الإسلام بين العقل والروح والبحث عن المعنى

 أحسب أن الدين، أى دين، ليس فقط نصوصًا تُتلى، ولا هو طقوس يتم تأديتها بآلية جامدة، وإنما هو رحلة الإنسان فى البحث عن المعنى، إنه سعيه الدائم ليكون حرًّا أمام "الله"، مسؤولًا أمام نفسه، وأمام العالم. و"الإسلام"، فى جوهره الأصيل، لم يكن يومًا إلا هذا المعنى العظيم؛ نورًا يضىء العقول، ورحمة تسكن القلوب، وجمالًا يفيض على الوجود.

غير أننا فى زمننا هذا، فقدنا شيئًا من هذا النور، حين صارت الأصوات الأعلى هى أصوات التشدد، وصار العقل يتوه بين ركام الفتاوى، والروح تتخبط بين صغائر الأمور. ولست أظن أن الحل يكمن فى هدم التراث، ولا فى تقديسه، بل فى إحياء ذلك الحوار العميق بين العقل والروح، الذى صنع ذات يوم حضارة لم يعرف التاريخ أزهى منها.

هذه ليست سوى محاولة متواضعة، لنستعيد سوياً:

- نور العقل المعتزلى، الذى أراد أن يكون الإيمان فعل وعى لا تقليد.

- دفء الروح الصوفية، التى جعلت من الدين قصيدة حب كبرى.

وصوت الإصلاح الحديث، الذى حمله مفكرون وفلاسفة من أمثال "محمد عبده" و"الافغانى"، وتردد صداه فى كلمات "طه حسين"، حين دعا إلى أن يكون الدين نورًا للعقل لا قيدًا عليه.

الإسلام بين نور العقل وظلال التشدد:

ليست أزمة المسلمين اليوم أزمة فقر فى العقول فحسب، بل أزمة فيمن يوجّه هذه العقول. ولست أرى شيئًا أعجب من أن يظل دين جاء ليوقظ الإنسان من سباته، حبيسًا بين أيدى قوم يريدون له أن يعود إلى سبات أشدّ وأقسى.

 يبدو "الإسلام" فى صورته التى يعرضها هؤلاء، غريبًا بين أهله، كأنه ضيف لم يُحسن أحد استقباله، أو كنهر صافٍ ألقى الناس فيه ما كدّر صفوه.

أتأمل ما يقال على الشاشات ومواقع الإنترنت، فأرى أصواتًا تصرخ فى الناس: "افعلوا هذا، لا تفعلوا ذلك!" وكأن الدين سلسلة أوامر ونواهٍ جافة، لا حياة فيها ولا روح. فأين ذهب "الإسلام" الذى كان يفتح أبواب التفكير، ويحضّ على التأمل فى الكون، ويجعل من العقل ميزانًا للحق والباطل؟ وأين ذهب أولئك الذين آمنوا أن الدين رحمة قبل أن يكون أحكاماً، ونور قبل أن يكون نصًا جامدًا؟

إنهم يختزلون الدين فى عقول الناس بحيث يصبح قيدًا بعد أن جاء ليكون حرية! يُفرغونه من روحه حتى يغدو شكلاً بلا معنى! ونحن حين ننظر إلى حال المسلمين اليوم، نرى أن الساحة قد ضاقت حتى لم يبقَ فيها إلا صوت واحد، صوت يرتفع على الشاشات ومنابر الإنترنت، صوت التيار السلفى الوهابى الحنبلى، كأنه هو وحده صاحب الحق المطلق، وكأن الإسلام لم يعرف فى تاريخه إلا هذا الوجه المتجهم الجاف.

ولست أنكر أن لهذا التيار بعض الحسنات، فقد أعاد إلى الناس ذكر النصوص، وأحيا فيهم حرارة الإيمان، لكنه فى الوقت نفسه جمد العقول، وحبس الدين فى دائرة الأوامر والنواهى، حتى صار بعض أتباعه يفرضون ما لم يفرضه "الله" صراحة. إنهم يصنعون من بعض الأمور سياجا حديديا، يرفعونها إلى مقام الطقوس المقدسة، حتى ليبدو الدين عندهم كأنه قائم على تلك الجدران وحدها، لا على المعنى الذى يُحيى القلوب. والنص القرآنى – فى جلاله وسموه – لم يشأ أن يسجن الناس فى هيئة أو شكل ما، بل ترك لهم أن ينظروا بعين العقل إلى جوهر الهداية. فهل حان الوقت لأن نسأل: ألهذا نزل الوحى؟ ليُقيدنا بقيود الشكل، أم ليطلق أرواحنا نحو أفق أوسع، حيث  تلتقى الحرية بالعقل فى نور واحد؟

أحسب أن التاريخ لا يحتفظ إلا بأصوات الذين فكروا، أما الذين قلدوا فقد ذابوا فى غياهب النسيان. وفى تاريخ "الإسلام"، لم يظهر صوت فكرى أعمق ولا أكثر جرأة من صوت "المعتزلة". كانوا قومًا آمنوا أن العقل نعمة من الله، وأن الوحى إنما جاء ليضىء الطريق للعقل، لا ليطفئ نوره. ولست أعلم تيارًا دينيًا جرى عليه من الظلم ما جرى على هؤلاء، إذ حوربوا من كل اتجاه، حتى غدت أسماؤهم تُذكر وكأنها بدعة أو ضلالة، وهم فى الحقيقة طلائع الفكر الحر فى الإسلام.

نشأ "المعتزلة" فى "البصرة" فى أواخر القرن الأول الهجرى، حين وقف "واصل بن عطاء" ليقول برأى خالف فيه أستاذه "الحسن البصرى"، فاعتزل مجلسه. ومن تلك اللحظة، لم يكن "الاعتزال" مجرد موقف فردى، بل أصبح تيارًا فكريًا يريد أن يجعل من العقل حكمًا على النصوص، ويرفض التقليد الأعمى.

قالوا: الله عادل لا يظلم أحدًا، ولا يمكن أن يجبر عباده على المعاصى ثم يعذبهم بها.

قالوا: الإنسان حرّ مختار، وعليه أن يتحمل نتائج اختياره.

قالوا: الإيمان ليس قولًا باللسان فقط، بل هو فعل القلب والعقل معًا.

لقد سبقوا زمانهم حين قالوا إن الدين لا يتعارض مع العقل، بل هو دعوة إلى إعماله. ومن يقرأ قولهم اليوم، يظن أنهم يتحدثون بلسان الفلاسفة المعاصرين.

"الصوفية'… رحلة القلب إلى الله:

أحسب أن القلب البشرى لم يعرف طريقه إلى السماء إلا حين تعلّم كيف يُحب. ولست أعنى الحب الذى يربط الإنسان بأخر، بل ذلك الحب الأكبر، الذى يجعل الروح تتجاوز حدود الأرض، لتقف أمام الخالق وقفة العاشق أمام معشوقه. تلك هى "الصوفية"، أو كما أحب أن أسميها: رحلة القلب إلى الله.

"الصوفية' ليست مذهبًا فقهيًا، ولا هى نظرية فلسفية جامدة، بل هى تجربة حية، أشبه بقطرة ماء ذائبة فى بحر بلا شاطئ. من يدخل عالمهم، لا يسأل كم ركعة صلى، أو كم حديثًا حفظ، بل يسأل: هل طهرت قلبك من الغل، وهل تعلمتَ أن ترى "الله" فى كل وجه، وفى كل زهرة، وفى كل لحظة؟

كان "الحلاج"، حين صاح: "أنا الحق"، لا يدّعى الألوهية، بل كان فى لحظة ذوبان كامل، رأى فيها نفسه عدمًا أمام الوجود الإلهى. وكان "ابن عربى" حين قال: "لقد صار قلبى قابلاً كل صورة"، يعلن أن الروح أوسع من أى طائفة أو مذهب، وأن الحب هو الطريق إلى "الله"، لا الكراهية ولا التعصب.

الإسلام بين الشرق والغرب – من الله إلى God:

أحسب أن الكلمات ليست مجرد أصوات تُنطق أو حروف تُكتب، بل هى جسور تربط بين القلوب والعقول. فإذا ضاقت هذه الجسور أو تحجرت، ضاق معها الفهم، وتحوّل المعنى إلى حجاب. ولعل من أعجب ما أراه فى حاضرنا أن بعض المسلمين حين يتحدثون إلى الغرب يصرّون على استخدام كلمة "Allah"، كأنهم يريدون أن يقولوا إن لهم إلهًا خاصًا غير إله الإنسانية كلها.

وهل "لله" سبحانه اسم واحد؟ وهل يحتاج الإله إلى اسم كى نعرفه؟ إنما هى الأسماء التى اصطلحنا عليها، ولكن "الله" – فى جوهره – لا يُحصر فى لغة، ولا يحدّه لسان. فهل نُدرك أننا بهذه النزعة اللفظية نضع بيننا وبين العالم حاجزًا يوهم الآخرين أن "الإسلام" دين غريب، أو أن "الله" الذى نعبده غير الإله الذى يعرفه غيرنا؟

إن الإيمان أوسع من الكلمات، و"الله" سبحانه وتعالى لا يُعرف بالأسماء، بل يُعرف بالحق، والعدل، والرحمة. فليقل العربى "الله"، وليقل الإنجليزى "God"، فكلنا نتجه إلى الإله نفسه، وإن اختلفت الأصوات.

نحو نهضة عقلانية جديدة:

أحسب أن الأمم لا تنهض إلا إذا عرفت كيف توفّق بين تراثها وروح العصر. وأرى أن المسلمين اليوم يقفون بين طريقين: طريق يُصر على جرهم إلى الماضى بكل ما فيه من صراع وجمود، وطريق آخر لم يُمهد بعد، طريق العقل والحرية، الذى سار فيه ذات يوم رجال من أمثال "محمد عبده" و"الأفغانى" و"طه حسين"، وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين. الذين حاولوا أن يثبتوا أن "الإسلام" ليس حجرًا على الفكر، بل هو دعوة مفتوحة للتأمل والنهوض.

لقد جاء "الإسلام" ليحرر الإنسان من عبودية الأصنام، ولكن الأصنام تغيّرت. فبدل أن تكون حجرًا أو خشبًا، صارت أصنامًا فكرية، من نصوص جامدة، وفتاوى متكررة، وخطابات لا تعرف سوى لغة التحريم والخوف. 

ولو نظرنا إلى جوهر القرآن، لوجدناه خطابًا موجَّهًا إلى العقل: {أفلا تعقلون؟ أفلا يتفكرون؟}.

نحن بحاجة إلى نهضة عقلانية جديدة، تجمع بين نور العقل المعتزلى ودفء الروح الصوفية، بين روح الإصلاح وجرأة النقد.

نهضة تجعل من المسلم إنسانًا معاصرًا، قادرًا على مواجهة العالم بلا خوف ولا انغلاق، يعرف أن الدين ليس مجرد طقوس جامدة، بل تجربة إنسانية تهدف إلى تحقيق العدل والجمال معًا.

إن النهضة العقلانية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. فإما أن نستعيد روح الحرية التي جاء بها الوحى، أو نظل عالقين فى صراع لا ينتهى بين ماضٍ لا يعود، وحاضر لا يُفهم.

وفى الختام أحسب أننا إنما نحاول إيقاظ صوتٍ قديمٍ فى "الإسلام"، صوتٍ ظل يتردد بين الصدور ثم كاد يختفى تحت ركام الجمود والخوف. لقد أردنا أن نقول إن "الإسلام" ليس دين قوالب ثابتة، بل دين حركة وفكر وحرية. هو نور يُضىء العقل كما يُضىء القلب، ولا يعرف الفصل بين الروح والعقل إلا من لم يذق حلاوة الإيمان الحق.

ولست أزعم أن الطريق إلى هذه النهضة سهل؛ فالعقول التى أُغلقت قرونًا لا تفتح فى يوم، والقلوب التى أرهقتها لغة التحريم لن تُشفى بلمسة واحدة. لكن يكفينا أن نؤمن أن هناك دائمًا بذرة للعقلانية، وقطرة من نور الصوفية، وشعلة من روح الإصلاح، تنتظر من ينفخ فيها لتعود فتضىء.

إن مستقبل "الإسلام" لن يصنعه من يرفعون رايات الخوف، بل من يرفعون راية العقل والعدل والجمال. وما أشد حاجتنا اليوم إلى أن نقرأ تراثنا بعين ناقدة لا خائفة، بعقل باحث لا تابع، بقلب محب لا متعصب. فالإيمان كما قال "طه حسين"  ليس أن نُغلق عقولنا على ما ورثناه، بل أن نفتحها على ما يُضىء لنا طريق الحق.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

الأنبياء - قصة قصيرة

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"