"العدالة"
ما العدالة؟ إنه سؤال قديم قِدَم الفكر الإنسانى. سؤال شغل فكر الفلاسفة والشعراء والادباء والمشرّعين، واعتبرته البشرية خليط ما بين الحلم والحق والأمل المنشود.
العدالة ليست مجرد قاعدة قانونية، ولا سلوكًا مثالياً، بل هى فكرة ميتافيزيقية تلامس جوهر الإنسان وتطلعه إلى نظام يتجاوز الفوضى والعبث.
منذ أن تساءل "أفلاطون" فى "الجمهورية" عن معنى العدالة بالنسبة للفرد والدولة، والجهود مستمرة لفهم هذه القيمة الغامضة، التى ما نكاد نظن أننا أدركناها حتى نجدها قد فلتت من بين أيدينا كالماء. ولعلّ ما يجعلها صعبة التحديد هو كونها تتقاطع مع الأخلاق، والسياسة، والدين، والاقتصاد، بل وحتى مع الطبيعة البشرية نفسها.
سأحاول هنا تتبع خيوط هذا المفهوم المعقد، من جذوره الأولى فى الفكر القديم، إلى تجلياته الحديثة، مع إطلالة على الفرق بين العدالة والمساواة. سنستطلع رؤى الفلاسفة والأنبياء، لنصل إلى سؤال هام: هل يمكن للعدالة أن تتحقق حقًا، أم أنها مجرّد فكرة نبيلة نحملها كمن يحمل البوصلة فى صحراء لا توجد بها طرق من الأساس.
لعل فكرة العدالة فى الوعى الإنسانى قد بدأت بوصفها مرادفًا للانتظام الموجود فى الكون، كما نجد فى الحضارات القديمة كالمصرية والبابلية، حيث ارتبطت العدالة بالآلهة والنظام الكونى، بحيث كان الإخلال بها نوعًا من الخروج عن ناموس الوجود نفسه.
كانت العدالة آنذاك مرتبطة بالسلطة الإلهية، ومن ثم بالسلطة الزمنية التى تدّعى تمثيل الإله على الأرض، فصارت أداة للضبط أكثر منها مطلبًا للإنصاف.
ومع ظهور الفلسفة الإغريقية، اتخذ مفهوم العدالة طابعًا أكثر تجريدًا.
رأى "أفلاطون" فى العدالة تناغمًا بين أجزاء النفس البشرية، وبالتالى ينبغى أن ينعكس ذلك على بنية الدولة: كل عنصر يؤدى وظيفته دون أن يتعدى على غيره.
أما "أرسطو" فربط العدالة بالمساواة النسبية والإنصاف، مميزًا بين "العدالة التوزيعية" التى تعنى توزيع الموارد بحسب الاستحقاق، و"العدالة التصحيحية" التى تعيد التوازن عندما يقع ظلم أو انحراف.
فى القرون الوسطى، استعادت العدالة وجهها الدينى، سواء فى الفلسفة المسيحية أو الإسلامية. لكنها عند مفكرى الإسلام العقلانيين، كالمعتزلة، اكتسبت بُعدًا أخلاقيًا عقلانيًا، حيث اعتُبرت العدالة صفة لله. لا يمكن أن يكون "الله" ظالمًا، لأن العقل يحكم بأن الظلم قبيح. ومن هنا يتجلى البُعد العقلى للعدالة كمعيار مستقل عن السلطة.
مع بدايات العصر الحديث، خضعت العدالة لإعادة تعريف فى سياق الدولة الحديثة، وظهور مفهوم العقد الاجتماعى، وفكرة الحقوق الفردية. وقد ظهر هذا جلياً عند فلاسفة مثل "جون لوك"، و"روسو"، و"كانط".
صارت العدالة مرتبطة بالحريات، بالقانون، وبكرامة الإنسان كغاية لا وسيلة.
الفرق بين العدالة والمساواة:
كثيرًا ما يظن الناس أن العدالة والمساواة مترادفتان، لكن التأمل الفلسفى يكشف أن العلاقة بينهما أعقد مما تبدو فى الظاهر. فبينما تدعو المساواة إلى معاملة الجميع على قدم المساواة، فإن العدالة تقتضى – فى أحيان كثيرة – إلى التمييز المنصف بين الأفراد، تبعًا لاختلاف ظروفهم، واحتياجاتهم، ومسؤولياتهم.
إن إعطاء الجميع المقدار ذاته من نفس الشىء ليس بالضرورة عدلًا، تمامًا كما أن معاملة الأطفال والبالغين بالقواعد نفسها قد تكون ظلماً.
العدالة هى أن "نعطى كل ذى حق حقه"، لا أن نعطى الجميع المقدار ذاته. وهذا الأمر هو ما يتجلى فى "العدالة التوزيعية"، حيث لا يكون الهدف هو التماثل، بل التناسب.
من جهة أخرى فإن المساواة تُعلى من قيمة الكرامة الإنسانية بشكلٍ عام، بحيث تجعل الجميع سواسية أمام القانون. وهذا هو حجر الزاوية فى المجتمعات الديمقراطية الحديثة. لكن العدالة، بمعناها الأعمق، تسعى إلى إزالة العوائق البنيوية التى تحول المساواة الى مجرد شكل دون مضمون.
فهى على سبيل المثال تتسأل، لماذا لا يمتلك الجميع نفس الفرص حتى لو خضعوا لنفس القواعد؟
هكذا يتضح أن العدالة قد تتطلب المساواة أحيانًا، وقد تتطلب تفاوتًا فى أحيان أخرى، لكن فى كلا الحالتين، تظل العدالة هى المعيار الأعلى، والمبدأ الحاكم على كل انواع التوزيع أو التنظيم.
العدالة بين الدين والفلسفة:
منذ البداية، اعتبر الدين أن العدالة هى قيمة مركزية، وليست مجرد مسألة سلوك، لانها جزء من صميم العلاقة بين الإنسان والله.
فى الإسلام، مثلًا، يُوصف الله بأنه "العدل"، إنه سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، ويتم إعتبار العدل من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾.
وفى المسيحية، نجد أن العدالة ليست فقط مطلبًا أخلاقيًا بل تعبير عن محبة الله وحق الإنسان فى الخلاص.
لكن هل العدالة تنبع فقط من الدين؟ أم أنها أيضًا مطلب عقلى مستقل؟
هنا يبرز دور الفلسفة. فقد رأت الفلسفة منذ "أفلاطون" أن العدالة ليست هبة من الآلهة، بل فضيلة إنسانية يمكن للعقل أن يدركها بنفسه. وقد بلغ هذا التصور ذروته عند "المعتزلة"، الذين جمعوا بين الإيمان والعقل، وقالوا إن العدل واجب على الله نفسه، ليس لأنه مكره عليه، بل لأن العقل يُدرك قبح الظلم وحسن العدل، وبالتالى فإن الإله الكامل لا يمكن أن يفعل قبيحًا.
فى المقابل، وعند بعض الفقهاء والمتكلمين الأشاعرة، كانت العدالة مرتبطة بإرادة الله، فما يفعله الله هو العدل بحكم كونه الفاعل، لا بحكم معايير عقلية مستقلة.
هذا التوتر بين "العدل العقلى" و"العدل الإلهى" استمر أيضًا فى الفلسفة الغربية، كما نجد عند "كانط"، الذى رأى أن العدالة ترتكز على العقل العملى، لا على الرغبة أو العاطفة، وأنه يجب معاملة الإنسان كغاية لا كوسيلة.
أما فى الفلسفة السياسية الحديثة، فبرزت محاولة للتوفيق ما بين الفرد والمجتمع فى تصوّر العدالة، بحيث ترتكز إلى مبادئ تعاقدية تجعل من العدالة أساسًا لبنية المجتمع، تتجاوز الأديان والأعراق.
وهكذا نرى أن العدالة كانت دائمًا تقع فى المنتصف: ما بين المقدس والعقلانى، بين المطلق والنسبى، بين ما هو واجب دينى وما هو مطلوب إنسانى، لكنها ظلت دائمًا نقطة التقاء كبرى بين الفلسفة والدين فى سعى الإنسان نحو المعنى والحق.
في عالمنا المعاصر، أصبحت العدالة شعارًا مرفوعًا فى كل مكان: فى الدساتير، وإعلانات حقوق الإنسان، والخطابات السياسية. لكنها – فى كثير من الأحيان – تبقى مجرد كلمات لامعة يتم استخدامها لتزيين واقع بعيد كل البعد عنها. فالهوة بين المثال المرجو والواقع، بين التنظير والتطبيق، لا تزال عميقة للغاية.
يعيش العالم اليوم تحت عوامل ظلم عديدة ومتراكبة: سواء اقتصادية، أو عرقية، أو بيئية، أو جنسيه.
ففى حين يتحدّث العالم عن "العدالة الاجتماعية"، نجد أن الثروة تتركّز فى أيدى قلة من البشر، ويتم ترك الأغلبية على هامش الحاجة. يتم سن القوانين باسم العدالة، لكن كثيرًا ما يتم تطبيقها بانتقائية تُكرّس من الامتيازات، ولا تزيلها. يتم رفع لافتات "العدالة البيئية"، بينما تدفع الشعوب الأفقر ثمن تلوث لم تشارك هى فيه.
فى الديمقراطيات الليبرالية، يُنظر إلى العدالة من زاوية الحقوق والحريات، لكن يظل التحدى الأعمق فى كيفية تحويل تلك الحقوق إلى واقع ملموس، وليس مجرد نصوص مكتوبة.
أما فى الأنظمة السلطوية، فغالبًا ما يتم اختزال العدالة فيما يطلق عليه "الأمن والاستقرار"، ويتم إقصاء حق النقد والاعتراض الذى من المفترض أن يحمى الضعفاء من سطوة الأقوياء.
ويظل السؤال هو، كيف نضمن عدالة حقيقية لا تتحول الى امتياز ولا مجاملة، بل تكون أساسًا للعيش المشترك؟
فالعدالة اليوم لم تعد مجرد مسألة فلسفية أو قانونية، بل صارت ضرورة وجودية فى هذا العالم المهدد بانهيارات شاملة.
الخلاصة:
قد تكون العدالة من أعظم الفضائل التى حاولت الإنسانية تحقيقها دون أن تدركها تمامًا. فهى ليست مجرد غايةً مرجوة، بل لعلها أفقًا يُضىء لنا الطريق ويمنعنا من الاستسلام للفوضى واللامبالاة. إن الفجوة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، هو ما يمنح للعدالة معناها؛ فهى لا تُقاس فقط بما تحقّق، بل بما يجب أن يتحقّق.
العدالة ليست حالة ساكنة، بل هى سعى مستمر نحو الإنصاف، نحو احترام الكرامة، نحو الاعتراف بالآخر. إنها دافع دائم على مقاومة الظلم، فى أنفسنا أولًا، قبل الآخرين.
وقد يكمن سر جاذبيتها، فى أنها لا تُمنَح، بل تُنتَزع فى كل لحظة وعبر كل جيل، ومع كل موقف.
لقد علّمنا التاريخ أن العدالة لا يتم اهداءها، بل تُنتزع، وأنها إن لم تقترن بالحكمة والشجاعة، تتحول إلى قسوة تحت غطاء النظام، أو إلى مساواة زائفة لا ترى الفروق، أو إلى شعار سياسى يُستَخدم لخدمة مصالح ضيقة.
فى نهاية المطاف، "العدالة" هى تلك البوصلة الداخلية التى يمكنك أن تقيس بها مدى انسجامك مع فكرة الإنسانية، ليس فقط باعتبارك مواطن أو فرد، بل ككائن يستحق الحياة.
ح. فرجانى
تعليقات