"غزة": جريمة القرن التى رأتها الإنسانية بأعين مفتوحة.
(مقال تمت كتابته عام 2105 بعد 80 عام من الآن)
فى مطلع القرن الحادى والعشرين، حين كان العالم يتسابق نحو الذكاء الصناعى، ويغزو المريخ بالمجسات والأقمار، ويصنع طائرات بدون طيار، ويستنسخ الأعضاء البشرية، كانت هناك بقعة صغيرة على الأرض تعود إلى عصورٍ لم يعد أحد يتحدث عنها إلا فى كتب المآسى.
"غزة".
قطاع محاصر، ضيق المساحة، مكتظ بالبشر، يخنقه الحصار منذ سنوات طويلة. بدأت القصة قديمًا، منذ الاحتلال والتهجير فى منتصف القرن العشرين، لكنها وصلت إلى ذروتها بعد أكتوبر 2023، حين قررت إسرائيل تنفيذ حصار كامل، وقطع الماء والكهرباء عن مليونى إنسان.
كان عام 2023 عامًا فاصلًا. كانت الإنسانية ترتكب جريمة لم تعرف مثلها فى وضوحها وعلنيتها.
كانت الجريمة تبث مباشرة على الهواء.
لم تكن هناك أسرار.
كل شىء كان موثقًا بالصوت والصورة.
أطفال تحولت أجسادهم إلى هياكل عظمية من شدة الجوع.
مرضى يموتون لأن الدواء لا يصل.
مدنيون يُقصفون فى مخيمات اللاجئين، بلا مكان يهربون إليه.
بدءاً من ذلك العام، قررت القوى المسيطرة أن تُنفّذ عملية إبادة ببطء. ليس بالضربة القاضية، بل بالخنق التدريجى.
بدأ الأمر تحت شعار "الحق فى الدفاع عن النفس"، وانتهى إلى جريمة إبادة لم يعرف القرن الحادى والعشرون مثلها، لا فى وحشيتها ولا فى وضوحها.
تلك كانت حرب إبادة معلنة.
على عكس ما جرى فى مذابح التاريخ الكبرى، لم تكن المجازر تجرى فى "غزة" سرًا. لم تُرتكب تحت ظلال الليل أو خلف أسوار معسكرات مغلقة كما حدث فى "أوروبا" أربعينيات القرن العشرين.
بل حدثت تحت الشمس، أمام الكاميرات، وعلى الهواء مباشرة.
كان العالم يرى الأطفال الذين يموتون جوعًا. يرى الناس وهم يبحثون عن أى شىء صالح للأكل فى أكوام الركام.
يرى أجسادًا صغيرة تتحول إلى هياكل عظمية، عظام بارزة تحت جلد شفاف.
وكان يرى أيضًا الطائرات وهى تلقى القنابل على مخيمات اللاجئين.
ويرى الأمهات وهن يبحثن عن بقايا أبنائهن بين الأنقاض.
صمت هو شريك فى الجريمة.
لقد كانت الإنسانية كلها هناك، حاضرة.
لكنها لم تتدخل.
من الوثائق التى بين أيدينا اليوم، بعد مرور أكثر من ثمانين عامًا، نعرف أن مراكز القرار فى العالم كانت تعرف بالتفصيل ما يجرى.
كانت تقارير الأمم المتحدة تصدر يومًا بيوم.
وكانت شاشات الإعلام تبث الصور لحظة بلحظة.
ومع ذلك، صمت الجميع، أو اكتفى بإصدار بيانات قلق باهتة، لا تسمن ولا تغنى عن دم.
لقد قال أحد مؤرخى القرن العشرين عن معسكرات النازية:
"لو أن العالم تحرك قبل أن تتحول الأفران إلى مصانع موت، ربما كانت بعض الأرواح ستنجو."
لكن فى "غزة"، ربما لم تكن هناك أفران، ولكن حصار، وقصف، وتجويع.
وكانت البشرية هذه المرة تعرف، وتسمع، وترى، ومع ذلك وقفت تتفرج.
لماذا؟
لماذا صمت العالم؟
لماذا لم يوقف أحد هذا الشلال من الدم؟
ربما لأن الفلسطينيين لم يكونوا جزءًا من معسكرات القوى الكبرى.
ربما لأن صورتهم فى الإعلام شوهت لسنوات طويلة حتى بات البعض يراهم مجرد "أرقام فى نشرات الأخبار".
وربما لأن الزمن الذى وقعت فيه هذه الجريمة كان زمنًا بارد الضمير، زمنًا أعطى الأولوية للأسواق والأسهم وقوة الشركات على حساب قيم العدالة.
إنها ذاكرة العار.
اليوم، ونحن فى عام 2105، ننظر إلى صور "غزة" كما ننظر إلى صور سابقة لها فى التاريخ:
صور أطفال المجاعات فى القرن الماض.
صور سجون النازية.
صور مذابح رواندا.
صور صبرا وشاتيلا.
لكن الفرق أن مأساة "غزة" جرت ونحن فى عصر كانت فيه الحقيقة متاحة بضغطة زر.
لم يكن هناك نقص فى المعلومات، بل نقص فى الرحمة، نقص فى الإنسانية.
إنها وصمة لن تُمحى.
سيظل ما جرى فى "غزة" فى العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين وصمة فى جبين الإنسانية.
وصمة تذكّر الأجيال القادمة أن التقدم التكنولوجى لا يعنى التقدم الأخلاقى.
وأن حضارة تملك القدرة على وقف القتل لكنها لا تفعل، لا تختلف كثيرًا عن تلك التى تقوم بارتكاب الجريمة بيدها.
التاريخ سجل، والصفحة كتبت.
وستظل "غزة"، للأبد، جرحًا مفتوحًا فى ضمير العالم.
تعليقات