لماذا فقد "روبرت أوبنهايمر" قائد مشروع القنبلة الذرية حظوته؟
إذا كنت قد شاهدت الفيلم الذى صدر مؤخراً عن أبو القنبلة الذرية "أوبنهايمر"، فربما تكون مهتماً بقراءة هذه المقالة.
جمع "أوبنهايمر" ما بين المعرفة العميقة بالفيزياء النظرية وما بين المهارات القيادية المتميزة والعزيمه الراسخة، بحيث أصبح الرجل المناسب تمامًا للإشراف على تطوير القنبلة الذرية فى سباق مع العلماء الألمان.
لكن نجاحه لم يساهم فى اكتسابه للأصدقاء.
بالنسبة للمهتمين بالسينما، لم تبرز حياة "أوبنهايمر" إلا فى عام 2023، عندما عُرض فيلم ،"كريستوفر نولان" الذى حمل اسم "أوبنهايمر". وقف الفيلم فى صفه باعتباره العقلية العلمية الرئيسيه التى وقفت وراء صناعة القنبلة الذرية، والتى حسب الرواية الرسمية للأحداث قامت بإنهاء الحرب العالمية الثانية.
لكن الفيلم أوضح أيضًا كيف أن حياته باتت مظلمة بسبب بسبب هذا النجاح، ونتيجة للشبح المخيف للأسلحة النووية.
فعلى حين أن هذا الفيزيائى الأمريكى زود بلاده بأقوى سلاح شهده العالم على الإطلاق، إلا أن الكثيرون اعتبروه عدوًا للشعب.
ما هى خلفيته؟
➥ وُلد "يوليوس روبرت أوبنهايمر" عام 1904 فى مدينة "نيويورك"، فى "الولايات المتحدة الأمريكية". كانت والدته فنانة، ووالده مهاجر ألمانى ناجح يعمل فى استيراد المنسوجات. كانت عائلته ثرية وتقدمية، حيث كانت جدران منزلهم فى "مانهاتن" تُزينها أعمال "فان جوخ" و"سيزان" و"جوجان".
طوّر "أوبنهايمر" العديد من الاهتمامات، فدرس الفلسفة والأديان الشرقية، والأدب باللغتين الإنجليزية والفرنسية، بالإضافة إلى الرياضيات والعلوم.
تخرج بعد عام واحد فقط من "جامعة هارفارد" حاصلًا على درجة البكالوريوس فى الفيزياء.
فى سن الحادية والعشرين، سافر إلى "المملكة المتحدة"، بعد أن تم قبوله فى مختبر العالم الذى حصل على "جائزة نوبل" لاحقًا، "جيه جيه تومسون" "بجامعة كامبريدج". ولكن بمجرد وصوله إلى هناك، شعر الشاب "أوبنهايمر" بالملل من العمل فى المختبر؛ وكره مشرفه "باتريك بلاكيت" (الحائز لاحقًا على جائزة نوبل) لدرجة أنه ذات مرة قام بترك تفاحة مسمومة على مكتب "بلاكيت".
كانت محطة "أوبنهايمر" التالية هى "جامعة جوتنجن" فى "ألمانيا"، لدراسة فيزياء الكم على يد الفيزيائى البارز "ماكس بورن"، حيث شارك بحماس فى المناقشات النظرية داخل الفصل، مما دفع الطلاب الآخرين إلى الشكوى منه. لكن "أوبنهايمر" و"بورن" طوّرا معًا "تقريب بورن-أوبنهايمر" عام 1927، الذى يصف العلاقة الوزنية بين نواة الذرة والإلكترونات المحيطة بها.
وقد ساعد هذا التقريب "أوبنهايمر" على أن يصبح اسمًا مرموقًا عالميًا فى مجال الفيزياء النووية.
كيف انضم أوبنهايمر إلى مشروع مانهاتن؟
➥ نتيجة لأبحاث "أوبنهايمر" فى "جوتنجن" حصل على منصب محاضر مناوب فى "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" (كالتك). وهناك انقسم طلابه إلى فئتين: بعضهم كان معجبًا به بشدة، والبعض الآخر اعتبره مغرورًا للغاية.
ربما كان عبقريًا، لكنه كان شديد التمسك بآرائه، مقتنعًا بها، ولم يكن ليُفوّت الفرصةً لسحق أى شخص قد يقترح شيئًا آخر.
فى أثناء تدريس "أوبنهايمر" فى "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا"، اكتشف الفيزيائيان "ليز مايتنر" و"أوتو هان" عام 1939 أن نواة الذرة يمكنها أن تنقسم، مطلقةً كميات هائلة من الطاقة.
سرعان ما أدرك العديد من العلماء أن هذا المبدأ يمكن نظريًا استخدامه لصنع قنبلة ذرية، بقوة تفجيرية لا تُصدق.
أرسل "ألبرت أينشتاين" وزميله "ليو سيلارد" رسالةً إلى الرئيس "روزفلت"، يُوصيان فيها "الولايات المتحدة" بتطوير الأسلحة النووية فى أسرع وقت ممكن. كان البديل فى اعتقادهم أن "ألمانيا" النازية ستكون أول من يصنع هذا السلاح المدمر.
اتبع "روزفلت" النصيحة، وأسس لجنة لدراسة اليورانيوم. وبعد انضمام "الولايات" المتحدة رسميًا إلى الحرب العالمية الثانية عام 1941، ازدادت الحاجة إلى ذلك.
فى عام 1942، تم تعيين الجنرال "ليزلى جروفز" لرئاسة "مشروع مانهاتن" السرى.
أراد "جروفز" فى البداية تعيين أحد الحائزين على جائزة نوبل لرئاسة المشروع، فاتصل بأوبنهايمر فقط للحصول على معلومات اكثر تفصيلا عن الفيزياء النووية. لكن كلما ازداد الوقت الذى أمضاه "جروفز" معه، ازداد اقتناعه بأن "أوبنهايمر" - حتى بدون جائزة نوبل - هو الشخص المناسب لهذه المهمة.
بقت هناك مشكلة واحدة. ففى ثلاثينيات القرن الماضى، دعم "أوبنهايمر" عدة جماعات مؤيدة للشيوعية، ومع تنامى الارتياب من الشيوعية، أصبح هذا عائقًا أمام حصوله على التصريح الأمنى. ولم يتم منحه هذا التصريح المطلوب إلا عندما استخدم "جروفز" علاقاته الشخصية لضمان "أوبنهايمر".
بدأ العمل، وكانت المهمة الأولى هى تجنيد أفضل الفيزيائيين.
أوضح "أوبنهايمر" لجروفز أنهم إذا أرادوا بناء قنبلة ذرية قبل "هتلر"، فهو بحاجة إلى ألمع العقول لتعمل معه. وكان يعلم أن مثل هذه العقول لن تتنازل على الأرجح عن وظائف جامعية جيدة وحياة مريحة مع عائلاتها للانتقال إلى مساكن الطلاب فى صحراء "نيو مكسيكو"، حيث كان من المقرر أن يُقام المشروع. لذلك دعا "أوبنهايمر" عائلاتهم أيضًا، محققاً مستوىً معتدلاً من الرفاهية فى كامل المدينة البرية التى كانت قيد الإنشاء فى "لوس ألاموس".
نجحت الخطة، حيث سارع إلى توظيف أفضل خبراء البلاد فى الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة - وهى جميع التخصصات اللازمة لتطوير قنبلة ذرية فعالة.
بحلول الوقت الذى قام فيه الفيزيائى الدنماركى "نيلز بور" بزيارة المشروع عام 1943، كاد أن يُصدم من مدى التقدم الذى أحرزه فريق "أوبنهايمر". كان من الواضح أن كاريزما "أوبنهايمر" قد جعلت منه قائدًا متميزًا، قادرًا على استيعاب النتائج ودمجها فى مختلف التخصصات العلمية.
وقد أدى هذا إلى نتائج ملموسة، فبعد عامين فقط، وبعد 33 شهرًا من العمل، حققت فرق "أوبنهايمر" النتيجة الموعودة.
فى أغسطس 1945، ألقت القاذفات الأمريكية قنبلتين ذريتين على "اليابان", مما دفعها إلى الاستسلام، منهيةً بذلك الحرب.
لماذا فقد "أوبنهايمر" تصريحه الأمنى؟
➥ بعد الحرب العالمية الثانية، ومع هزيمة "ألمانيا" و"اليابان"، سرعان ما أصبح "الاتحاد السوفيتى" العدو الأول لأمريكا. وهذا الأمر جعل من تعاطف "أوبنهايمر" السابق مع الشيوعية عبئًا إضافيًا، مما سمح للعلماء والسياسيين المنافسين بتقويض منصبه كمستشار نووى للحكومة، خاصةً مع استمراره فى رفض فكرة تطوير القنبلة الهيدروجينية.
يعود هذا الجدل إلى "لوس ألاموس"، عندما اقترح الفيزيائى "إدوارد تيلر" فى البداية تطوير قنبلة هيدروجينية تُستمد طاقتها من اندماج الذرات.
من المعروف أن ذلك سيوفر قوة تفجيرية أكبر من قنبلة "أوبنهايمر" الانشطارية التى يحدث فيها تفريغ الطاقة من خلال انقسام الذرات. لكن "أوبنهايمر" رفض اقتراح "تيلر"، معتبرًا أن القنابل الهيدروجينية قوية بشكل لا داعى له: فقوته التفجيرية تفوق ألف مرة قوة القنابل التى أُلقيت على "اليابان".
كانت القنابل الهيدروجينية ستُسبب مستويات دمار أعلى بكثير، وإصابات مدنية أكبر، فما هى إذن الفائدة الإضافية؟
ومع ذلك، فبمجرد أن أجرى "الاتحاد السوفيتى" تفجيره النووى التجريبى عام 1949، عادت أفكار "تيلر" للظهور بقوة. فقد بدا واضحاً أن "الولايات المتحدة" ترغب فى الحصول على خيار نووى أكثر تأثيراً.
على إثر ذلك قام العديد من زملائه باستغلال معارضة "أوبنهايمر" المستمرة للمشروع، وتقدموا زاعمين أن "أوبنهايمر" لديه "تعاطف مع الأعداء"، الأمر الذى حظى بدعم مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى "ج. إدجار هوفر".
وفى عام 1952، اختبرت "الولايات المتحدة" أول قنبلة هيدروجينية لها.
فى يونيو 1954، تم استدعاء "أوبنهايمر" للمثول أمام جلسة استماع أمنية استمرت أربعة أسابيع، انتهت بسحب تصريحه الأمنى رسميًا، مما أنهى أيضًا دوره كمستشار حكومى.
استأنف "أوبنهايمر" بعد ذلك التدريس والبحث، لكنه غالبًا ما وُصف بأنه أصبح مجرد ظل لشخصيته السابقة.
قام بإنفاق أموالًا من ثروة عائلته على بناء منزل فى جزيرة "سانت جون" فى الكاريبى، واصبح نادرًا ما يظهر علنًا.
فى عام 1967، توفى "أوبنهايمر"، الذى كان يدخن بشراهة، بسرطان الحلق عن عمر يناهز 62 عامًا.
ما مدى مساهمته فى الفيزياء؟
➥ جعلت موهبة "أوبنهايمر" القيادية ونظرته الشاملة متعددة التخصصات من "الولايات المتحدة" أول قوة نووية فى العالم. لكنه لم يكن مجرد مدير ناجح، فقد وضع إحدى النظريات الأولى حول كيفية انهيار النجم تحت وطأة ثقله ليصبح ما نسميه الآن ثقبًا أسود.
ومع الفيزيائية "ميلبا فيليبس"، قدّم عملية "أوبنهايمر-فيليبس"، التى تصف كيفية دخول جسيم واحد (مثل النيوترون) إلى نواة الذرة، مما يتسبب فى إزاحة جسيمات أخرى (البروتونات).
هل كان الفيلم واقعيًا؟
➥ فيلم "كريستوفر نولان" لعام 2023 هو مقتبس من سيرة "بروميثيوس الأمريكى" للمؤرخين الأمريكيين ،"مارتن ج. شيروين" و"كاى بيرد".
الفيلم رائع، ويُقدم صورة واقعية عن "روبرت أوبنهايمر" وحياته، إلا أن بعض التفاصيل مُقدمة بشكل خاطئ لإضفاء تأثير درامى على الأحداث.
فى الفيلم، على سبيل المثال، كاد "نيلز بور" أن يأكل التفاحة المسمومة التى كانت مخصصة لباتريك بلاكيت.
كان "أوبنهايمر" قد أكد بنفسه قصة التفاحة المسمومة، لكن "بور" لم يكن له أى علاقة بالحادثة.
كما يُظهر الفيلم لقاء "أوبنهايمر" بأينشتاين وهو يُبدى مخاوفه من أن قنبلة ذرية قد تُطلق تفاعلًا متسلسلًا لا يمكن إيقافه.
كان هذا القلق حقيقيًا، لكنه التقى فى ذلك الوقت الفيزيائى "كارل كومبتون"، وليس "أينشتاين".
كما أن وزير الحرب الأمريكى، "هنرى ل. ستيمسون" لم يُعارض قصف "كيوتو" عام 1945 لأنها كانت مكان قضاءه لشهر العسل، بل بسبب قيمتها الثقافية.
لقد تم اختيار "هيروشيما" و"ناجازاكى" عوضاً عن ذلك ليشهدا إحدى أكبر مأسى التاريخ الانسانى.
بتصرف عن: "شارلوت كولدباى"
تعليقات