مع صمت الكون ... نحن نصغى
منذ رفع الإنسان عينيه إلى السماء، كان السؤال يترد داخله: هل هناك مَن ينظر إلينا من بعيد؟ هل نحن وحدنا فى هذا الاتساع الأبدى؟ ورغم كل التقدم العلمى والتكنولوجى، ما زال الجواب غامضًا، مراوغًا، يختبئ خلف المجرات البعيدة والسدم التى لم يصلنا ضوؤها بعد. لكن حتى لو أغفلنا تلك المناطق من الكون التى لم يصل إلينا ضوؤها، واكتفينا فقط بما هو "مرئى" — أى ذلك الجزء من الكون الذى أضاء لنا بوميضه منذ الانفجار العظيم — فهل يكفى هذا الاتساع لنفترض وجود حياة أخرى؟
فى كون يتسع بسرعة متزايدة، تصبح حدود الرؤية نسبية، وتتراجع أمامنا كلما تطورنا. ومع ذلك، يظل الكون المرئى يحتوى على ما يُقدَّر بنحو مئتى مليار مجرة، كل منها تضم مئات المليارات من النجوم، وربما تريليونات الكواكب. ومع كل هذا، لا تزال الحياة — كما نعرفها — حكرًا على هذا الكوكب الصغير، الأزرق، العابر فى مجرة نائية على هامش السماء.
بين الكيمياء والاحتمالات:
عندما نتحدث عن "الحياة"، فإننا عادة ما نقصد بذلك تعريفٍ ضيقٍ نسبيًا، مستمدٍّ من تجربتنا الأرضية. نحن نعرف الحياة بالطريقة التى تطورت بها على كوكب الأرض: البنية الكربونية، القائمة على الماء، تنمو وتتكاثر، وتخضع لقوانين الانتخاب الطبيعى. ولكن هل هذا هو الشكل الوحيد الممكن؟
حتى إن التزمنا بهذا القالب الأرضى، فإن الشروط اللازمة لنشوء الحياة ليست بالمستحيلة. نحتاج إلى نجم مستقر، وكوكب يدور حوله فى "المنطقة القابلة للسكنى"، وغلاف جوى يحمى ويوازن، ومصدر طاقة منتظم. هذه الشروط، بحسب التقديرات الفلكية الحديثة، قد تتوافر فى مئات الملايين من الكواكب داخل مجرتنا وحدها. وإذا ما وسّعنا الأفق إلى الكون المرئى كله، فقد يصبح الرقم فلكيًا بكل معنى الكلمة.
لكن على ما يبدو، فإن الفيزياء لا تكفى وحدها. الحياة ليست معادلة كيميائية، بل هى أيضًا صدفة متكررة. نشوء الحياة على الأرض استغرق مئات الملايين من السنين، فى تفاعلات معقدة وبيئات متغيرة، وكثير منها لا يزال مجهولًا. السؤال إذن: كم مرة تكررت هذه الصدفة فى فضاء شاسع يبلغ 93 مليار سنة ضوئية عرضًا؟
آسماعنا موجهة نحو السماء:
لم يكتف الإنسان بالنظر إلى السماء، بل قرر أن يصغى إليها. كان ذلك مطلع الستينيات، حين وُلد مشروع SETI (البحث عن ذكاء خارج الأرض)، كمحاولة منهجية لاستراق السمع إلى همسات الكون. باستخدام التلسكوبات الراديوية، بدأ العلماء فى مسح السماء بحثًا عن أية إشارات اصطناعية، أنماطاً لا يمكن للطبيعة وحدها أن تخلقها: نبضات متكررة، موجات مشفرة، أو حتى لحظات صمت شاذ وسط الضجيج الكونى.
لم نعثر بعد على تلك "الرسالة"، لكن المسح لم يتوقف. ففى عام 1977، التقط الراديو فى "أوهايو" إشارة غامضة تُعرف اليوم باسم إشارة "Wow!"، كانت قوية، قصيرة، وغير مفسَّرة تمامًا، لكنها لم تتكرر. البعض اعتبرها ضربة حظ؛ آخرون ظنوا أنها بقايا رسالة ضائعة من حضارة ما، بعيدة بما يكفى لأن نلتقط همسها مرةً واحدة ثم لا شىء.
من جهة أخرى، فإن اكتشاف الكواكب الخارجية — وهى الكواكب التى تدور حول نجوم غير شمسنا — قد غيّر قواعد اللعبة. منذ إطلاق تلسكوب "كيبلر"، تم رصد أكثر من خمسة آلاف كوكب خارج نظامنا الشمسى، وبعضها يقع فى مناطق قد تسمح بالحياة، من حيث درجات الحرارة وتوافر الماء السائل. ومع كل اكتشاف جديد، يتقلص وهم الفرادة البشرية. نحن على ما يبدو لسنا فى مركز الكون، ولسنا فريدين.
مفارقة "فيرمى" الصمت العظيم:
فى أربعينيات القرن الماضى، كان الفيزيائى الإيطالى الأمريكى "إنريكو فيرمى" يتناول الغداء مع زملائه حين طرح سؤالًا بسيطًا، لكنه ما زال يتردد كصدى فى أذهان العلماء حتى اليوم: أين الجميع؟
السؤال يبدو للوهلة الأولى ساذجًا، لكنه فى جوهره يلخص معضلةً مذهلة. إذا كان الكون بهذا الاتساع، وبهذا الغنى الفلكى، وإذا كانت قوانين الفيزياء موحّدة فى كل أرجائه، وإذا كانت نشأة الحياة ليست معجزة بل نتيجة تفاعلات قابلة للتكرار — فلماذا لا نرى أحدًا؟ لماذا لم تصلنا زيارة، ولا حتى إشارة؟
هذه هى "مفارقة فيرمى": كل شىء يقول إننا يجب أن نكون محاطين بحضارات ذكية، وربما متقدمة بما لا يُقاس — ومع ذلك، لا شىء. لا أدلة، لا اتصالات، لا آثار. وكأن الكون قد قرر أن يُبقينا فى عزلتنا.
البعض يحاول تفسير هذا الصمت من خلال فرضية أننا ببساطة "جدد" جدًا فى الجدول الزمنى الكونى، ولم نحظَ بعد بفرصة التواصل. آخرون يرون أن الحضارات تميل إلى تدمير نفسها قبل أن تتمكن من إرسال سفن أو رسائل بين النجوم — كأن الذكاء يحمل فى داخله بذور فنائه. وهناك فرضيات أكثر رعبًا: ماذا لو كانت هناك "حضارة جانحة" تجوب الكون، تقضى على أى ذكاء ناشئ قبل أن يتطور؟
لكن هناك أيضًا احتمالًا أبسط: أننا وحيدون، أو أننا لم نبحث بالطريقة الصحيحة بعد.
كون يتسع أسرع مما نتصور:
الكون لا يكتفى بأن يكون شاسعًا، بل هو فى اتساعٍ دائم — بل ومتسارع. فمنذ الانفجار العظيم، والفضاء نفسه يتمدد، حاملاً معه المجرات كأنها جُزر طافية فوق سطح نهر هائج. هذه الخاصية، التى أكدتها أرصاد "إدوين هابل" ثم عمّقتها قياسات الخلفية الإشعاعية للكون، ليست مجرد مسألة هندسية، بل لها عواقب وجودية.
مع توسع الكون، هناك أفق كونى يتشكل، حدٌّ نهائى لما يمكن لضوئه أن يصل إلينا، أو نصل إليه. وكلما زاد الزمن، زاد عدد المجرات التى تنزلق خارج هذا الأفق، مبتعدة بسرعة تفوق حتى سرعة الضوء — ليس لأن شيئًا يتحرك بسرعة الضوء، بل لأن الفضاء نفسه يتمدد بيننا وبينها.
هذا يعنى ببساطة أن هناك أجزاء شاسعة من الكون لن نراها أبدًا، حتى لو انتظرنا إلى الأبد. أما تلك التى نراها اليوم، فقد لا نراها غدًا. بل الأسوأ: لو وُجدت حضارة ذكية فى مجرّة بعيدة، فقد تكون إشاراتها فى طريقها إلينا منذ ملايين السنين — لكنها لن تصل أبدًا، لأنها تُبتلع تدريجيًا فى النسيج المتسارع للفضاء.
هذا التوسع يجعل من التواصل الكونى حلمًا محصورًا داخل الكون المرئى فقط، أى ذلك الجزء من الكون الذى وصل إلينا ضوؤه منذ الانفجار العظيم. أما ما هو خارج ذلك، فهو بالنسبة لنا كما لو لم يكن موجودًا. وربما كان عامرًا بالحياة، بالمدن الطائرة، بالفلسفات الأخرى، بالأصوات — لكنه يبتعد بصمت، ولا شىء يلحقه سوى الضوء الذى لن يصل.
بين الصمت والإصغاء:
ربما لا يكون السؤال الحقيقى هو: هل نحن وحدنا؟ بل: هل نعرف كيف نصغى؟
قد يكون الكون مفعمًا بالحياة، يعج بأصوات لم نميزها بعد، بإشارات لا تلتقطها أجهزتنا، أو بمعانٍ لا تفهمها عقولنا. وربما، فى هذا الصمت المهيب الذى يلفّنا، لا تكمن هناك الوحدة، بل يكمن عجزنا المؤقت عن الفهم.
لقد مضى على وجود الإنسان، ككائن واعٍ، لحظات قليلة فى عمر الكون. ومن العبث أن نطالب هذا الاتساع الذى يبلغ مليارات السنين أن يكشف أسراره لنا خلال قرن أو قرنين من البحث. فربما نحن نعيش فى بداية القصة فقط. وربما، كما قال "كارل ساجان": "الكون القديم والواسع لا يَعِدنا بأن يكون سهل الفهم، لكنه لا يمنعنا من الفضول".
إلى أن يأتى يوم نفهم فيه لغة النجوم، أو نلتقط فيه همسة بعيدة من حضارةٍ أخرى، يظل وجودنا فى هذا الركن الصغير من الكون دعوة مفتوحة للتأمل، وللوحدة، وللدهشة.
ففى هذا الصمت العظيم، يكمن احتمال أكبر من الخوف: إنه الأمل.
أمل فى أننا لسنا وحدنا — حتى لو لم نعرف ذلك بعد.
تعليقات