاعة زمكان.

أرادت مجموعة نوتنغهام استغلال هذه الإمكانية ولكن واجهت مشكلة أخرى. إذا كان الزمكان الأم منحنيًا بشكل لا نهائى، كيف يمكن أن يكون للفقاعة المتكونة بداخله هندسة ما؟ 

لحسن الحظ، الفيزيائيون معتادون على التعامل مع هذا النوع من المشكلات. فى نظرية الحقل الكمومى، التى تشكل الأساس للنموذج القياسى الحالى للجسيمات الأساسية، يتعين على الفيزيائيين بانتظام إلغاء المصطلحات ذات الطاقة العالية فى معادلاتهم، حتى لا تتحول إجاباتهم إلى ما لا نهاية. على الرغم من أن هذا قد يبدو تعسفيًا، إلا أن عملية "إعادة التطبيع" هذه تعمل: والدليل على ذلك هو الدقة المذهلة التى يتنبأ بها الفيزيائيون بمعدلات التصادمات فى مسرعات الجسيمات مثل مصادم الهادرونات الكبير.

في العام الماضي، استخدم "باديلا" وزملاؤه إجراءً مشابهًا يُعرف باسم "إعادة التطبيع الهولوغرافى" عند حساب تشكل فقاعة ذات انحناء محدود داخل زمكان AdS ذى انحناء لا نهائى. 

كانت النتيجة ناجحة. 

يقول "باديلا": "النتيجة تُصف تمامًا غشاء نهاية العالم، مع عدم وجود أى شىء فى الخارج."

داخل الفقاعة:  

ظاهريًا، يبدو أن الكون الذى نعتقد أننا نعرفه، يمكن أن يكون هو هذا الغشاء بالفعل، مع عدم وجود أى شىء فى الخارج مع وجود فقاعة خماسية الأبعاد فى الداخل. 

إذا كان الأمر كذلك، يشير "باديلا" إلى أن الأوتار التى تشكل وجودنا اليومى ستعيش فى الواقع داخل هذا الفضاء الخماسى الأبعاد داخل الفقاعة، مع وجود نهاياتها فقط – التى نعرفها على أنها الجسيمات الأساسية – عالقة فى عالمنا الرباعى الأبعاد. 

فى هذه الحالة، ستكون هذه الجسيمات – التى نراها ونشعر بها – مجرد ظل أو إسقاط لواقع أكبر بكثير يتجاوز حواسنا.

ومع ذلك، يجب ملاحظة أن لا أفكار مجموعة نوتنغهام ولا مجموعة أوبسالا هى نظريات أوتار مكتملة. لأن مقترحات الباحثين تحتوى على خمسة أبعاد فقط، لذا فهم يحتاجون إلى إثبات أن الأبعاد العشرة المتبقية لنظرية الأوتار يمكن ضغطها بنجاح مع عوالمهم. 

يقول "رالف بلومنهاجن"، عالم "نظرية الأوتار" فى "معهد ماكس بلانك" للفيزياء فى "جارشينج" بألمانيا: "التضمين الكامل لنظرية الأوتار فى هذا السيناريو سيأتى على الأرجح مع عقبات جديدة."

على الرغم من أن مجموعة أوبسالا قد أحرزت بعض التقدم نحو هذا الهدف، إلا أن التحديات الكبيرة لا تزال قائمة – وطريق الحل ليس واضحًا. 

يقول "أنخيل أورانجا" من معهد الفيزياء النظرية فى مدريد بإسبانيا: "قد تكون هذه مجرد صعوبة تقنية أو قد تكون انعكاسًا لعقبات جوهرية أكثر."

ولكن حتى إذا نجحت هذه الأفكار نظريًا، فإن السؤال الذى يطرح نفسه هو: هل هذه الأفكار ببساطة بعيدة جدًا عن الواقع؟ 

فى الوقت نفسه، تثير هذه الأفكار تفاؤلًا جديدًا فى صحة "نظرية الأوتار" – بصيص من الأمل فى أنها، على الرغم من كل الصعوبات والتعقيدات، قد تستطيع فى النهاية وصف كوننا المتواضع الذى يتمدد. 

من المؤكد أنه من المبكر جدًا إصدار حكم نهائى، ولكن إمكانية أننا نعيش على غشاء قد تعنى أن تسارع كوننا ليس فى الحقيقة نهاية العالم لنظرية الأوتار.


"جون كارتريت" هو كاتب علوم مقيم فى بريستول، المملكة المتحدة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة