الموسيقى: الرياضيات المسموعة ولغة الكون

  منذ أن وجد الإنسان على سطح الأرض، اكتشف أن الكون الفسيح ليس مجرد فوضى، بل هو نغم متجانس، وظهرت الموسيقى كأحد أعمق أشكال التعبير عن هذا الانسجام. فالموسيقى ليست مجرد أصوات متناثرة أو ألحان للمتعة، بل هى الرياضيات المسموعة، إنها تجسيد للتناغم الذى يحكم العالم. 

لقد رأى "فيثاغورس" أن كل وترٍ مشدود يخضع لقوانين رياضية، وأن كل لحنٍ جميل ما هو إلا انعكاس لصوتٍ خالد ينساب فى أرجاء الكون.

الطبيعة نفسها تغنى؛ الطيور تغرد بألحانها، وصوت أمواج البحر ينساب الى الشاطئ بنبض متتالى كنبض القلب، حتى صوت حفيف الأشجار بفعل الرياح يبدو كسمفونية عابرة. فكيف يدّعى البعض أن الموسيقى حرام، بينما هى جزء أصيل من نسيج الحياة التى خلقها الله؟ إن تحريم الجمال هو تحريم للحياة نفسها، وخروج على سنّة الله فى الكون.

منذ فجر  الحضارة، لم يتم النظر إلى الموسيقى وإلى الفن بوصفهما مجرد زخارف للحياة، بل كامتداد للقوانين الكونية التى اكتشفها العقل. لعل "فيثاغورس" كان أول من كشف عن الصلة الخفية بين النغم والعدد، حين لاحظ أن طول الوتر وعلاقته بالصوت الناتج يخضع لنسب رياضية دقيقة، فأسس بذلك ما عُرف بـ"نظرية النسَب التوافقية". حين اعتقد أن الكون بأسره يتكون من "موسيقى الفلك"، أى أن حركات الكواكب والنجوم نفسها تخضع لإيقاع وتناغم يشبه اللحن.

ومن "فيثاغورس" إلى "أفلاطون"، نجد أن الفلاسفة رأوا فى الموسيقى لغة للروح، واعتبروا دراستها جزءًا من العلوم الأساسية بجانب الحساب والهندسة والفلك. حتى فى العصور الإسلامية التنويرية، كان علماء مثل "الفارابى" 

 و"الكندى" ينظرون إلى الموسيقى باعتبار كونها علمًا دقيقًا قائمًا على حسابات رياضية، وليس مجرد وسيلة تسلية.

إننا حين نستمع بانتباه لصوت الطبيعة، ندرك أن الكون ليس صامتًا، بل هو يفيض بموسيقى لانهائية. فاصوات الطيور، وحفيف أوراق الشجر، وخرير المياه المتدفقة، وحتى صوت الأمواج، تشكّل كلها سيمفونية طبيعية فطرية. لا تغرد الطيور اعتباطًا، بل تطلق أنماطًا صوتية مدهشة، أقرب إلى مقطوعات موسيقية تتسم بتكرار وتنويع متناغم. وحتى الحيتان فى أعماق البحار تطلق الحانا طويلة تتواصل بها عبر مسافات شاسعة، وكأن الطبيعية قد جعلت لكل كائن لغته الموسيقية الخاصة التى يعبر بها عن وجوده فى هذا الكون.

هذه الظواهر الطبيعية ليست مجرد أصوات، بل هى انعكاس للتناغم الكونى نفسه، وكأن الطبيعة قررت أن تذكرنا بأن الموسيقى ليست بدعة من صنع البشر، بل هى لغة الحياة ذاتها، وصوتها الأصيل.

لذلك فإن القول بحرمة الموسيقى، كما تذهب بعض التيارات السلفية، ليس إلا موقفًا ضيق الأفق، يتعارض مع الفطرة السليمة، بل ومع جوهر الدين ذاته. فكيف يُعقل أن يتم تحريم ما هو جزء من سنة الله فى خلقه؟ إن "القرآن" نفسه يدعونا إلى التأمل فى أصوات الطبيعة، والإصغاء لما فيها من جمال، وكأنها تسبيح غير منطوق. بل إن التلاوة القرآنية ذاتها تتخذ شكلًا موسيقيًا يعتمد على النغم والمقامات الصوتية، فكيف يمكن أن تتم الدعوة إلى رفض الجمال حين يتخذ شكل الموسيقى؟

لقد كان هناك فقهاء وعلماء كبار، مثل الإمام "الغزالى"، أكثر انفتاحًا على الفنون، واعتبروا أن الموسيقى إذا لم تدفع إلى الرذيلة، فهى غذاء للروح، كما أن الطعام غذاء للجسد. أما تحريم الجمال، كما يفعل المتشددون، فهو فى جوهره تحريم للبهجة التى أرادها "الله" سبحانه لعباده، وتجاهل للبعد الإنسانى العميق فى الدين.

فالموسيقى فى النهاية هى جسر خفى ما بين العقل والروح، بين المعادلات الرياضية واللحظات الوجدانية. إنها لغة كونية تتحدث بها النجوم كما تتحدث بها الطيور، لغة قادرة على ربط الإنسان بالطبيعة، وتذكيره بأن الجمال ليس ترفًا، بل هو ضرورة وجودية. وإذا كانت الرياضيات تصف الكون من خلال الأرقام والقوانين، فإن الموسيقى هى الصورة المسموعة لهذا النظام الخفى، إنها نغمات تسرى فى كل الارجاء، وإيقاع لا ينتهى.

ولعل أعظم خطأ يرتكبه المتشددون هو اعتقادهم أن الدين ضد الفن، أو أن الجمال نقيض التدين. بينما الحقيقة أن كل ما يوقظ القلب، ويزرع فيه المحبة والصفاء، هو من جوهر الإيمان نفسه. وقد أدرك هذا المعنى بعض أعلام الفكر الإسلامى الحديث، مثل الشيخ "مصطفى عبد الرازق"، الذى كان يرى فى الفن الرفيع وجهًا من وجوه الإبداع الإنسانى، بل وشجع الموهبة الموسيقية الاستثنائية لأم كلثوم، معتبرًا أن الجمال حين يصفو يصبح طريقًا إلى الروح. فالموسيقى، حين يسمعها القلب، تصبح امتدادًا لفهم الله عبر الجمال، ونغمات أبدية تعلن أن الحياة نفسها هى لحن إلهى عظيم.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

الأنبياء - قصة قصيرة

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"