من السبى البابلى إلى الصهيونية الحديثة: قراءة فى التاريخ اليهودى.

 إذا تابعت ما تقوله نشرات الأخبار فى الغرب، والبودكستات الغربية ستلاحظ خطاباً يركز على ذاكرة توراتية. فيتم استخدام تعبيرات من قبيل، «الهيكل الثانى»، «العودة بعد ألفى عام»، «أرض الميعاد»… وغيرها. 

وعلينا عند الاصطدام بمثل تلك التعبيرات أن نفرق ما بين التاريخ بوصفه مجالاً نقديًا قابلًا للدراسة والتدقيق، وما بين السرديات بوصفها أداة سياسية أو تعبيراً عن الهوية. فالفرق ما بين الأمرين شاسع للغاية. 

سنحاول هنا ان نقوم بعملية تفكيك للتاريخ التوراتى، ونحاول فهم مصطلحات من قبيل (السبى البابلى، الهيكل الثانى، تشكيل اليهودية الرابانية، ثم الحداثة والصهيونية)، 

قد يوضح ذلك الكيفية التى تُستخدم بها مثل هذه الذاكرة لتبرير الاستيطان غير الشرعى والعقاب الجماعى والمذابح والحصار على المدنيين — وهى الممارسات التى يَحظُرها صراحة القانون الدولى الإنسانى، مثل اتفاقية جنيف الرابعة، وقرارات مجلس الأمن؛ ونظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، وحظر التجويع والقانون الدولى العرفى.

وقبل أن نبدأ فى رسم الخط الزمنى للسردية اليهودية، علينا تقديم تعريفات للمصادر التى تقوم عليها هذه السردية، مثل "التناخ" و"السبى البابلى":

ما هو التناخ؟

"التناخ" (Tanakh) هو اسم مختصر لثلاثة أقسام من الكتاب المقدس العبرى: التوراة (Torah)، الأنبياء (Nevi'im)، والكتابات (Ketuvim). 

يمثل "التناخ" النص الدينى المركزى لليهودية، وهو مصدر الكثير من الرموز التاريخية والدينية، مثل فكرة "أرض الميعاد" وقصة الخروج من "مصر".

على حين يشير "السبى البابلى" إلى الفترة التى بدأها الملك البابلى "نبوخذ نصر الثانى" عام 586 ق.م، عندما دمر الهيكل الأول فى "القدس" ونفى العديد من اليهود إلى بابل. استمر السبى حتى 539 ق.م عندما سمح "كورش" الكبير ملك الفرس لليهود بالعودة إلى "القدس" وإعادة بناء الهيكل الثانى. 

رسخت هذه التجربة التاريخية فكرة العودة بعد المنفى كرمز خلاص.

لنبدأ اولا بالخط الزمنى:

• طبقاً للتناخ فإن المملكة الموحدة (داود/سليمان)  تقع تقريبًا فى القرن العاشر ق.م ، وهى فى كل الأحوال محل جدلٍ أثرى.

• ثم يحدث الانقسام إلى مملكة إسرائيل فى الشمال ومملكة يهوذا فى الجنوب.

• فى 722 ق.م: تسقط المملكة الشمالية بواسطة "آشور".

• فى 586 ق.م: تقوم "بابل" بهدم الهيكل الأول وتنفى نخب يهوذا — (السبى البابلى).

• فى 539 ق.م: يفتح "كورش" الفارسى "بابل" وتعود جماعات من اليهود.

ثم يبنى الهيكل الثانى (تقريبًا 516 ق.م)؛ ومن هنا يسمى العصر التالى بـ عصر الهيكل الثانى.

• بعد دخول "الإسكندر"، يقع حكمٌ هلّينى ثم سلالة الحشمونيين (164–63 ق.م).

• الرومان يدخلون 63 ق.م.

• فى 70 م: يدمر الرومان الهيكل الثانى بعد ثورة يهودية (تُسمّى أحيانًا «الحرب اليهودية الأولى»).

• فى 132–135 م: ثورة بركوخبا التى تنتهى بقمع شديد وتغييرات ديموجرافية/قانونية؛ ومن هنا تتبلور أكثر فكرة الشتات (الدياسبورا).

تُشكل  هذه الأحداث ما يطلقون عليه ذاكرة الفقد والعودة فى الخيال الدينى اليهودى، لكنها لا تُنتج تلقائيًا حقًا قانونيًا حديثًا بالسيادة أو بالاستيطان فى أراضٍ تم احتلالها بالقوة والإرهاب. وهنا يبدأ الفرق بين السردية اللاهوتية وبين القانون الدولى. حيث أن قرارت مجلس الأمن تؤكد «عدم شرعية» الاستيطان و«انعدام أى قيمة قانونية» له.

ثانيًا: من «ديانة المعبد» إلى اليهودية الرابّانية:

بعد عام 70 م لم تعد اليهودية «ديانة هيكل»، بل تم تحولها إلى المدارس الرابانية وذلك كالتالى:

المِشناة (حوالى 200 م) وهو تدوين للتقاليد الشفهية.

• التلمودان (الأورشليمى والبابلى، حوالى القرن السادس م تقريبًا) واللذان شكلا الهيكل الفقهى لليهودية فيما بعد .

تعودت هذه اليهودية التاريخية أن تعيش بلا سيادة إقليمية، وهو ما يذكرنا بأنّ التحول إلى دولة حقيقية على الأرض هو حدث معاصر أتى مع الصهيونية، وليس امتداداً طبيعياً لليهودية الرابّانية نفسها. كما نجد أن محكمة العدل الدولية تميز بوضوح بين السرديات العقائدية والقواعد الملزمة فى القانون الدولى الإنسانى).

ثالثًا: الصهيونية الحديثة:

وُلدت الصهيونية كحركة قومية حديثة  فى أوروبا القرن التاسع عشر (هرتزل، 1897). حيث استثمرت الحركة الموروث التوراتى لتحويله إلى مشروع سيادة إقليمية. ولاحقًا تمت إضافة المحرقة إلى  تلك السردية، باعتبارها دليلًا على «حاجة وجودية» لدولة يهودية آمنة.

لكن القانون الدولى ومن ضمنه اتفاقيات جنيف، ونظام روما، وقرارات مجلس الأمن، تضع قواعد صارمة: لا شرعية للاستيطان فى الأراضى المحتلة، ولا مشروعية للعقاب الجماعة أو التجويع أو الحصار الذى يفتك بالمدنيين.

رابعًا: أين يقف القانون الدولى الإنسانى بالضبط؟

1) الاستيطان فى الأراضى المحتلة.

• طبقاً لاتفاقية جنيف الرابعة «لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحّل أو تنقل جزءًا من سكانها المدنيين إلى الأراضى التى تحتلها». هذا النص يُستخدم باستمرار لتوصيف الاستيطان بوصفه مخالفة جسيمة.

• قرارات مجلس الأمن، تؤكد أن المستوطنات «لا تمتلك أى شرعية قانونية» وتشكل «انتهاكًا صارخًا بموجب القانون الدولى»، وتطالب بوقفها «فورًا وبشكل كامل».

• نظام روما (المحكمة الجنائية الدولية) تجرّم «أى نقل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من قِبل دولة الاحتلال، لأجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضى التى تحتلها»، ما يضع الاستيطان فى خانة جريمة الحرب.

• الرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية (2004) بشأن الجدار فى الأرض الفلسطينية المحتلة: خلصت إلى أنّ النظام الذى يرافق الجدار والمستوطنات ينتهك القانون الدولى.

2) العقاب الجماعى، والحصار، والتجويع.

• تحظر اتفاقية جنيف الرابعة، العقوبات الجماعية وأعمال الإرهاب ضد المدنيين. أى سياسة عقابية للفلسطينيين «كمجموعة» بسبب أفعال أفراد، تدخل فى نطاق الحظر الصريح.

• «يُحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب»، ويحظر تدمير أو تعطيل الأشياء الضرورية لبقائهم. حتى وإن لم تصادق دولة ما على البروتوكول، فالقواعد الأساسية هنا صارت عرفًا دوليًا ملزمًا.

• القانون الدولى العرفى (اللجنة الدولية للصليب الأحمر): تحظر التجويع، وتُلزم بالسماح بالمساعدة الإنسانية السريعة وغير المقيّدة، ولا يجوز تقييدها إلا لضرورات عسكرية قاهرة ومؤقتة.

3) ما الذى تعنيه هذه القواعد عمليًا؟

• أن منع دخول الغذاء/الماء/الدواء والوقود أو عرقلة إيصالها بشكلٍ يجعل بقاء المدنيين مهددًا، أو استهداف البنى الضرورية لبقاء السكان (مخازن غذاء، شبكات مياه، مزارع…) هى أفعال ترقى إلى أن تكون جريمة حرب (تجويع المدنيين، تدمير أماكن ضرورية للبقاء، عقوبات جماعية).

• ان التذرّع بخطاب توراتى/لاهوتى ( من قبيل «أرض موعودة»، «حرب مقدسة»، «عدو توراتى») لا يغيّر الطبيعة القانونية للأفعال: فالقانون الدولى الإنسانى محايد تجاه السرديات الدينية، لكنه صارم تجاه حماية المدنيين.

خامسًا: لماذا يصر العالم اليوم على التغاضى عن التجويع كسلاح للحرب؟

بالإضافة الى عمليات القتل الممنهج لعشرات الآلاف من المدنيين العزل، تتحدث كل التقارير الصحفية والحقوقية الآن عن تجويع منهجى للمدنيين فى "غزة"، وعن آلاف الوفيات بسبب الجوع وسوء التغذية، وعن إخضاع المعونات لنظام  مشدد يجعل الوصول إليها مميتًا فى أغلب، إن لم يكن كل الأحيان. يقع هذا كله فى صميم وصُلب المحظورات، ومع ذلك يتباطأ العالم فى تنفيذ 

القواعد التى يزعم أنها «عالمية».

إن محاولة تحويل أحداث تاريخية كالمحرقة إلى تفويض مفتوح لسياسة استيطانٍ دائم وحصارٍ وتجويعٍ للمدنيين ، بل وارتكاب محرقة اخرى ضد الفلسطينيين هو امر يخرق الحدود القانونية الدنيا التى توافق عليها العالم.

إن الاستيطان غير الشرعى، والعقاب الجماعى والتجويع محرّم، والمدنيين ليسوا شخصيات توراتية بل هم أناس محميون بقواعد ملزمة.

إن النصوص الدينية مثل "التناخ"، و "التوراة" وغيرها هى نصوص دينيه مؤسِّسة فى وجدان جماعة ما، لكنها ليست مصدرًا لشرعية قانونية فوق المدنيين وحقوقهم. وإذا كان ثمة معنى أخلاقى يمكن استخلاصه من مصطلحات مثل «السبى» و«الهدم» و«الشتات»، فهو منع تكرار منطق الاقتلاع والتجويع على آخرين — لا إعادة إنتاجه بلبوسٍ ديني جديد.

إن إعادة مركزية القانون الدولى الإنسانى ليست ترفًا أكاديميًا؛ إنها الحد الأدنى الذى من المفترض أن يحمى أطفال "غزة" — وكل المدنيين — من أن يتحولوا إلى مجرد قرابين على مذابح سرديات «الحق التاريخى» أيًا كان صاحبها.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

الأنبياء - قصة قصيرة

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"