ما هو "الإسلام التقدمى" "Progressive Islam":

هناك لحظات فى التاريخ الانسانى تتصارع فيها التساؤلات، ليس كشبهة تخلى عن الموروث، بل كنداء لفهم أعمق لحقيقة الأمور.

من هنا كانت الحاجة ملحة للتساؤل حول كيفية إعادة الدين لروحه الحقة؟ كيف نمنع إستخدامه كسيف على رقاب الناس، وهو الذى اقر فى كتابه العزيز أنه نزل "رحمة للعالمين"؟

حمل اصحاب الفكر الحر تلك التساؤلات فى كتبهم وداخل صدورهم، وولد منها ما يمكن أن نسميه اليوم: "الإسلام التقدمى".

مابين "المعتزلة" وظلال الحاضر:

"الإسلام التقدمى" ليس كما قد يعتقد البعض بدعةً حديثة، بل أن جذوره ضاربة فى القدم، فى فكر "المعتزلة"، أولئك الذين نادوا فى عصور ساد فيها الجمود، بأن العقل ليس خصمًا للوحى، بل هو مرآته الحقيقية.

قالوا إن الله لا يظلم، لأنه حكيم، وإن الإنسان حرّ، لأنه مسؤول.

لم يكن قولهم هذا نوع من التمرّد،  ولكنه كان فهما عميقا للمعنى الحقيقى للنص: أن الله عادل، لا يضع عبده موضع العجز ثم يحاسبه، وأن الخير والشر يتم إدراكهم بالفطرة السليمة، وليس فقط بالمرويات.

ولكن تم إسكات أصواتهم تحت وطأة القمع، إلا أن كلماتهم بقيت تتردد فى قلوب كل من رفض أن يكون الدين حليفًا للطغاة.

كان الشيخ "محمد عبده" أول من أيقظ هذا الفكر فى العصر الحديث، فحين عاد الشيخ من منفاه، لم يعد حانقًا، بل كان عائدًا برؤية تنويرية.

لقد رأى فى "الإسلام" قوة دافعة للنهوض، لا عقبة فى طريق التقدم.

نادى بأن التعليم فريضة، وأن المرأة كائن كامل الإنسانية، وأن العقل أداة لفهم الدين وليس عدوا له.

قال عبارته الخالدة:

"إذا تعارض العقل والنقل، قُدِّم العقل، إذ لا يمكن أن يكون النقل الصحيح مخالفًا للعقل الصريح."

وحين سُئل عن الإصلاح، لم ينظر إلى الغرب كقدوة، بل إلى الداخل المهجور فى تراثنا، حيث "المعتزلة"، و"ابن رشد"، و"ابن خلدون".

وبتواضع العلماء، لم يدّعو الشيخ "محمد عبده" إلى تأسيس مذهب جديد، بل الى فتح النوافذ لاستيعاب الافكار. النوافذ لا تصنع ضوءًا، لكنها تسمح له بالدخول.

فى زمن لاحق، كان "طه حسين" يكتب لا بوصفه شيخًا أو واعظ بل بوصفه عقلًا شجاعًا. فى كتبه "مستقبل الثقافة فى مصر"، و"الفتنة الكبرى"، وفى كل ما خطّه قلمه، كانت دعوته واضحة: أن الدين ليس حكرًا على رجال يُمسكونه من عنقه، وأن التراث ليس نصًا مقدسًا، بل تاريخ بشر.

قال مرة بوضوح مؤلم: "العقل هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس، ومن الظلم أن يُصادر باسم الدين."

لم يكن طه حسين عدوًا للدين، بل كان خصمًا للجهل، للكسل العقلى، للجمود الذى يجعل من الفتوى سجناً.

ثم جاء الأدب، وتحدث بلغة القلوب.

لم يكتب "نجيب محفوظ" عن "الإسلام التقدمى" كمصطلح، لكنه مجد جوهره فى كل صفحة خطها. فى أغلب رواياته، من "أولاد حارتنا" إلى "ثرثرة فوق النيل"، كان هناك دائمًا ذلك الصراع الروحى بين الإنسان وقدره، بين السلطة والمعنى، بين النص وحريّة تأويله.

وكما كتب على لسان إحدى شخصياته: "الضمير هو صوت الله فى الإنسان."

وفى "أولاد حارتنا"، حين جعل من "الجبلاوى" رمزًا للألوهية، لم يكن يتطاول على الذات الإلهية، بل كان يتسأل بلغة الفن: لماذا انقطع الاتصال بين الإنسان والرحمة؟ لماذا بات الدين حليف القوّة لا ملجأ للضعفاء؟

لم يكن "نجيب محفوظ يعِظ، لكنه كان يقوم بتحريك الضمائر.

كان الدين دائمًا فى سردياته، خيارًا أخلاقيًا وليس حلية اجتماعية، لحظة وعى لا طقوس آلية.

المعالم الكبرى لنهج جديد:

يرى "الإسلام التقدمى" أن الدين هو كائن حى، لا يعيش إلا بالتفاعل مع الواقع. وأن جوهره لا يتناقض مع مفاهيم العدالة، والمساواة، والحرية، بل انه يؤسس ويدعو لها. من هنا انبثقت بعض مبادئه مثل:

أن العدالة هى التى يجب أن تسود وليس الطاعة العمياء: فالدين لا  يمكن أن يُستخدم لتبرير القمع، بل هو أداة لتحرير المقهورين ورفض الظلم.

أن العقل شريك فى فهم النص: كما قال المعتزلة، وكما آمن "محمد عبده"، فإن الله لا يمنحنا عقولًا ليعطّلها.

أن المرأة ليست تابعة، بل إنسان كامل: فلا يوجد نصّ فى "القرآن" يبرّر الهيمنة، بل هى تأويلات تم تفصيلها لتناسب مقايس السلطة الذكورية.

أن حرية الضمير هى الأصل، لا الاستثناء: فلا إكراه فى الدين، ليس كمجرد شعار، بل كمنهج وجودى للحياة.

أن الدين ليس عدوًا للعلم: بل هو فى حقيقته دافع للبحث، ومحرّضًا على التساؤل، ومُنذرًا من الجهل لا متحالفًا معه.

هل "الاسلام التقدمى" مجرد حلم؟ أم دعوة الغد؟:

ربما يبدو "الإسلام التقدمى" كحلم يراود النخب، أو كرفاهية فكرية لا يمكنها الصمود أو مقاومة جحافل الخطاب الشعبوى والسلفى.

لكن الأحلام التى تستند إلى التاريخ والضمير، لا تموت.

وما دام هناك من يقرأ "القرآن" بقلب مفتوح، ويستعيد سيرة "المعتزلة" ليس باعتبارها ذكرى، ولكن كأفق، وما دام فينا من يكتب كما كتب "طه حسين"، ويبدع كما أبدع "نجيب محفوظ"، فثمة أمل.

وكما قال "محمد عبده": "أنا مؤمن بأن الدين ليس ضد الحرية، بل هو أصلها." 

و"طه حسين": "القرآن كتاب هداية، لا كتاب حظر." 

و"نجيب محفوظ": "الدين إن لم يُثر الأسئلة، مات فى الصدور." 

فدعونا نأمل فى أن يعود الدين إلى وظيفته الأولى: أن يكون رسالة تحرير، لا وثيقة قيود. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

الأنبياء - قصة قصيرة

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"