الشك الميتافيزيقى

 يجادل "جاكوب بيل" هنا بأنه لا يمكننا تحديد الطبيعة النهائية للواقع.

يمكن اعتبار أن "الميتافيزيقيا" هى البحث فى الطبيعة النهائية أو الجوهرية للواقع. بمعنى آخر، هى محاولة لكشف ووصف ماهية الأشياء وكيفية وجودها على مستوى أساسى. 

يبدو أن أكثر أنواع "الميتافيزيقيا" شيوعًا يركز على تحديد ما إذا كان من الأفضل وصف العالم بأنه مادى، أو عقلى، أو محايد، أو هو مزيج من هذه العناصر. لا يوجد اختلاف حول أغلب الأسئلة التى تسعى "الميتافيزيقيا" لبحثها. ولكننا هنا معنيين بالمذاهب الميتافيزيقية التى تقوم بطرح ادعاءات كبرى، من قبيل أن "كل شىء مادى" أو "كل شىء عقلى". 

من الأمثلة الشائعة على ذلك التوجه المذاهب "المادية" و"المثالية". 

أما المذاهب الأقل شيوعًا والتى تكتسب شعبية، فتشمل "الأحادية المحايدة" و"الروحانية الشاملة".  

سنكتفى بوصف موجز للموقفين الأكثر شيوعًا. 

تشير "المادية" إلى أن كل ما هو موجود هو "مادى"، بما فى ذلك الأفكار والأرقام والعقول والوعى (إن وُجدت هذه الأشياء من الأصل بالطبع). 

أما "المثالية"، فهى على النقيض من ذلك، ترى أن كل ما هو موجود هو، بمعنى ما، عقلى أو نتاج للوعى، بما فى ذلك الأشياء المادية التى قد تبدو غير عقلية كالصخور والكراسى والكواكب. 

أنا شخصياً لست ماديًا ولا مثاليًا. هذا ليس لأننى أعتبر أى نظرية ميتافيزيقية أخرى صحيحة، بل لأننى أشكك بشدة فى أى موقف يقوم بإطلاق تعميمات شاملة بشأن الطبيعة الأساسية للواقع. 

ودعونى أخبركم السبب، إن المعتقدات الأساسية للمادية والمثالية غير كافية من الناحيتين التجريبية والتطبيقية. أى أنه لا التجربة البشرية فى العالم ولا البحث التجريبى فى الواقع يُمكنهما تحديد أيا من النظريتين تصف الطبيعة النهائية للواقع، كونهما متوافقان مع التجربة البشرية ومع العلم. وسيختلف النقد بناءً على نوع المادية أو المثالية الذى قد يُناصره المرء. 

أحيانًا يتفق على هذا حتى مناصرو كل مذهب، مثل "جون فيرفايكى" و"برناردو كاستروب". يُعرّف "فيرفايكى" نفسه بأنه ينتمى إلى المادية "غير الاختزالية"، بينما يقول "كاستروب" إنه "مثالى". وقد اتفقا على أن كل موقف من مواقفهما متوافق مع العلم الحالى، ولم يُقدّم أيٌّا منهما حجة قوية تُثبت أن موقفه أنسب لتفسير تجربتنا فى العالم. 

فى الواقع، يجب على كل مذهب أن يُقدّم حججًا إضافية لدعم موقفه، مثل الاحتكام إلى النشوء فى المادية غير الاختزالية، أو وفقًا لنسخة "كاستروب" من "المثالية"، الاحتكام إلى انفصال العقل الكونى عنه والذى يسمح للكائنات الحية بخوض التجارب. 

فكيف للمرء أن يُختار بين المذاهب الميتافيزيقية العديدة، إذا لم تُقدّم التجربة والتجريبية أدلةً قوية تُبرّر أى أطروحة ميتافيزيقية مُحدّدة؟

غالبًا ما يتم اللجوء إلى الفضائل النظرية لزيادة أو تقليل معقولية النظرية.  على سبيل المثال، إذا استطاعت نظرية ما أن تفسر بنفس القدر أو أكثر بالاستعانة بمفاهيم أقل، فهى نظرية أكثر اقتصادًا. كلما كانت النظرية أكثر اقتصادًا، زادت معقوليتها؛ أو هكذا يسير هذا الادعاء.

تكمن المشكلة فى أن هذا يتطلب افتراض بساطة الواقع. قد تحتوى النظرية الاقتصادية التى تعتمد على مفاهيم أقل على عدد أقل من الافتراضات الخاطئة، لكن هذا لا يعنى أنها تُمثل الواقع بدقة. قد تتطلب الحياة والعالم والواقع وصفًا أكثر قوة وتعقيدًا مما يسمح به الاقتصاد الصارم. بدلًا من ذلك، عند الجدل لدعم موقف مثل "المادية" أو "المثالية"، قد يتم اللجوء إلى الطريقة التى تتناغم بها المفاهيم المستخدمة مع بعضها البعض بطريقة منطقية ومتسقة ومتماسكة. 

فعند الجدال ضد مثل هذه النظريات، قد يُشير المرء إلى المنطق الخاطئ أو غير المتسق الموجود فى النظرية المنافسة. إذا كانت النظرية معيبة منطقيًا، فلا يمكن اعتباره انها تدخل فى منافسة جادة. ومع ذلك، فإن العديد من النظريات المتنافسة صحيحة منطقيًا ومتسقة ومتماسكة.  لذا، لا يبدو أن الاستناد إلى المنطق الداخلى لنظرية ما يعد أمراً حاسمًا إذا قمنا بالمقارنة بين نظريات متماسكة. فى الواقع، لا يوجد سبب للاعتقاد بأن نظامًا ما هو وصف دقيق للواقع لمجرد أنه صحيح داخليًا. العديد من الأعمال الروائية العظيمة صحيحة داخليًا، حتى لو كانت تلجأ إلى السحر. وبالمثل، تحتوى بعض نظريات المؤامرة على أنظمة منطقية صحيحة داخليًا ولكنها لا تعكس الواقع، لأنها من المرجح أن تستخدم مقدمات خاطئة. 

ولكن تخيل أننا لم نكن نملك طريقة للتحقق تجريبيًا من مقدمات نظرية المؤامرة أو دحضها. كيف يمكننا إذن تحديد أن النظرية كانت وصفًا غير دقيق للواقع؟ 

هذا يوازى مشكلة التحقق من مقدمات النظريات الميتافيزيقية الكبرى أو دحضها. إذا لم يكن من الممكن التحقق من مقدمات بعض النظريات الميتافيزيقية أو دحضها تجريبيًا أو تجريبيًا، فيبدو أننا مقيدين بتحليل صحتها المنطقية وتماسكها الداخلى، مما لا يجعلنا أفضل حالًا فى تحديد ما إذا كانت النظرية تصف الواقع بدقة.  

والنظرية السليمة منطقيًا والخالية من التناقضات، والتى لا تستند إلى البحث التجريبي أو التجربة، قد تكون مجرد وهمٍ عقلانى. لذلك، يجب أن نلجأ إلى التجربة والبحث التجريبى بالإضافة إلى الصحة المنطقية لنظرية معينة.

لقد عدنا هكذا إلى نقطة البداية. 

إذا كانت النظريات الميتافيزيقية المتنافسة سليمة منطقيًا، وتتوافق مع تجربتنا ومع العلم، فكيف لنا أن نختار؟ 

لا أعتقد أننا نستطيع، على الأقل ليس بطريقة منطقية أو موضوعية. قد يكون من المثير للاهتمام، أو الاصح، أو حتى الممتع، التفكير فى الطبيعة النهائية للواقع، لكن هناك الكثير من الشك فى إمكانية دعم أو تبرير أى نظرية ميتافيزيقية معينة أكثر من غيرها.

يقودنا هذا التشكك إلى اللاأدرية الميتافيزيقية، التى نستطيع من خلالها أن نستكشف مختلف الأطروحات الميتافيزيقية سعيًا وراء الحكمة، ولكن دون أن الزعم بوجود "الحقيقة" فى أى منها.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

الأنبياء - قصة قصيرة

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"