الذكاء ليس كافيًا!

لطالما راود الفكر الإنسانى سؤال بسيط فى ظاهره، عميق فى جوهره: لماذا تتقدم بعض الأمم بينما تظل أخرى تراوح مكانها؟ وإذا كان الذكاء قدرة بيولوجية تكاد تكون متساوية بين البشر، فلماذا إذًا لا تتساوى الحضارات فى إبداعها وإنتاجها ونموها؟

ليست المشكلة فى الذكاء كقدرة عقلية، بل فى ما يفعله البشر بهذا الذكاء. فالأدمغة متقاربة، لكن ما تصنعه الشعوب من عادات، ومؤسسات، وأخلاق، وقيم، ومناهج تربية وتفكير—كل ذلك يصنع ما يمكن أن نسميه "الذكاء المجتمعى" أو "الذكاء الحضارى"، وهو العامل الحاسم فى الفارق بين الأمم.

إن الثقافة التى تقوم بإنتاج العقل المتسائل، والتخصص الذى يقوم بانضاج الخبرات والشغف الذى يمنح العمل روحًا مميزة... كل ذلك ليس ترفًا، بل هو جوهر التحوّل من مجرد التواجد، إلى الفعل والتأثير.

سنحاول فى هذا المقال، رسم المشهد من جديد: دعونا نتأمل تطور الذكاء البشرى لا بوصفه قدرة طبيعية فقط، بل بوصفه إنجازًا ثقافياً اجتماعيًا تراكم عبر قرون من التعاون والتخصص والنمو الثقافى. كما سنتوقف عند نقطة تميل العلوم الحديثة أحيانًا لتجاهلها: وهى هؤلاء القلة المحظوظة التى يعمل أفرادها بشغف، والذين رغم صمتهم، قد يكونوا الوقود الحقيقى للحضارة.

الثقافة حاضنة التقدم:

حين نتحدث عن "الثقافة"، كثيرًا ما ينصرف الذهن إلى الكتب، والمسرح، والفنون، والآداب. غير أن المعنى الأعمق والأوسع للثقافة يتجاوز ذلك بكثير؛ إنها الطريقة التى يفكر بها مجتمع ما، الطريقة التى ينظر بها إلى العمل، إلى الزمن، إلى السلطة، إلى التعليم، إلى الفشل، بل إلى الحياة ذاتها. إنها "الهواء" الذى يتنفسه الجميع دون أن يشعروا، والعدسة التى يرون بها العالم دون أن يعلموا أنها هناك.

الثقافة ليست زينة، بل هى البنية التحتية غير المرئية التى تحدد ما إذا كانت فكرة ما ستُولد، وتكبر، وإذا كان لها أن تُثمر وتنتج. 

أما فى تلك المجتمعات التى يتم فيه احتقار التجربة، توأد الإبتكارات فى مهدها. فى تلك المجتمعات  التى تقدّس النقل على العقل، تختنق الأسئلة. وفى الثقافات تقوم بمكافأة الطاعة أكثر من المبادرة، تُقتل الروح التى تصنع التغيير.

هذا ما يؤكده تاريخ الأمم . لم تكن النهضة اليونانية ممكنة لولا مناخ الحرية الفكرية فى بعض مدنها، حين سُمح للفلاسفة أن يشككوا فى كل شىء. ولم تكن الحضارة الإسلامية لتزدهر فى العصر العباسى لولا مناخ التسامح النسبى والتقدير العميق للعلم والمترجمين والمجادلين. ولم تنهض أوروبا الحديثة إلا بعد أن تخلخلت ثقافة الخضوع المطلق للكنيسة، وتبدلت بقيم جديدة تُعلى من قيمة الفرد والعقل والتجربة.

الثقافة ليست قدرًا، بل هى اختيار طويل المدى. إنها مجتمع يُعلّم أبناءه التفكير لا الحفظ، ويُكرّم المعلم لا المذيع، ويحتفى بالسؤال لا الإجابة الجاهزة، هو مجتمع يمهد الطريق لنفسه للتقدم.

تقسيم العمل، الثورة الخفية:

منذ أن بدأ الإنسان الأول يصنع أدواته بيديه، بدأت أولى بذور التخصص. وحين بدأت القبائل تتقاسم المهام بين من يجمعون الطعام ومن يصنعون الأدوات، وُلد ما يمكن تسميته بأول شكل بدائى من تقسيم العمل. غير أن الثورة الحقيقية جاءت لاحقًا، عندما أدرك البشر أن التخصص لا يقوم بتسريع الإنتاج فقط، بل يقوم بتنمية الذكاء.

فالعقل حين يركّز على مجال واحد، يبدأ فى اكتشاف تعقيداته، وطبقاته، وبالتالى تطوير أدواته. وهكذا تحولت البشرية، ببطء ولكن بثبات، من مجتمعات تقتات على الطبيعة إلى مجتمعات تُعيد تشكيل الطبيعة ذاتها.

لقد أتاح تقسيم العمل ظهور العلماء، والمهندسين، والفنانين، والنجارين، والمزارعين، والأطباء... وكل منهم أسهم فى بناء عالم أكثر تعقيدًا، وأكثر قدرة على حل مشكلاته. إن ما ميّز الإنسان عن باقى الكائنات ليست فقط قدرته على التفكير، بل قدرته على توزيع هذا التفكير.

لكن هذا التقدّم لم يكن خطًا مستقيمًا على الدوام. ففى لحظات معينة من التاريخ، تراجعت الحضارات حين عجزت عن الحفاظ على هذا التخصص، أو حين كبلته السلطة، أو حين تم احتقار المعرفة الحرّة. واليوم، ومع تصاعد التيارات الأوتوقراطية حتى فى قلب العالم الغربى—الذى لطالما افتخر بتقاليد الديمقراطية، وتعدد الآراء، وحرية التخصص والتعبير—يتم طرح أسئلة مقلقة حول مستقبل هذا النظام الدقيق الذى أتاح للبشرية أن ترتقى.

فالسلطة المطلقة، وإن بدت فعالة على المدى القصير، إلا إنها تهدد بتجفيف ينابيع الإبداع، وتخنق آليات النقد والمساءلة، وتُحيل التخصص إلى طاعة عمياء. وإذا حدث ذلك، فإن الحضارة التى تم بناؤها على تقسيم العمل قد يتم هدمها بتلك الأوامر الواحدة، واللغة الواحدة، والصوت الواحد.

الشغف، القوة الخفية وراء الحضارة:

ليس كل من يعمل، يحب ما يعمل. وليس كل من يتقن صنعة، يفعلها بشغف. ففى عالم تحكمه الضرورات، يمضى معظم الناس حياتهم بين وظائف تُدر عليهم لقمة العيش، لكنها لا تُشعل فى أرواحهم شرارة الحياة. ومع ذلك، تبقى هناك أقلية صغيرة، أشبه بالاستثناء، أولئك الذين يعملون فيما يحبون، والذين يجدون فى عملهم لذّة لا تقل عن لذة الإبداع ذاته.

الشغف ليس مجرد زينة داخلية، بل هو الوقود السرى للتفوق والابتكار والاستمرار. الإنسان الذى يحب عمله لا يكتفى بإنجازه، بل يسعى إلى تحسينه، وتوسيعه، وتأمله، وتطوير أدواته. وحين يكون الشغف مقرونًا بالتخصص، نكون أمام معجزة صغيرة: عقل يعرف، وقلب يريد، ويد تُنفّذ.

هذه الفئة المحظوظة—التى جمعت بين ما تُجيده وما تُحبه—غالبًا ما تكون الأسبق فى الاكتشاف، والأشدّ صبرًا أمام التحديات، والأكثر قدرة على التجاوز. وقد أظهرت الدراسات أن الرضا العميق عن العمل لا يرتبط فقط بمستوى الدخل أو عدد ساعات الراحة، بل له علاقة مباشرة بمؤشرات السعادة النفسية، بل وبطول العمر.

ربما لهذا السبب، حين ننظر فى سير العباقرة والمبدعين، نجد خيطًا رفيعًا يربط بينهم جميعًا: ذلك الحب العميق لما يفعلونه. لم يكونوا يعملون تحت ضغط، بل كانوا يعملون لأنهم لا يستطيعون التوقف عن العمل.

أما المجتمعات التى لا تقوم بتقدير الشغف، والتى تُعامل الإنسان كترس فى آلة، لا تُكافئ على الإبداع ولا تُصغى لصوت القلب، فإنها تخسر أغلى ما تملك: الروح الحقيقية للحضارة.

الذكاء الجمعى مقابل الذكاء الفردى:

فى روايات التاريخ التقليدية، نميل إلى تمجيد الأفراد: "نيوتن"، "أينشتاين"، "ابن الهيثم"، "طه حسين"... وكأن الحضارات تُبنى على أكتاف العباقرة وحدهم. لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فكل عبقرى هو ثمرة بيئة، وكل فكرة عظيمة لا تُولد فى فراغ، بل فى فضاء مشترك من الأسئلة والتجريب والاحتمالات.

الذكاء الفردى مهم، لكنه لا يكفى. الحضارات تتقدم حين يُصبح الذكاء صفة جمعية، حين تُصبح الأسئلة مشاعة، والتجريب حقًا جماعيًا، والمعرفة قابلة للتداول والنقد والتطوير. 

ليس المهم فقط أن يوجد من "يعرف"، بل أن يوجد من "يسأل"، ومن "ينقل"، ومن "يفهم"، ومن "يطوّر".

إن المؤسسات العلمية الحديثة، على سبيل المثال، لا تقوم على عبقرية فرد واحد، بل على شبكة مترابطة من الباحثين، والمحررين، والمختبرات، والمراجعين، والممولين، والمجلات، والجامعات. إنها عقل جمعى يُشبه خلايا المخ، لا تعمل واحدة منها وحدها، لكنها مجتمعة تنتج الوعى والمعرفة.

وفى مقابل ذلك، فإن المجتمعات التى تُراهن فقط على الأفراد، دون أن تبنى نظمًا تشجع على التعاون، والمشاركة، والانفتاح، تُخاطر بأن يبقى ذكاؤها حبيس عقول لا يسمع بها أحد، أو يُكبلها الخوف، أو لا تجد من يفهم لغتها.

الكسل البنيوى، حين تعيق الثقافة التقدم:

ليست كل العقبات خارجية. أحيانًا، تكون المشكلة فى "عقل المجتمع" ذاته. هناك مجتمعات تبدو وكأنها تُعيد إنتاج نفسها بلا توقف، بنفس العادات، بنفس أنماط التفكير، بنفس الهواجس والمخاوف. وهنا لا يكون الكسل شخصيًا، بل بنيويًا. الكسل البنيوى لا يعنى أن الناس لا يعملون، بل أنهم يعملون دون أن يُفكّروا فى لماذا يعملون، أو كيف يمكن أن يعملوا بشكل أفضل. إنه حالة من التكرار الأعمى، من الانقياد للعادى والموروث، من الخوف من التغيير، ومن ازدراء المختلف.

هذا الكسل يجعل من الصعب جدًا أن يظهر شغف، أو أن يطور تقسيم عمل حقيقى. فيتم توزيع الأدوار بالوراثة أو بالعرف، لا بالكفاءة أو الرغبة. وتعتبر المبادرة خروجًا على النظام، لا بدايةً لنظام جديد.

النتيجة؟ مجتمعات تملك الذكاء الكامن، لكنها تُغلق عليه الأبواب. تملك الموارد، لكنها تُهدرها فى الدفاع عن أنماط ميتة. تملك الأمل، لكنها تخشى أن تحلم به.

النموذج المثالى للمستقبل:

لا توجد وصفة سحرية للتقدم، لكن هناك ملامح واضحة لما يمكن أن يشكّل مجتمعًا ذكيًا وسعيدًا ومتقدمًا. فحين تتوفر الحرية، ويتم إحترام الكرامة، واحتضان الشغف، ويُعاد توزيع العمل وفقًا للمواهب لا الألقاب، حينها تبدأ الحياة فى أخذ شكلها الأكثر إنسانية.

هذا النموذج المثالى ليس "يوتوبيا" حالمة، بل هو ممكن إذا تغيّر فهمنا لما تعنيه "الثقافة". إنها ليست رفاهية، بل بنية تحتية عقلية. ومتى أصبحت الثقافة مشجّعة على السؤال، على المحاولة، على الخطأ، على التجريب، على الاختلاف، فإنها تفتح أبواب المستقبل.

فى مثل هذا النموذج، يصبح الطفل فضوليًا لا خائفًا، ويكون المعلم مصدر إلهام لا مصدر خوف، ويكون العمل امتدادًا للشغف لا عقوبة. 

التخصص لا يعنى ضيق الأفق، بل يعنى التعمّق. والتعاون لا يعنى الخضوع، بل التلاقى. إنه عالم يُعاد فيه تعريف النجاح، لا على أساس الثروة فقط، بل على أساس التأثير، والإبداع، والرضا الداخلى. عالم تُصبح فيه المؤسسات منصات للنمو لا للحبس، وتُصبح فيه الدولة راعية للذكاء، لا وصية على العقول.

وإذا كنا نعيش فى زمن تُهدد فيه الأوتوقراطية بعض أنبل منجزات الحضارة، ويُستبدَل فيه الشغف بالامتثال، والتنوع بالنمطية، فإن استعادة التقدم تقتضى أن نُعيد النظر لا فقط فى المؤسسات، بل فى القيم الثقافية ذاتها.

المستقبل لن يُمنح، بل يُصنع. لا بالذكاء وحده، بل بثقافة تحتضنه، وبمجتمع يقسم العمل بعدل، ويصغى لصوت الشغف، ويؤمن أن كل عقل يُولد حاملاً احتمال المعجزة.

وربما، فقط ربما، إن سرنا فى هذا الاتجاه، لا نكون فقط قد حافظنا على منجزات الحضارة، بل نكون قد هيأنا التربة لطفرة إنسانية جديدة... أكثر عدلاً، وذكاءً، وبهجةً.

حازم فرجانى 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

الأنبياء - قصة قصيرة

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"