القنفذ - قصة من الأدب الصينى
بقلم: "تشنج تشى"
ترجمة: حازم فرجانى
لا بد أنه كان صيف عام 2000، أو ربما 2001، عندما رأيتُ الملازم "وانج" يُقوم بإرشاد قنفذ لعبور الطريق. كان المكان، وأنا متأكد من ذلك، هو تقاطع الشارع الثانى والثالث مع الشارع الحادى عشر على شكل حرف Y. كان القنفذ مُغطى بشعيرات قصيرة بيضاء رمادية، وقد التصقت قدماه الصغيرتان بالإسفلت المرصوف حديثًا. تحرك الملازم "وانج" فوقه، وساقاه مثبتتان بإحكام لقطع طريقه، وهو ينفخ صافرة معدنية ويشير بعلم أصفر صغير مثل ما يحمله كل ضابط مرور متطوع. كان القنفذ منخفضًا على الأرض فلم يستطع رؤية أى شىء من كل هذا، لكن بدا أنه استوعب الرسالة. أدار وجهه المدبب ببطء، وانطلق شرقًا، وقفز على الرصيف، واختفى فى الأدغال، تاركًا الملازم "وانج" وحده مع فوضى الشوارع المزدحمة التى تسبب فيها.
رويت هذه القصة لجيد وعائلتها ليلة خطوبتنا. كنت قد التقيتُ بجيد فى حانة أثناء تجوالى فى "نيس". شاهدت فتاة صينية، فذهبتُ للتحدث معها. كانت وقتها مع صديقتين، وجميعهن فى حالة سُكر. عندما تحدثت، وجدت أن لهجتها الشمالية الشرقية هى نفس لهجتى. اكتشفنا، لدهشتنا، أننا وُلدنا فى نفس المكان، "شنيانج"، بل وفى نفس المستشفى.
بعد ثلاثة أشهر، ونحن فى مطعم على شاطئ البحر، ترجمت "جيد" قصة الملازم "وانج" والقنفذ لزوجة أبيها الفرنسية. كان الذهول هو التعبير الذى ارتسم على وجهها.
كنت في الخامسة من عمرى، فى آخر سنة لى فى مرحلة ما قبل المدرسة، عندما علمتُ لأول مرة أن الملازم "وانج" هو عمى الأكبر، وأن عمى الأكبر هو الملازم "وانج".
كان متزوجًا من أكبر أخوات جدى الثلاث؛ وكان جدى هو الابن الوحيد.
فى ذلك الوقت عمل والداى ساعات إضافية فى مصانعهما، ليصنعوا قطعًا لعربة عملاقة - إحداهما إطارات والأخرى حاملات كروية - من أجل تمثيل مقاطعتنا فى احتفالات اليوم الوطنى فى ساحة "تيانانمن" فى "بكين".
ولأن جدتى كانت مشغولة جدًا بتدخين غليونها ولعب الماهجونج مع جاراتها المسنات، فهى لم تهتم بإحضارى من المدرسة، وأرسلت بدلاً من ذلك الملازم "وانج"، الذى تصادف وجوده فى منزلها، ليحضر لها بعض الأنشوجة.
عندما رأيته فى الخارج، ناديته: "مرحبًا، أيها العم الأكبر". أومأ برأسه موافقًا. كان رجلًا طويل القامة بشكل مذهل، فاضطر إلى الانحناء ليأخذ بيدى. قال بصوت أجش: "لا تنادينى بالعم الأكبر". نادنى باسمى، أو نادنى "حضرة الملازم" - حتى المفوض ينادينى بذلك.
قلت: "تقول أمى من الوقاحة مناداة كبار السن بأسمائهم".
قال الملازم "وانج"، الآداب هى أمر خاص بعامة الناس، لا تحتاج ذلك معى. لقد تزوجت عمتك، لكن هذا لا يغير من أنا.
قلت، ألا يجب أن تكون فى العمل؟ أمى وأبى كلاهما كذلك، وتقول أمى أن لعب الماهجونج هو عمل الجدة. ضحك الملازم "وانج".
كان يمسك بسيجارة فى يده الاخرى، أخذ منها نفسًا. قال: أنا رجل عسكرى. أنا فى إجازة عائلية. قلت، أوه، أة نوع من الرجال العسكريين؟ قال، غواص بحرى. لماذا تتلعثم؟
تجولنا فى شارع الشباب والشارع الثامن، وتوقفنا لتناول طبق من المعكرونة. وفى الطريق، أخبرنى الملازم "وانج" عن المخلوقات البحرية الغريبة التى رآها من غواصته. نسيت معظمها، باستثناء واحدة، لم تكن سمكة - بل حبار عملاق لف ذراعيه بإحكام حول الغواصة، عندما كانوا على عمق 3800 متر تحت سطح الماء ممسكًا بها كأنها مصاصة. تناثر كل شىء فى الداخل، وسقط الطاقم واحدًا تلو الآخر نحو المقدمة.
قال، ألا يبدو هذا مرعبًا؟ قلت، لا أصدقك. قال، كان كل ما رأيته تمامًا مثل رواية عشرين ألف فرسخ تحت سطح البحر، لرجل فرنسى يُدعى فرساى. اعتدت أن أعتقد أنها كلها روايات مختلقة أيضًا. سأبحث عن الكتاب عندما أعود إلى المنزل وأحضره لك فى المرة القادمة. قلت، لماذا لم تطلق طوربيدًا؟ كانت علبة سجائر الملازم "وانج"حينها فارغة. قال: "غواصتنا لا تملك إلا أسلحة نووية. لو أطلقنا النار، لماتت جميع الأسماك فى المحيط الهادئ، ولما صمد البشر طويلاً أيضًا".
كانت السماء قد أظلمت عندما عدنا إلى منزل جدتى. نظرت إلى الساعة؛ كانت تقترب من الثامنة، وانتهت المدرسة فى الرابعة والنصف. كانت أمى قد عادت من العمل، وعندما دخلت من الباب مع الملازم "وانج"، أمسكت بى وقالت له: "يا صهرى، لقد مرت أكثر من ثلاث ساعات. هل أخذت ابنى إلى بكين؟" ضحك الملازم "وانج" وقال: "لا تنسَ وضع الأنشوجة فى الثلاجة يا أمى". وبينما كان يغادر، تمتمت أمى لجدتى: "هل تحاولين قتلى؟ لقد أرسلتِ مجنونًا ليأخذ ابنى". قالت الجدة: "إنه ليس مجنونًا. لقد قال الطبيب إنه رجل صالح تمامًا".
اكتشفتُ لاحقًا أن والدتى عندما وصفت الملازم "وانج" بالمجنون، كانت تعنى ذلك حرفيًا - كان فى الواقع مريضًا نفسيًا. بعد ذلك، بدأتُ ألاحظ عندما كان والدى فى تجمعاتنا العائلية فى رأس السنة، يحجز لنا غرفة كاريوكى فى فندق محلى، كيف كان الملازم "وانج"، يمسك الميكروفون ويرفض تركه، حتى أنه كان يضعه فى جيبه عندما يذهب إلى الحمام خشية أن يحاول أحدهم انتزاعه منه. كان الملازم "وانج" سعيدًا عندما يغنى، مما يعنى أنه كان رجل حسن السلوك. كان يتمتع بصوت تينور جيد، وكان يجيد بشكل خاص أغانى "يانج هونجى" أو "جيانج داوى". كان يحب أيضًا الشرب وكتابة الشعر، وكان يلعب الشطرنج بمهارة - كان يستطيع القيام بذلك أثناء قراءة كتاب، بينما يحرك القطع بقدميه. رأيتُ قصائده، ومع أننى لم أكن أفهمها، لكنها كانت جميعها تتعلق بالمحيط.
أما عن مرضه، فقد كنتُ أسمع القصة من جدتى فى عشاء كل ليلة رأس السنة. انضم الملازم "وانج" إلى البحرية عندما كان فى التاسعة عشرة من عمره حتى لا يُرسل إلى الريف، ولكن على الرغم من جهوده، فقد وقع فى تجاوزات الثورة الثقافية. كانت هناك بضع سنوات فى منتصف كل ذلك عندما انقسم طاقم سفينته إلى فريقين، حيث كان القبطان والمفوض يقود كل منهما أحدهما. لم يريد الملازم "وانج" الإساءة إلى أى شخص، ورفض الانحياز إلى أى جانب. سُمح له بالحفاظ على ولاءاته غامضة لأن الجميع فهم مزاجه: خجول، جاد، عنيد. ومع ذلك، لأنه كان الأفضل فى وظيفته بالإضافة إلى كونه الأكثر تعليماً، أراد كلا الجانبين تجنيده - لكنهم لم يتمكنوا أبدًا من معرفة الاتجاه الذى كان يميل إليه. كان هذا هو أصل المشكلة. فى إحدى الليالى، فى المهجع المكون من ستة أفراد، بدأ الملازم "وانج" يتحدث أثناء نومه. وصف بصوته الرنان، القبطان بأنه يطعن الآخرين فى الظهر، وأنه بوجهين، ثم سخر من المفوض بأنه فأر صغير غدار. لسوء حظه، كان أحد رفاقه فى السكن مُخبرًا للقبطان، وآخر للمفوض. فأتوا بهم ووقفوا جميعاً إلى جانب الرجال الخمسة الآخرين، يستمعون إليه وهو يلعن ويسب حتى الفجر. فى اليوم التالى، توصلت الفرق المتناحرة إلى هدنة مؤقتة، وتم استدعاء الملازم "وانج" إلى جلسة تحقيق. قال القبطان، أيها الملازم، اتضح أنك منافق، خائن متأصل فى قواتنا. هل تعتقد أن والدك كان ثوريًا عجوزًا، لديه مائة معركة باسمه. بينما كان المفوض، مثل معظم المفوضين، رجلاً قليل الكلام. كل ما قاله هو، أيها الملازم "وانج"، أنت ستغوص فى بحور من العقاب.
أصبح الملازم "وانج" محبوسًا داخل مخزن صغير ذى فتحة صغيرة جدًا لدرجة أن المحيط الهادئ بدا كبقعة ماء فى قاع جرة. لم يكن هناك سرير، مجرد صفيحة معدنية للجلوس عليها. تسلل إليه أحد الرفاق بسجائر، فدخنها بشراهة لمدة ثلاثة أيام وليالٍ. لم يخبر أحدًا أبدًا بما مر به هناك، ولكن بحلول الوقت الذى سمحوا له بالخروج، كانت عيناه قد ماتتا، وتلطخ بياضه باللون الأصفر من التبغ. أعادته الشركة إلى جلسة التحقيق وظل صامتًا لفترة طويلة. فى البداية، كرر فقط بعض الكلمات، مثل، ما كان يجب أن يحدث هذا، ما كان يجب أن يحدث أبدًا. ثم وبعد توقف، تابع، لم أتحدث أبدًا فى نومى، ناهيك عن شتم أى شخص. قفز المفوض على قدميه ونكزه بإصبعه: كيف يمكن لأحد أن يعرف إذا كان يتحدث اثناء النوم؟ ابتلع الملازم "وانج" حلقه وقال، أنا رجل متزوج، إذا كنت أتحدثت فى نومى، كانت زوجتى ستخبرنى، أليس كذلك؟ ما رأيكم أن تنسوا الأمر، سأغنى لكم أغنية، ماذا تريدون؟ ماذا عن أغنية "الإبحار فى البحار يعتمد على ربان السفينة"...
كانت عمتى حاملاً فى شهرها السادس عندما استقبلت الملازم "وانج" من ميناء "لوشون". تعرّفا على بعضهما عن طريق خاطبة عندما كان فى سنته الرابعة فى الخدمة، وبعد زواجهما كان يزور منزله كل ستة أشهر. هذه المرة، عندما رآها كانت أول كلماته : "شيولينج"، هل أتحدث فى نومى؟ أمسكت عمتى بذراع الملازم دون أن تُجيب، ووضعت يدها على مؤخرة رقبته، وجعلته ينحنى للمفوض. قال المفوض: "هذا ليس خطأ الحزب". قالت عمتى: "أفهم، أنه هو المسؤول". قال المفوض: "حتى بعد إعادته إلى المنزل، يجب ألا يتوقف عن انتقاد نفسه". قالت عمتى: "وصلت الرسالة". قال المفوض: "والأهم من ذلك، أتمنى لك ولادة سعيدة". قالت عمتى: شكرًا لك يا سيدى.
بعد أن أطاح به القبطان، ذهب المفوض إلى صديق قديم من زمن الحرب، يعمل رئيس عمال مصنع طائرات، ورتب معه وظيفةً للملازم. قال المفوض: "إنه ليس رفيقًا سيئًا، لقد أخطأ فحسب". فى الوقت الذى بلغ فيه "أوشن" الثالثة من عمره تقريبًا، أفلتت فرصة الملازم "وانج" فى الترقية وهو يلحم جناح طائرة مقاتلة. لقد نسى ارتداء قناعه الواقى، وتطايرت شرارات فى عينيه. سقط من السلم، وعندما استعاد وعيه، بدا وكأنه لم يتعرف على أحد. بدأ يتمتم مرة أخرى: "ما كان يجب أن يحدث هذا، ما كان يجب أن يحدث أبدًا".
عندما عادت عيناه إلى طبيعتها، لم يعد بإمكانه النظر إلا إلى الأمام. حين جاءت عمتى لتأخذه من المصنع، كانت مرة أخرى ببطن كبير - فتاة هذه المرة، أطلقوا عليها اسم "النورس".
لم يُرِد رئيس العمال طرده، لكنه خشى أن يُزعج زملائه، فأعطاه إجازة مرضية. لم يُشفَ الملازم. ظلّوا يدفعون راتبه لمدة خمسة عشر عامًا، حتى بعد وفاة رئيسه القديم واستبداله. وحينها فقط، اصطحبت عمتى الملازم "وانج" إلى الطبيب. قال الطبيب: "بإمكاننا تخفيف أعراضه، لكنه سيظل مريضًا دائمًا". سيتعين على الأسرة التعامل مع تقلبات مزاجه.
سألتُ مرة عمتى الكبرى عن سبب عدم عرضه على الطبيب فى وقت أبكر. قالت لو فعلت ذلك، لتأكد لنا أنه مريض بالفعل، لكن طالما بقى فى المنزل، فربما كان بخير. لكنها فى الواقع طلبت من أحدهم أن يأتى ليُلقى نظرة على زوجها - امرأة فى مثل سنها من "تيلينج"، تُعرف لدى الجميع باسم "جورو تشاو" - كان ذلك بعد أن بلغت "النورس" شهرها الأول بقليل. قالت لها عمتى الثالثة: "يا أختى، اسمحى لى أن أُعرّفكِ على شخص ما"، تعرفتُ عليها عندما أُرسلتُ إلى الريف. أحضرت المعلمة "تشاو" من "تيلينج" وأخذتها مباشرةً إلى منزل عمتها الكبرى. كانت جدتها هناك، تحتضن "النورس". ولأن والدى هو الابن الأكبر، كان لا بد أن يكون حاضرًا أيضاً، وكانت العمات الثلاث حاضرات كذلك، بالإضافة إلى الملازم "وانج" نفسه، مع أنه لم يكن يعرف من هو الزائر. طلبت العمة الثانية من "أوشن"، الذى كان يلعب بمكعباته الخشبية، أن يخرج للعب.
دخل المعلمة "تشاو"، ودون أن تلقى التحية، تقدمت نحو الملازم، وسحبت كرسيًا وجلست أمامه. حدقت فيه طويلًا دون أن تتكلم. همست العمة الثالثة لأختها الكبرى من خلف ظهرها،: "أليس هذا غريباً؟" لقد عرفت على الفور من هو المريض مع أننا لم ننطق بكلمة. كان الملازم "وانج" هادئًا تمامًا. قرّب وجهه من وجه المعلمة وقال: "عيونك مختلفة الحجم". قالت المعلمة "تشاو": "إنه ليس مريضًا". قالت العمة الكبرى: "الحمد لله". قالت "جورو تشاو"، لكن لديه شيئًا يتبعه. سألت العمة الثالثة، أى نوع من الأشياء؟ قالت "جورو تشاو"، روح انتقامية. سألت العمة الثانية، من؟ لم تجب "جورو تشاو"، لكنها ظلت تحدق فى الملازم "وانج". قالت، هل قتلت أحدًا من قبل؟ صرخ أبى، ما هذا الهراء؟ كان صهرى بحارًا، وليس قاطع طرق. قالت "جورو تشاو"، اصمتوا جميعًا. هل قتلت أحدًا؟ قال الملازم "وانج"، لقد ذبحت الخنازير والدجاج أيضًا. وخلال سنواتى فى البحر، كنت أقتل الأسماك كل يوم. قالت "جورو تشاو"، أنت، توقف عن الكلام، دع الشىء بداخلك يتحدث. صمت الملازم "وانج".
حدقت "جورو تشاو" فى الزاوية الشمالية الشرقية من الجدار. قالت إنه هناك. سألت العمة الثالثة، أين؟ من؟ قالت "جورو تشاو"، بالطبع لا يمكنك رؤيته، فقط هو وأنا نستطيع. ثم التفتت إلى الملازم "وانج" وقالت، امرأة فى العشرينات من عمرها، شىء صغير نحيف. هل أنا على حق؟ صمت الملازم "وانج" مرة أخرى. قالت "جورو تشاو" للعمة الكبرى، يجب أن تسأليه. يداه ملطختان بالدماء، والآن ضحيته متمسكة به. يجب أن تذهبا وتناقشا الأمر. عندما تنتهيان، تعالى أخبرينى. سأبقى هنا وأتحدث مع الروح.
قادت العمة الكبرى "الملازم وانج" إلى الغرفة الداخلية وأغلقت الباب. خاطبت "جورو تشاو" الجدار، وكان صوتها مرتفعًا ومنخفضًا. ألا تعرفى من أنا؟ لديك خيار هنا. إذا لم تغادرى، فلدى تعويذة ستتعامل معك. ولكن إذا كنت على استعداد للذهاب، فاذكرى شروطك وسأتأكد من أن العائلة ستمنحك ما تريدى. شعرت العمة الثانية والثالثة بعرق بارد يتسرب إلى جميع أنحاء جسديهما. وبعد من يدرى كم من الوقت، فُتح باب الغرفة الداخلية وخرجت العمة الكبرى بمفردها. قالت "جورو تشاو"، حسنًا؟ هل وصلت إلى حقيقة الأمر؟ قالت العمة الكبرى، نعم. قالت "جورو تشاو"، هل مات أحد؟ قالت العمة الكبرى، إنه ليس قاتلًا، إنه مسؤول بشكل غير مباشر فقط. قالت "جورو تشاو"، لكنه تطابق مع وصفى. قالت العمة الكبرى، نعم، كنت على حق. قالت العمة الثالثة للعمة الثانية، لقد أخبرتك أنها جيدة. قالت "جورو تشاو"، هيا، أخبرينى بما حدث. جلست العمة الكبرى بجانب "جورو تشاو"، واحتست رشفة من الشاى، وقالت، كان لديه امرأة أخرى قبل أن يتزوجنى. كانت من عائلة مثقفة. ذهب للانضمام إلى البحرية بعد خطوبتهما. فى عام ١٩٦٧، وُجِّهَت تهمةٌ إلى والدها وقُتِل. حاولت والدتها الهرب على طول خطوط السكة الحديد، لكن الظلام حالك ولم ترَ القطار قادمًا. فقصمها إلى نصفين.
قالت "جورو تشاو": "لديه أكثر من دائن، فلا عجب أن رأسى يؤلمنى". وتابعت العمة الكبرى: "اضطرت الفتاة للعيش مع عائلتها فى قرية زراعية، دون أى وسيلة للتواصل مع الملازم". وبعد بضع سنوات، تمكنت من تعقبه وجاءت تبحث عنه فى الميناء. كنا متزوجين حينها. عادت الفتاة إلى قريتها وتزوجت من جَزَار خنازير كان يضربها كل يوم. وبعد أقل من ستة أشهر، قفزت فى بئر وغرقت. تناولت العمة الكبرى رشفة أخرى من الشاى. ملأت العمتان الثانية والثالثة أكوابهما أيضًا، بعد أن جفَّ عرقهما. قالت "جورو تشاو: "متى كان هذا؟" قالت العمة الكبرى: "قبل نصف عام من مرضه". قالت جورو تشاو": "هذا صحيح تقريبًا". هل أنتِ متأكدة من صدقه؟ قالت العمة الكبرى: لن يكذب. قالت المعلمة "تشاو": هذه عائلة من ثلاثة أفراد، وهذا ليس بالأمر الهيّن.
بعد بضعة أيام، عادت "جورو تشاو" إلى منزل العمة الكبرى ومعها لوحان خشبيان، أحدهما قصير للخطيبة المتوفاة، منقوش عليه اسم عائلتها، "تشين"، والآخر طويل باسم أطول: اللورد الثالث لعشيرة "باى"، كهف الصفصافتين على تل رأس التنين. أمرت "جورو تشاو" العمة الكبرى بإعادة ترتيب جميع الأثاث مقابل الحائط الشرقى. تم دفع الطاولة ذات النهاية المخطوطة لأعلى مقابلها، مع حامل بخور فى المنتصف وخلفها اللوحين، واحد على كل جانب. قالت "جورو تشاو"، أخبريه أن يقدم قرابين من البخور صباحًا ومساءً، عود بخور واحد لكل لوح. يجب أن يفعل ذلك بنفسه، لا يمكن لأحد أن يفعل ذلك نيابة عنه. ثم أجرت "جورو تشاو" طقوسًا، حيث نثرت خمسة أرطال من رماد البخور فى كل مكان. وحفرت حفرة بحجم الإبهام تقريبًا عبر الزاوية الجنوبية الغربية من الغرفة، مباشرة فى الهواء الطلق. قالت للعمة الكبرى: تذكرى لا تسديها، هكذا سيأتى اللورد الثالث "باى" ويذهب.
كلف الأمر برمته ثلاثمائة يوان. قبل أن تغادر المعلمة "تشاو"، أمسك الملازم "وانج" يدها بقوة وقال: "إذا كان اسمكِ "تشاو"، فكيف تُنسب عائلتكِ إلى "باى"؟ هل كنتِ لقيطًة؟" استعادت المعلمة "تشاو" يدها وقال للعمة الكبرى: "عليكِ الصبر حتى يتعافى تمامًا".
وافق الملازم "وانج" على كل الإجراءات: صيانة المذبح، ونثر رماد البخور، والحفاظ على الفتحة مفتوحة، والقيام بكل شىء بنفسه. تحسنت حالته لبضعة أشهر بعد الطقوس، وخفّت حدة طبعه، وتنفس الجميع الصعداء. ومع ذلك، لم يسمح الكبار لأياً منا بالاقتراب منه - إلا أنا، كما اتضح لاحقاً.
فى صيف ١٩٩٨، فقد والداى وظيفتيهما فى موجة التسريح الجماعى التى اجتاحت منطقتنا. أقنع صديق طفولة ابى، الذى فُصل هو الآخر، بالانضمام إليه فى تأسيس مطعم صغير. لم يعد أبى يمكث فى المنزل أبدًا بسبب اضطراره لإيجاد مكان مناسب وتجديده والتقدم بطلب الترخيص التجارى. أما أمى، فقد طلبت من عمتى الثانية، التى كانت تعمل فى لجنة الحزب المحلى، مساعدتها في إيجاد وظيفة، مما يعنى أنها كانت تقضى أيامها فى زيارة مختلف المسؤولين لتقديم الهدايا لهم.
ونتيجة لذلك، أصبحت عالقًا طوال الصيف فى منزل جدتى. كان الملازم "وانج" يأتى إلينا كلما شعر بالملل من التغلب على جارنا العجوز فى لعبة الشطرنج. بينما عاملته جدتى كما لو كان غير مرئى. فى يوم من الأيام جاء ليعطينى كتابًا: "عشرون ألف فرسخ تحت سطح البحر". قال، أعتقد اننى وعدتك عندما كنت صغيرًا بإقراضه لك. لقد أخطأت فى اسم المؤلف: إنه "فيرن"، وليس "فرساى". قلت، متى تحتاجه مرة أخرى؟ قال، لا حاجة، احتفظ به. قلت، هوائى التلفزيون معطل، لا يمكننى المشاهدة، قال الملازم "وانج"، يمكن إصلاحه. قلت، أصلحه إذن. قال، دعنى أعلمك لعب الشطرنج أولاً. قلت، أعرف ذلك بالفعل. أخرج من جيبه: مجموعة شطرنج مغناطيسية بحجم دفتر ملاحظات. فتحها ووضع القطع وبسط يديه وقال، حركتك. قلت، عليك أن تعطينى ميزة - اخسر ثلاث قطع. قال، لا يمكن. قلت، إذن لن ألعب ب-ب-. قال، قطعتين. حدقت فى اللوحة،وانا افكر إذا كنت سآخذ حصانًا وفيل، أو كلا الطابيتين. عندما رفعت نظرى، كان الملازم "وانج" واقفًا أمام التلفزيون. قلت، هل ستصلح ذلك؟ عاد ليجلس أمامى وظل قلقًا وهو يحرك الهوائى أثناء اللعب. قال، لم أرك كثيرًا العام الماضى. قلت، كنت فى "بكين". سأل، ماذا كنت تفعل فى "بكين"؟ قلت، أتعالج. قال، هل تقوّم لسانك الان؟
فى الواقع، قضيتُ معظم العام الماضى أسافر ذهابًا وإيابًا إلى عيادة صغيرة فى "شيجينجشان". تم حرق لسانى بكماشة مكهربة، وشربتُ علاجًا شعبيًا مصنوعًا من هياكل مسلوقة للصراصير، وقرأتُ الأبجدية وفمى ممتلئ بالحصى، وبصقتُ وعاءً تلو الآخر من الدم الداكن. لقد استسلمتُ تقريبًا لحياة من الإذلال. كان الأمر كما لو أن والدى أصبحا مدمنين على تعذيبى، أو ربما يستمتعان بمعاناتى.
قلتُ لا أريد اللعب بعد الآن. نهض الملازم "وانج" وأعاد الهوائى إلى أعلى الجهاز، ثم شغّل التلفزيون. بعد بضع دقائق من العاصفة الثلجية، عادت الصورة إلى طبيعتها. قال: لقد تم إصلاحه. قلتُ: انتهى العرض. قال: انظر إلى الهوائى. هل لاحظتَ كيف يضيق؟ قلتُ: وماذا فى ذلك؟ قال: نحن طوال حياتنا نقوم بالصعود، حتى نصل أخيرًا إلى القمة، أضيق نقطة. سألتُ: إلى أين وصلتَ؟ قال: نقطة التحول - حيث كل شىء هناك عبارة عن غبار، ولكن عليكَ مواصلة التسلق. ألم تُدرك أنك وأنا لدينا الكثير لنقوله عن هذه العائلة؟ حتى لو كنتَ تجد صعوبة فى الكلام.
بحلول نهاية الصيف، افتتح أبى وصديق طفولته مطعمهما، الذى حقق نجاحًا غير متوقع. حصلت امى أيضًا على وظيفة جديدة: مشرفة مستودع مؤقتة فى مكتب عمليات الاتحاد النسائى. وظيفة بدون مزايا، لكن أجرها كان أعلى بكثير من أجر المصنع. ازدادت عائلتنا راحةً، ومع تأقلمنا مع حياتنا الجديدة، لم يكن لدى سبب لأخبرهم عن لقاءاتى السرية مع الملازم "وانج".
ثملتُ فى حفل الخطوبة، واضطرت "جايد" لمساعدتى فى العودة إلى الفندق. وبينما كنتُ أستلقى على السرير، قالت فجأةً: "لا أصدقك. كيف يُمكن أن يوجد قنفذ فى وسط مدينة صينية، فما بالك بالطريق الرئيسى؟" قلتُ: "لقد غادرتِ أنت "شنيانج" عندما كنت فى الثانية من عمرك، لذلك سيبدو كل شىء هناك لك غريبًا ومضحكًا". لم يكن لدينا قنافذ فحسب، بل أننى أكلتُ واحدًا أيضًا. كادت "جايد" تفقد عقلها. ماذا قلتِ؟" صرخت، "أكلتِ قنفذًا؟" أنت تتلعثم عندما تكون ثمل، لستُ متأكدة أننى سمعتكِ جيدًا. هل نتحدث عن تلك المخلوقات الصغيرة المغطاة بالأشواك؟" قلتُ: "نعم، أكلنا واحدًا، أنا والملازم "وانج". وكان طعمه كالدجاج".
حدث ذلك فى الخريف، كان ذلك عندما رأيتُ لأول مرة كيف تفاقم مرض الملازم "وانج", بسبب ابنة عمى "النورس". كان لديها صديق آنذاك، "لى قوانج يوان"، الذى كان يعمل معها فى الصيدلية المحلية، ويتاجر فى الدواء الصينى. كان يكبرها بثمانى سنوات، مطلقًا وليس لديه أطفال. كانت "النورس"، التى لم تواعد أحدًا من قبل، طويلة وشاحبة، بعينين واسعتين مثبتتين فى وجه صغير، تشبه إلى حد كبير الملازم "وانج". عندما سئمت من تكرار رفضها بأدب ل"قوانج يوان"، قالت له: "أبى مريض نفسى، والجميع يقول إنه وراثى". قال "قوانج يوان": "هذا قابل للشفاء". قالت: "هل تقصدنى أنا؟" قال: "أقصد أبوك، سأكتب له وصفة طبية، وسيكون بخير فى غضون نصف عام". قالت "النورس": "إنه يحرق البخور فى المنزل ويصلى للأجداد". قالت له المعلمة الروحانية ألا يتناول الدواء. قال "قوانج يوان": "هذه مجرد خرافة. نحن أناس متعلمون. دعينى أهتم بالأدوية، ولن تضطر لدفع سنت واحد".
سللت "النورس" بالفعل هذا الدواء إلى الملازم "وانج". لقد قام "قوانج يوان" بتحضيره فى العيادة ووضع الخليط المبرد فى كيس لتأخذه معها إلى المنزل. سكبته فى ترمس وأخبرت والدها أنه مُنشِّط. شربه لمدة ستة أشهر. فى هذه الأثناء، انشغلت "النورس" و"قوانج يوان".
فى أحد الأيام، انحنت "النورس" على المنضدة وقالت: "أنا حامل. تعال لمقابلة والدى".
عندما دخل "لى قوانج يوان" من الباب، كان الملازم "وانج" يُقدّم البخور، ويُخبر اللورد الثالث "باى" عن يومه. كانت لديه على فخذه قرحة لم تكن تشفى مهما وضع من مراهم. تفاقمت بحيث لم يعد قادرًا على المشى بشكل صحيح، فلم ينزل إلى الطابق السفلى منذ أيام. تمتم الملازم "وانج"، لقد فكرت بعمق فى أخطائى السابقة، ووصلت الآن إلى حالة من التنوير. أنا مستعد للعودة للعمل على متن السفن فى أى وقت. قالت العمة الكبرى، لماذا لا تصمت، ابنتك صنعت كعكة فى الفرن.
قال "قوانج يوان"، مرحبًا يا عمى. قال الملازم "وانج"، نادنى باسمى، أنا الملازم "وانج". كنت انت من احضرت ذلك الشىء الذى شربته؟ قال "قوانج يوان"، نعم، كيف كان؟ قال الملازم "وانج"، مر. قال "قوانج يوان"، كل دواء جيد مُر. قال الملازم "وانج"، هل أنت خائف منى؟ قال "قوانج يوان"، ما الذى يجب أن أخاف منه؟ قال الملازم "وانج"، إنهم جميعًا خائفون منى. قال "قوانج يوان"، أنا لست خائفًا. قال الملازم "وانج"، هل النورس حامل حقًا؟ قال "قوانج يوان"، ما يقرب من أربعة أشهر. قال الملازم "وانج"، هل تعتقد أنه كان يجب أن يحدث ذلك؟ قال "قوانج يوان"، كان يجب أن أقابل والديها أولاً، هذا خطأى. قال الملازم "وانج"، هل ستتمكن من رعايتها؟ قال "قوانج يوان"، نعم. قال الملازم "وانج"، إذا وافقت على أشياء لا يمكنك فعلها، فقد يفقد الناس حياتهم، لقد حدث لى ذلك. قال "قوانج يوان"، لن يحدث هذا. قال الملازم "وانج"، دعنا نتناول العشاء الأسبوع المقبل. قال "قوانج يوان"، سأجد لنا مكانًا. لم يلاحظ "قوانج يوان" أن الملازم "وانج" كان يواجه صعوبة فى المشى إلا عندما استدار ليغادر. قال، عمى، ما مشكلة ساقك؟ قال الملازم "وانج": "لدى قرحةٌ لا تُشفى، أظنّ أنها مشكلةٌ". قال "قوانج يوان": "قرأتُ فى مكانٍ ما أن لحم القنفذ يُشفى القروح".
كان "قوانج يوان" مولعًا بالطرق الغربية، وبدلًا من حجز مطعم، أقام نزهةً فى حديقة شبابيه. فرش قطعةً مربعةً من قماشٍ أزرقَ مُربّعٍ بمساحة مترين، ووضع دجاجًا مشويًا، ومخالب دجاج، وأقدام خنزير، وشرائح كتف خنزير، وسلطة خيار، وفجلًا صيفيًا، مع ثومٍ مفروم وصلصة بيض فى أوعيةٍ بلاستيكيةٍ منفصلة، بالإضافة إلى أربعة أطباقٍ ساخنةٍ أعدها بنفسه، مُقدّمةً فى علب غداءٍ من الفولاذ المقاوم للصدأ بنفس الحجم. كان الطعام مُرتّبًا بدقةٍ وترتيبٍ تدرك من خلاله فورًا أنه رجلٌ مُحترم. فتح "قوانج يوان" زجاجةَ صودا لى وقال: "اشرب". ثم التفت إلى أمى وسألها: "هل تُريدين بيرةً أم صودا يا عمتى؟" أجابت: "الصودا جيدة، سأفتحها بنفسى".
فتح "قوانج يوان" أربع زجاجات من بيرة "سنو لاجر" للملازم "وانج"، وزميل أبى، و"أوشن"، وله، وبينما كانوا يشربون نخبًا قال: "من الآن فصاعدًا، سنكون جزءًا من نفس العائلة" ثم انحنى. بعد ذلك، أفرغ زجاجته. وبينما كان يفتح زجاجة أخرى لنفسه، قال: "سأضطر إلى مناداتك أبى من الآن فصاعدًا. اجلس يا أبى". لكن الملازم "وانج" ظل واقفًا، بسبب القرحة فى فخذه، ولم يكن هناك أى مجال للجلوس متربعًا. قال: "أستطيع أن أرى أبعد من ذلك وأنا واقف".
استمرت الوجبة فى صمت، وحاولت امى بدء محادثة مع "قوانج يوان"، حول ما إذا كان مسحوق اللؤلؤ المذاب فى الماء يمكن استخدامه لتبييض البشرة. فى لحظة ما، شعرت بالملازم "وانج" يمسك فجأة بيدى، وتركته يقودنى نحو التل الواقع خلفنا. لم يبدُ أن أحدًا لاحظ ذهابنا بعيدًا. تذكرت حين جاء الملازم "وانج" ليأخذنى من المدرسة عندما كنت فى الخامسة من عمرى، عندما كنت قصيرًا جدًا لدرجة أنه كان يضطر إلى الانحناء ليأخذ يدى. الآن يمكنه الوقوف منتصبًا، لكنه كان يعرج فى مشيته. استغرق الأمر بضع خطوات فقط ليقودنا إلى غابة صنوبر. تسللت بعض الظلال بين ساقى: عصافير تمر فوق رأسى.
فجأة صرخ الملازم "وانج"، لا تتحرك! تحرك بسرعة كبيرة، وخلع سترته وأمسكها من الأكمام مثل حمالة. تقدم على أطراف أصابعه إلى الأمام، وقبل أن أفهم ما كنت أراه، انقض كقطة وسقط على ركبة واحدة، ممسكًا بالسترة بإحكام. كان هناك شئ ملفوفًا بها يتلوى بحجم كرة طائرة. أحضر الحزمة إلى، ولأول مرة فى حياتى رأيت قنفذًا حيًا. قال، المسه. مددت يدى ومسحت أشواكه. لم تكن حادة كما تخيلت. سألتُ: هل سنأخذه إلى المنزل ونحتفظ به كحيوان أليف؟ قال: "اذهب واحضر بعض الأغصان". قلتُ: "هل يأكل الأغصان؟" قال: "لن يأكل شيئًا". فعلتُ كما أُمر.
وعندما عدتُ بالأغصان، كان قد حفر حفرةً فى الأرض، ونشر فيها طبقةً من الأوراق الجافة. كانت ألسنة اللهب الصغيرة ترقص حولها بالفعل. قال: "ضعها جانبًا وأضفها إلى النار واحدةً تلو الأخرى". وبينما كنتُ أنفض التراب عن قميصى، قلتُ: "أين القنفذ؟" أشار الملازم وانغ إلى كومةٍ من التراب عند قدميه، بحجم كرة السلة. قال: "هناك". كنتُ خائفًا، لكن كل ما استطعتُ فعله هو مشاهدة ألسنة اللهب وهى تتصاعد.
وضع الملازم "وانج" كومة التراب وسط الأوراق، وأبقى النار مشتعلة بإلقاء المزيد من الأغصان. كانت الشمس على وشك الغروب، وعاد سرب العصافير، واستقر يراقبه على الأغصان فوق رأسه. ترك الملازم "وانج" النيران تخمد، منتظرًا بصبر حتى انطفأت آخر جمرة. وبعصا متشعبة، دحرج كتلة التراب المتفحمة إلى حافة الحفرة، تصدعت مثل بيضة، وانبعثت رائحة غريبة من اللحم الأبيض بالداخل: لا أشواك، لا أطراف، مجرد كتلة من اللحم. ركع الملازم "وانج" ونفخ عليها حتى بردت قليلًا. قام بتقطيع جزء ووضعه فى فمى. لم أقاوم. مضغته مرة، مرتين. قال الملازم "وانج"، أنت لست مريضًا، لقمة واحدة ستفى بالغرض. التهم قطعة كبيرة، ثم أخرى، وأخرى. لم يتبق شىء سوى كومة من العظام. تحت ضوء القمر، بدت وكأنها هيكل دجاجة.
كانت الأصوات التى تنادى بأسمائنا، تقترب. نفض الملازم "وانج" الريش من على بنطاله وأمسك بيدى مجددًا. خرجنا من بين أشجار الصنوبر، بخطوات سريعة. شعرتُ حينها فقط بعودة الحياة إلى جسدى. نظرتُ إلى ذقن الملازم وانغ المنحنى، وفهمتُ أنه يعانى من نوبة. ومع ذلك، بدا أن ساقه قد تحسنت بالفعل.
لم يجلب زواج "النورس" حظًا سعيدًا للملازم وانج. بدلًا من ذلك، بدأ مرضه يتفاقم أكثر فأكثر. بعد ولادة حفيدته، "مويانج"، بفترة وجيزة، مرضت "النورس" أيضًا، وجفّ حليبها. كانت عمتى الكبرى فى طريقها إلى التسريح من العمل، لكنها تقاعدت مبكرًا وبقيت فى المنزل لرعاية الطفلة، حتى تتمكن "النورس" من التحسن. كان هذا يعنى أنها لم تعد قادرة على العناية بالملازم "وانج"، الذى بدأ يتواجد فى كل مكان، ولم يعد يُكلف نفسه عناء إشعال البخور. أفاد الجيران أنه توقف عن لعب الشطرنج، وبدلاً من ذلك كان يصعد إلى السطح وينحنى فوق السور، يُحدق باللاعبين من الطابق السابع. كانوا ينظرون إليه، فإذا به هناك، وعيناه مثبتتان عليهم. كان الأمر مُرعبًا. ماذا لو قفز وارتطم رأسه برقعة الشطرنج؟ لم تفعل العمة الكبرى شيئًا، رغم أن الناس حثوها على إدخال الملازم "وانج" المستشفى لفترة. ردت: "أى مستشفى؟ إذا مات، فسيكون هنا، تحت إشرافى".
بحلول ذلك الوقت، كانت العمة الكبرى قد استنفدت طاقتها. استسلمت واتصلت بجورو تشاو. وقبل أن تنطق بكلمة، قالت "جورو تشاو": كنت أعرف أنه أنت - هل هو مريض مرة أخرى؟ قالت العمة الكبرى، الأمر أسوأ هذه المرة، أنا قلقة من أنه قد يموت. قاطعتها "جورو تشاو"، لا تخبرينى بأعراضه، أخبرينى ما الأمر. لا بد أنه فعل شيئًا سيئًا مرة أخرى. قالت العمة الكبرى، أوه، دعنى أفكر، أوه نعم - قبل ستة أشهر، أمسك بقنفذ وشواه وأكله. كان هناك صمت طويل. قالت العمة الكبرى، مرحبًا؟ هل ما زلت هناك؟ جاءت صرخة عبر الهاتف: انتظر فقط حتى تموت عائلتك بأكملها! قالت العمة الكبرى غاضبة. أليس من المفترض أن تكونى معالجة؟ كيف يمكنك أن تقولى مثل هذا الشىء؟ زأرت المعلمة "تشاو"، ألا تعرفى من كان يحمى عائلتك طوال هذه السنوات؟ ألا تعرفى من أنا؟ إن أمراء عائلة "باى" هم آبائى!
صمتت العمة الكبرى فى ذهول. في تلك الليلة، قالت لقوانج يوان، لقد درست الطب الصينى. هل تعرف من هو اللورد الثالث "باى"؟ قال "قوانح يوان"، العشائر الخمس الخالدة العظيمة هى "هو"، و"هوانج"، و"باى"، و"ليو"، و"هوى" - الثعلب، وابن عرس، والقنفذ، والثعبان، والفأر. قالت العمة الكبرى، أوه، إذًا القنفذ هو والد المعلمة "تشاو". قال "قوانج يوان"، والد من؟ هزت العمة الكبرى رأسها. قال "قوانج يوان"، أمى، لم أكن أريد أن أقول أى شىء قبل أن أصبح جزءًا من هذه العائلة، ولكن يجب أن أتحدث الآن. يجب أن يكون والد زوجتى فى المستشفى. قالت العمة الكبرى، سأفكر فى الأمر. قال: "وتخلصى من تلك الألواح، هذه ليست الطريقة الصحيحة". قالت: "يجب أن أتخلص منها على أى حال، فقد أكل حماك جدها". استبدلت الألواح بصورة صليب معلق على الحائط ورأيتها ذات مرة راكعة أمام الصليب، تبكى وهى تصلى.
آخر مرة رأيت فيها الملازم "وانج"، كانت عندما ذهبت لزيارة عمتى ولاحظت أن الصليب قد اختفى. ضربت على صدرها وقالت: "لقد انتهت الفوضى هنا". كانت هناك شاحنة بيضاء فى الخارج وكان عمى يصعد إلى مؤخرتها منحنيًا. كان "لى قوانج يوان" يحشو حزمة من الأوراق النقدية فى يدى الممرضين، لم أستطع معرفة كم. عندما انتهوا، دخل الممرضان أيضًا. وبينما كانوا يغلقون الأبواب خلفهم، شعرت برغبة مفاجئة في الصراخ "الملازم وانج أو العم الأكبر"، لكننى لم أفعل. كان جسده مغطى بأحد المعاطف البيضاء، وكان رأسه متجهًا إلى الجانب.
سألتنى "جايد" كيف مات الملازم "وانج". قلتُ: كانت نوبة قلبية مفاجئة. كانت إحدى مساعديه تغرف له عصيدة الإفطار، وعندما استدارت، كان رأسه منحنيًا على حافة النافذة، كما لو كان يأخذ قيلولة. قالت "جايد": كبار السن فى فرنسا يحسدون الموتى بهذه الطريقة، دون معاناة. قلتُ: وكذلك يفعل الناس فى جميع أنحاء العالم. غيرت "جايد" الموضوع فجأة: لماذا لم تخبرنى من قبل أنك كنت تعانى من الاكتئاب عندما كنت طفل؟ قلتُ: أنا آسف. قالت: ليس خطأك، وعلى أى حال لم يكن اكتئابًا حقًا، أليس كذلك؟ قلتُ: لا أعرف. لكننى تذكرتُ حينها أنه عندما رأيت الملازم "وانج" يقود قنفذًا عبر الطريق، كنتُ فى الرابعة عشرة من عمرى، ونعم، كان ذلك فى عام 2001. كان ينبغى أن أكون فى سنتى الثانية من المدرسة الإعدادية، لكننى كنتُ عالق فى المدرسة الابتدائية. لقد تعرضتُ لمضايقات لا هوادة فيها بسبب تلعثمى لدرجة أننى بحلول سن العاشرة انعزلتُ تمامًا داخل نفسى ورفضتُ الذهاب إلى المدرسة. بعد عام من العلاج فى "بكين"، عدتُ دون أى تغيير فى تلعثمى، كنتُ متأخرًا عن الجميع بدرجة واحدة فقط. كنتُ طالبًا جيدًا، لكننى كرهتُ الدراسة، وتراجعت درجاتى بشكل حاد. لقد أبقونى متأخرًا لمدة عام آخر. فى عيد ميلادى الرابع عشر، وقفتُ وقدمى خارج نافذة شقتنا فى الطابق السادس، مستعدًا لإنهاء كل شىء. عندها وافق والداى على التوقف عن محاولة علاجى. عندما نزلتُ من عتبة النافذة، قررتُ ألا أتحدث إلى أى شخص مرة أخرى. كنتُ أخرس لمدة ثلاثة أشهر، ومهما حاول والداى أو أى شخص آخر، لم يتمكنوا من أخذ كلمة واحدة من شفتى. كانت الدموع تنهمر على وجه أمى باستمرار، وعندما سئمت من البكاء، أخذتنى إلى طبيب نفسى. رفضتُ التحدث إلى الأطباء النفسيين بالطبع، فكان تشخيصهم هو الاكتئاب، لكن لم يكن هناك سبيل لعلاجه دون التحدث.
في النهاية، أقنعت عمتى الثالثة والدى بأننى لا بد أننى مصاب بلعنة، وقررنا زيارة المعلمة "تشاو" للمرة الثالثة. أصرت المعلمة "تشاو" على أن آتى وحدى وأن نلتقى فى منزل عمتى الكبرى، لأن الحفرة فى الزاوية الجنوبية الغربية كانت لا تزال موجودة، وسيكون المعلم الثالث "باى" قادرًا على الدخول والخروج بحرية. وضعتنى أمى فى سيارة أجرة، وأخبرت السائق بالعنوان مرتين، وسلمتنى الأجرة وهى تبكى. كنا على وشك الوصول إلى منزل عمتى الكبرى عندما علِقنا فى زحمة السير التى سببها الملازم "وانج" والقنفذ.
لم أرَ الملازم منذ فترة، لأنه بعد اختفائنا فى بستان الصنوبر، قال والداى إنهما سيكسران ساقى إذا اقتربت منه مرة أخرى. العمة الكبرى، التى لم تستطع بعدُ إقناع الغرباء بعدم حبسه، اختارت بدلاً من ذلك إبقائه قيد الإقامة الجبرية، مُطعمةً إياه حبوبًا منومةً تطحنها حتى تصبح مسحوقًا وتُذاب فى الماء. كان الملازم "وانج" يرتشف كوبًا كاملًا من هذا الخليط بطاعة كل صباح ومساء، ويقضى النهار والليل نائمًا. لم يكن واعيًا لأكثر من ساعتين يوميًا، وهى مدة كافية بالكاد لتناول وجبة طعام والذهاب إلى الحمام للتبول. لكن فى ذلك اليوم، أصيبت "مويانج" بالحمى، وفى عجلة العمة الكبرى لإحضار حفيدتها إلى العيادة، نسيت أن تُعطى الملازم "وانج" حبوبه المنومة.
عندما التقيتُ بالملازم "وانج" وعمتى الكبرى، كانت موجة من أبواق السيارات تغطى على صوت صافرته، مع أن وجنتيه كانتا لا تزالان منتفختين وهو مستمر ينفخ. ركضت امرأتان عجوزتان نحوه، وفى نفس اللحظة تقريبًا أمسكتا بياقته من الخلف. أمسكت إحداهما بالصافرة والعلم، بينما أمسكت الأخرى وهى عمتى، بالرجل بنفسها. اتصل أحدهم بالشرطة، و على حين كانت عمتى تسارع لإعادة زوجها إلى المنزل قبل وصول رجال الشرطة. عندما رآنى الملازم "وانج"، ابتسم. آه، أنت هنا! لم أقل شيئًا. قال: ألم يُستقم لسانك بعد؟ هل أصبحتَ صامتًا؟ حدقتُ فيه بغضب، بينما أسنانى تصرّ.
تبعتُ العمة الكبرى بينما كانت تجرّ الملازم "وانج" طوال الطريق إلى المنزل. لم يعد يحمل علمه وصفارته، لكنه كان فى حالة معنوية عالية. عندما وصلنا نحن الثلاثة إلى منزل العمة الكبرى، غمرتنا عاصفة من دخان البخور بمجرد دخولنا. عادت لوحة اللورد الثالث "باى" إلى مكانها على المذبح. كانت "جورو تشاو" ترتدى رداءً أصفر، وتمسك سيفًا خشبيًا قصيرًا. صرخ الملازم "وانج"، الذى كان لا يزال مبتهجًا، "مرحبًا يا صديقتى القديمة!" وجّهت "جورو تشاو" السيف نحوه وقالت: "أنت وعائلة "باى" أعداء لدودون! لا تدعنى أراك مرة أخرى!" ثم حركت السيف ليشير إلى عمتى، وقالت: "وأنت أيضًا!" ابتسم الملازم "وانج" وقال: "لقد أنقذت أحد أفراد عائلتك اليوم، ألا يمكننا أن ننهى هذا الأمر؟" صرخت "جورو تشاو"، "انصرف!" دفعت العمة الكبرى الملازم "وانج" إلى الغرفة الداخلية، وأغلقت على نفسها هناك أيضًا.
وجّهت "جورو تشاو" السيف نحوى وقالت: "اذهب إلى هنا. اركع للسيد الثالث". دفعتنى قوة غريبة إلى الأمام وأجبرتنى على الركوع. كان فوقى لوح روح السيد الثالث لعشيرة "باى"، كهف الصفصافتين على تل رأس التنين. شدّت أسنانى، وشعرت بضربة على مؤخرة رأسى، وسمعتُ "جورو تشاو" تصرخ: "تكلم!". ظلّ فمى مغلقًا.
ضربة أخرى من السيف. "تكلم!" وعندما لم أفعل، ضربة أخرى. اشتعلت جمجمتى. السيد الثالث "باى" هنا! عليك أن تعترف! ومع ذلك لم أقل شيئًا، ولكن فجأة، من الغرفة الداخلية، جاء صوت الملازم "وانج" صارخاً، "اصعد!". "عليك أن تصعد، اصعد إلى قمة الحياة!" رفعتُ رأسى، وكانت "جورو تشاو" أمامى. "اصعد!" استمر فى التسلق! كانت صرخات الملازم أعلى الآن، وسمعت خدشًا على الباب.
انفتح فمى وصرختُ: "أنا آثم!" صرخت: "أى ذنب؟ تكلم!" صرختُ، وتحديتُ والدى! صرخت: "ماذا أيضًا؟" تكلم! وهكذا انهمرت الدموع من عينى. صرخت المعلمة "تشاو"، قلها! لقد اعترف عمك بالفعل! صرخت، أعترف، لقد أكلت قنفذًا! صرخت، مرة أخرى! صرخت، لقد أكلت لحم عشيرة "باى" الخالد! صرخت، يا وحش! لكنك شاب وجاهل، سينقذك اللورد الثالث "باى". كرر ورائى! أولاً "هو" ثم "هوانج"! وكررت، أولاً "هو" ثم "هوانج"! ثم الثعبان والتشانج! ثم الثعبان والتشانج! ثم القاضى والشياطين يجلبون! ثم القاضى والشياطين يجلبون! اللورد الثالث "باى" يأتى وينقذ هذا الوغد! اللورد الثالث "باى" يأتى وينقذ هذا الوغد! نزل السيف مرة أخرى، مما أجبر الدم على الدوران حول فمى. سقط كيس من رماد البخور على رأسى، ولفني بالضباب. شعرت وكأن عبئًا ثقيلًا قد رُفع عنى، ولم أعد أستطيع سماع صرخات الملازم "وانج".
تعليقات