"يوسيفوس": المؤرخ الشهير وربما الوحيد لبدايات المسيحية
يعد "فلافيوس يوسيفوس" (37 – نحو 100 م) واحدًا من أكثر الأسماء تأثيرًا فى دراسة تاريخ اليهودية خلال الحقبة الرومانية، بل ويمكن القول إنه من بين الشهود القلائل الذين نقلوا إلينا صورة حيّة عن المجتمع اليهودى فى القرن الأول الميلادى. كان "يوسيفوس"، الذى وُلد باسم "يوسف بن متّيا" لعائلة كهنوتية مرموقة فى "القدس"، رجلًا يجمع بين ذكاء المؤرخ ونزعة رجل الدولة. فقد عاش فى زمن التحولات الكبرى: انهيار المملكة اليهودية، تدمير الهيكل الثانى على يد الرومان، وصعود المسيحية كتيار جديد داخل الأوساط اليهودية.
ما يجعل أعماله ذات قيمة استثنائية هو أنها تمثل نظرة فريدة لفهم تلك الحقبة الهامة من التاريخ الدينى والسياسى للمنطقة، حيث يتقاطع تاريخ اليهودية مع بدايات المسيحية وبروز ملامح الأديان الإبراهيمية كما نعرفها اليوم.
حياته ونشأته:
وُلد "يوسيفوس" فى القدس عام 37 م لعائلة يهودية ذات مكانة دينية واجتماعية رفيعة؛ فوالده كان من سلالة كهنوتية، بينما تنحدر والدته من سلالة الحشمونيين الذين حكموا اليهود فى القرن الثانى قبل الميلاد. منذ صغره أظهر نبوغًا فى دراسة التوراة والشريعة اليهودية، حتى صار فى سن الرابعة عشرة محل إعجاب علماء عصره. وفى شبابه انفتح على مختلف الفرق الدينية اليهودية – الفريسيين، الصدوقيين، والإسينيين – قبل أن يميل إلى منهج الفريسيين، الذين كانوا يمزجون بين الشريعة والدبلوماسية السياسية. هذا الوعى الدينى والسياسى المبكر انعكس لاحقًا فى كتاباته، حيث حاول أن يقدم رواية متماسكة عن تاريخ اليهود لا تخلو من بعد دفاعى أمام العالم الرومانى.
أسره وتحوله إلى مؤرخ:
خلال الثورة اليهودية (66–73 م) كان "يوسيفوس" قائدًا عسكريًا فى "الجليل"، لكن حصاره فى قلعة يوطفات وانكسار قواته دفعه إلى الاستسلام للرومان. ووفقًا للروايات، فقد تنبأ "يوسيفوس" بأن الجنرال الرومانى "فسبازيان" سيصبح إمبراطورًا، الأمر الذى أثار دهشة الأخير وضمن له البقاء على قيد الحياة. بعد صعود "فسبازيان" بالفعل إلى عرش الإمبراطورية، نال "يوسيفوس" حريته وحصل على اسم العائلة الإمبراطورية "فلافيوس". عندها تحول من محارب يهودى إلى مؤرخ يخدم "روما"، مدفوعًا برغبة فى توثيق تاريخ شعبه وفى الوقت نفسه تبرئة صورته أمام هذه القوة العظمى التى هزمتهم.
أهم أعماله:
ترك "يوسيفوس" إرثًا أدبيًا وتاريخيًا بالغ الأهمية، أبرزُه كتابان أساسيان يُعتبران المصدر الأهم لفهم تاريخ اليهود في الفترة الرومانية.
- حروب اليهود (The Jewish War)، وهو عمل ضخم في سبعة مجلدات كتبه بين عامى 75 و79 م، يروى فيه تاريخ اليهود منذ عهد المكابيين وحتى سقوط "القدس" وتدمير الهيكل الثانى عام 70 م. يمتاز الكتاب بدقة الوصف ورواية الأحداث العسكرية والسياسية، لكنه فى الوقت نفسه يحمل رؤية نقدية لزعماء الثورة اليهودية الذين اعتبرهم مسؤولين عن الكارثة.
- آثار اليهود (Antiquities of the Jews)، ويعد أكبر مؤلفاته، إذ يقع فى عشرين كتابًا كتبها حوالى عام 93 م. يتناول هذا العمل تاريخ اليهود منذ الخليقة وحتى بداية الثورة اليهودية، جامعًا بين السرد التوراتى والتفسير التاريخى، وهذا العمل موجه بشكلٍ أساسى إلى القارئ اليونانى-الرومانى لتعريفه بأصول الديانة اليهودية.
كما أنه ألّف نصوصًا أخرى أقل شهرة مثل كتاب "الحياة" (Vita) وهو سيرته الذاتية التى كتبها للدفاع عن نفسه أمام الاتهامات، وكتاب "ضد أبيون" (Against Apion) الذى ردّ فيه على الاتهامات والتحيزات التى طالت الدين من قبل الكتّاب الوثنيين.
تأثيره على فهم اليهودية والمسيحية:
يمكن القول بأن أعمال "يوسيفوس" كانت جسرًا مهمًا لفهم هذه المنطقة فى القرن الأول الميلادى، خاصة لدى المسيحيين الأوائل الذين وجدوا فى كتاباته شهادة تاريخية على وقائع الإنجيل. فبعض نصوصه، خصوصًا ما يعرف بـ "الفقرة الفلاوية" (Testimonium Flavianum) فى كتاب "آثار اليهود"، تذكر "يسوع" بشكل غير مباشر بوصفه "حكيمًا عجيبًا" أُعدم فى زمن "بيلاطس" البنطى، وهو ما يعتبره بعض مؤرخى الكنيسة دليلًا على وجود "يسوع" التاريخى.
ورغم أن هذه الفقرة هى موضع جدل كبير بين العلماء، إلا أنها جعلت من "يوسيفوس" شاهدًا غير مسيحى على بدايات المسيحية.
وبالنسبة للأديان الإبراهيمية عمومًا، فقد أسهم "يوسيفوس" فى نقل صورة عن الحقبة التى سبقت التشكل النهائى للمسيحية واليهودية الحاخامية، مما يتيح فهمًا أفضل لبنية العقائد والطقوس التى انبثقت فيما بعد.
الجدل حول مصداقيته:
رغم القيمة التاريخية الكبيرة لأعمال "يوسيفوس"، إلا أن مصداقيته ظلت موضع للنقاش بين المؤرخين قديمًا وحديثًا. فقد اعتبره بعض اليهود خائنًا، لأنه استسلم للرومان وكتب تاريخه تحت رعايتهم، ما جعل البعض يرى فى أعماله نزعة لتبرئة السلطة الرومانية وتحميل الثورة اليهودية وحدها مسؤولية الكارثة. كذلك، أُخذ عليه ميله لتجميل صورته الشخصية، خاصة فى كتاب حياته، حيث يظهر نفسه كرجل معتدل ومتنبئ بالأحداث، وهو ما قد يكون مبالغًا فيه.
أما بالنسبة للمسيحيين، فإن ذكره ليسوع فى آثار اليهود أثار جدلاً كبيرًا، إذ يشكك بعض الباحثين فيما إذا كان النص الأصلى قد تحدث عن يسوع بهذه الطريقة أساساً، مرجحين أن بعض النساخ المسيحيين قاموا بعمل تعديلات على هذه الفقرة لتعزيز موقفهم. ومع ذلك، يبقى "يوسيفوس" من المصادر النادرة التي تقدم شهادة تاريخية متكاملة عن تلك الفترة، حتى لو كان علينا قراءته بعين نقدية واعية.
"فلافيوس يوسيفوس" كان شاهدًا استثنائيًا على زمن مضطرب شكل ملامح العالم الدينى والسياسى الذى ورثته الأديان الإبراهيمية. فمن خلال كتاباته، وصل إلينا تاريخ اليهودية فى عصر الهيكل الثانى، وصورٌ دقيقة عن الصراعات الداخلية بين الطوائف اليهودية، بالإضافة إلى ملامح الحقبة الرومانية التى شهدت بدايات ولادة المسيحية.
ورغم ما يحيط بمصداقيته من جدل، فإن نصوصه لا تزال حجر الأساس لكل دراسة تاريخية لتلك المرحلة، إذ تمثل الرابط بين النصوص الدينية والوقائع السياسية والاجتماعية.
إن إرثه لم يكن مجرد سرد للأحداث، بل توثيق لأحداث أسهمت فى تشكيل الوعى الدينى الغربى حتى يومنا هذا.
تعليقات