الدكتوره "ذبابة الفاكهة"، إنها اهم كثيراً مما قد تعتقد!
إذا كنت قد شاهدت مسرحية"سك على بناتك" للقدير "فؤاد المهندس"، فلابد انك تتذكر معيد الجامعة "سامح عبد الشكور" الذى كان يجرى أبحاثا عن "ذبابة الفاكهة" (قام بالدور الفنان احمد راتب).
حسنا، يبدو أن الأمور تطورت كثيراً منذ ذلك الحين. لذلك سنتعرف فى هذا المقال بشكلٍ أكثر تفصيلا على ذبابة الفاكهة، تلك الذبابة الصغيرة التى تُمثّل أساسًا لأكثر من 100 عام من علوم الطب الحيوى:
إذا تركتَ بعض الموز على المنضدة ونضج أكثر من اللازم، فمن المرجح أنك قمت باستضافة مجموعة من "ذباب الفاكهة". لكن الغريب هو أن هؤلاء الضيوف غير المرغوب فيهم قد ينقذوا حياتك يومًا ما.
تُشكّل ذبابات الفاكهة مصدر إزعاج فى المطبخ، لكنها أثبتت مرارًا وتكرارًا أهميتها فى تحقيق إنجازات طبية حيوية.
قد تبدو فكرة وجود أى شىء مشترك ما بين حشرة صغيرة والإنسان غريبة، ولكن لأكثر من قرن، قامت ذبابة الفاكهة الشائعة السوداء البطن، بتقديم معلومات قيّمة حول آلية عمل أجسامنا.
فى كثير من المختبرات حول العالم، تُعدّ ذبابات الفاكهة مفتاحًا لمعرفة كيفية انتقال الأمراض عبر جيناتنا، وكيفية تكاثر الخلايا السرطانية، وحتى كيفية انتقال النبضات الكيميائية عبر أدمغتنا.
ومع ذلك، هناك الكثير مما يُساء فهمه حول ذباب الفاكهة. أولًا، "ذبابة الفاكهة الشائعة" ليست "ذبابة فاكهة" على الإطلاق، بل هى "ذبابة خل". حتى أن الفاكهة ليست أساساً الجزء الرئيسى من نظامها الغذائى, وبدلًا من ذلك، تستهلك الحشرة الخميرة والسكر من على الفاكهة المتحللة.
ومما يزيد الأمور إرباكًا، أن الاسم العلمى للذباب، ذبابة الفاكهة السوداء البطن، ليس صحيحًا من الناحية الفنية أيضًا. فقد أشارت التحليلات الجينية إلى أن هذه الذبابات لا تنتمى إلى جنس ذبابة الفاكهة، بل إلى جنس منفصل يُسمى الصفصافيات. لكن نظراً لاستخدامها على نطاق واسع فى البحث العلمى، لذا فإن إعادة تسميتها سيكون بمثابة كابوس لوجستى.
بغض النظر عن تسميتها، فقد أرشدت هذه الحشرات العلوم الطبية منذ عام 1901، عندما قرر باحثون فى "جامعة هارفارد" التعمق فى مجال علم الوراثة الناشئ بموضوع دراسة جديد.
شكلت "ذبابة الفاكهة" نموذجًا مثاليًا لهذه الدراسات الجينية المبكرة نظرًا لسهولة رعايتها (وقلة تكلفتها)، وتكاثرها السريع. يمكن لذبابة الفاكهة أن تتحول من بيضة إلى يرقة إلى ذبابة بالغة فى غضون عشرة أيام، ويمكن أن تعيش لمدة تصل إلى سبعة أسابيع. يمكن لأنثى ذبابة الفاكهة، البالغة، أن تضع ما يصل إلى 50 بيضة فى اليوم.
فى عام 1908، بدأ عالم الوراثة "توماس هانت مورجان" من "جامعة كولومبيا" تربية ذبابة الفاكهة بغرض الدراسة العلمية، وفى عام 1910، كشف عن شىء غريب. معظم "ذباب الفاكهة" لهم عيون حمراء زاهية، ولكن فى قواريره، اكتشف العديد من الذكور بعيون بيضاء.
قام بتربية عدة أجيال أخرى من الذباب فى مختبره، الملقب بـ "غرفة الذباب"، وأنتج المزيد من الأفراد ذوى العيون البيضاء، وجميعهم من الذكور.
كان العلماء يعرفون بالفعل أن بعض الهياكل الشبيهة بالخيوط فى نواة الخلايا، والتى تسمى الكروموسومات، مرتبطة بجنس الفرد. كان لدى ذكور الذباب كروموسوم X وY، بينما كان لدى الإناث كروموسومَى X. افترض "مورجان" بشكل صحيح أن الجين الذي يُسبب بياض عيون الذباب موجود على الكروموسوم X. ومع دراسته لمزيد من طفرات الذباب، أثبت أن لكل جين موقعًا محددًا على الكروموسومات. وقد فاز بجائزة نوبل عام 1933 عن عمله فى كيفية ارتباط الكروموسومات بالوراثة.
كان تتبع التغيرات الجينية عبر الأجيال أسهل وأرخص وأسرع فى ذباب الفاكهة مقارنةً بحيوانات المختبر الأخرى مثل الفئران والأرانب، وكان يُنظر إليه على أنه أكثر أخلاقية، لذلك استمر العلماء فى استخدامه.
فى عام 1946، فاز "هيرمان جوزيف مولر"، أحد طلاب "مورجان" السابقين، بجائزة نوبل لإظهاره أن تعريض ذباب الفاكهة للإشعاع المؤين للأشعة السينية يزيد من احتمالية حدوث طفرات جينية. ومنذ ذلك الحين، مُنحت أربع جوائز نوبل أخرى لباحثين يستخدمون ذبابة الفاكهة لفهم العلوم الطبية بشكل أفضل.
تحتوى ذبابات الفاكهة على 8 كروموسومات فقط، مقارنةً بـ 46 كروموسومًا لدى البشر، ولديها حوالى 14,000 جين مقارنةً بـ 20,000 جين أو أكثر لدينا. ومع ذلك، وبفضل تاريخنا التطورى المشترك الذى يعود إلى مئات الملايين من السنين، فإنها فى الواقع تشبهنا أكثر بكثير مما نعتقد.
منذ عام 2015، يرأس الدكتور "هوجو بيلين" مركز فحص الكائنات الحية النموذجية (MOSC)، المدعوم من شبكة الأمراض غير المشخصة التابعة للمعاهد الوطنية للصحة. ويتذكر أنه عندما اقترح لأول مرة استخدام ذباب الفاكهة لفحص الأمراض الوراثية النادرة، قوبل بالتشكيك.
يقول "بيلين": "فوجئ الأطباء باختيار المعاهد الوطنية للصحة للذباب ككائن حى نموذجى". رفعوا أيديهم وقالوا: "أين العظام؟ هل توجد رئات؟ هل لديهم طحال؟" وكانوا يمزحون معى. لكن بعد ستة أشهر، تمكنت من حل حالتين."
يكتشف "بيلين" نسخ الذباب من الجينات المسببة للأمراض العصبية التنكسية لدى البشر، ثم يستخدم عينات الذباب لاختبارها لإيجاد علاجات لتلك الأمراض. عندما يُجرى الأطباء اختبارات جينية على مرضى مصابين بمرض غير معروف، فإنهم يُجرون اختبارات جينية للعثور على الجينات التى قد تكون مسؤولة. ثم يطلبون من "بيلين" وفريقه معرفة ما إذا كانت هناك أى جينات ذات صلة فى ذبابة الفاكهة، ويسمونها الجينات المتماثلة. يقول "بيلين": "فى 80% من الحالات، نجد جين الذبابة المتماثلة، ويمكننا العمل على جيناتها."
باستخدام تقنية الهندسة الوراثية المعروفة باسم "كريسبر"، يقوم العلماء بإنتاج ذبابًا يحمل طفرات فى الجينات المتماثلة للجينات البشرية المحددة. إذا ظهرت على الذباب أعراض مشابهة للأعراض البشرية، فهذا دليل على أن الجينات المتحولة المستهدفة هى بالفعل سبب مرض البشر.
يقول "بيلين": "لقد تمكنا من اكتشاف أكثر من 50 مرضًا بشريًا جديدًا فى غضون سنوات قليلة".
لكن تحديد الجينات المرتبطة بمرض ما لا يمثل سوى نصف المعركة: إذ يتعين عليهم بعد ذلك تحديد الفوضى التى تسببها الجينات المعطوبة على المستوى الكيميائى الحيوى والخلوى، ثم تعلم كيفية إيقافها.
عند البحث عن جينات الذباب المسؤولة عن صيانة خلايا الدماغ عام 2015، اكتشف "بيلين" وزملاؤه أن الذباب الذى يعانى من خلل وراثى فى مكونات خلايا دماغه المُنتجة للطاقة، قد تراكمت لديه مركبات دهنية تفاعلت كيميائيًا مع الأكسجين. وتبين أنه قبل قرن تقريبًا، لاحظ عالم آخر شيئًا مشابهًا: ففى عام 1907، وثّق عالم الأعصاب "ألويس ألزهايمر" تراكم قطرات الدهون فى خلايا دماغ بعض المرضى - أشخاص مصابون بالمرض الذى تم تسميته لاحقًا باسمه. ويُعدّ الجين المرتبط بهذا التراكم للدهون المؤكسدة مؤشرًا قويًا على الإصابة بمرض ألزهايمر لدى البشر.
تابع فريق "بيلين" هذه الصلة، وفكّك سلسلة التفاعلات الكيميائية الحيوية التى تؤدى إلى تراكم هذه المركبات الدهنية المؤكسدة، بل ووجد علاجًا للذباب المتأثر: مضاد الأكسدة N-acetylcysteine amide.
ومع ذلك، يقول "بيلين" إن إجراء تجربة سريرية على البشر أمرٌ بعيد المنال حاليًا نظرًا لانتهاء صلاحية براءة اختراع الدواء. هذا يعنى أن أى شركة أدوية قادرة على إنتاجه، مما يجعله للاسف خيارًا أقل جاذبية للشركات التى تسعى إلى زيادة أرباحها.
فى حين أن الأدوية تُعدّ أحد سبل علاج الأمراض، لجأ باحثون آخرون إلى ذبابة الفاكهة لتسخير ما يسمى ب"السلوك الخلوى"، من خلال جعل الخلايا السليمة تهاجم نظيراتها غير السليمة.
تقول "كيم ماكول"، الأستاذة بجامعة بوسطن: "تموت مليارات الخلايا فى أجسامنا يوميًا". ولكن عندما تُصاب التعليمات التى تُلزم الخلايا بالموت، والخلايا الحية باستهلاك تلك الخلايا الميتة، بالخلل، فقد يُؤدى ذلك إلى المرض. على سبيل المثال، يمكن أن يتطور التنكس العصبى عند موت عدد كبير جدًا من الخلايا، وإذا نمت الخلايا دون رادع، فقد يُؤدى ذلك إلى السرطان.
تُجرى "ماكول" تجارب على خلايا فى مبايض ذبابة الفاكهة لمعرفة المزيد عن التعليمات الجينية والكيميائية لموت الخلايا السليمة واستهلاكها. حيث تقوم هى وزملاؤها بإدخال طفرات مُعدّلة وراثيًا فى الحمض النووى للذباب، ثم يفحصون ما إذا كانت هذه الجينات تؤثر على سلوك الخلايا. وفى عام 2016، أظهرت أنه فى ظل ظروف وراثية وجزيئية معينة، فإن الخلايا الموجودة فى مبيض ذبابة الفاكهة تأكل بعضها البعض حية.
لفت هذا الاكتشاف انتباه "دينيس مونتيل"، الأستاذة بجامعة كاليفورنيا، "سانتا باربرا". وجد مختبرها أن طفرة فى جين صيانة الخلايا يُسمى Rac تُسبب تدمير الخلايا للأنسجة المحيطة بها، مما قد يُفعّل عملية مشابهة لما ذكرته "ماكول". تقول "مونتيل": "نعلم أن Rac هو ضرورى بشكل عام للخلايا كى تتغذى، ولذلك قلنا: 'حسنًا، ربما هذا ما يحدث'".
فى الواقع، كان Rac مفرط النشاط هو المسؤول عن ظاهرة أكل الخلايا لبعضها البعض التى لاحظوها.
مهدّت هذه النتائج الطريق لمزيد من البحث. تقول "مونتيل": "أدركنا أننا قد نتمكن من تسخير هذا الأكل المفرط النشاط، أى أكل الخلايا لبعضها البعض، لعلاج السرطان".
يستخدم نوع تجريبى من علاج السرطان يُسمى CAR-M خلايا معدلة وراثيًا لاستهلاك خلايا السرطان. ومن خلال استكمال علاج CAR-M التقليدى بجين Rac المتحور، نجح الباحثون فى استهداف خلايا السرطان لدى الفئران والبشر.
تقول "مونتيل": "يُخبر علاج CAR-M الخلايا المُعدّلة بما يجب أن تأكله، ويُخبرها Rac بتناول المزيد منه". نشر الباحثون نتائجهم عام 2023، واعتبارًا من عام 2024، كان الباحثون يختبرون العلاج المُركّب على الخلايا المناعية البشرية.
ومع ذلك، فإن علاج السرطان الذى ينجح فى نموذج حيوانى لا ينجح بالضرورة فى علاج البشر. يقول "روس كاجان"، الأستاذ بجامعة جلاسكو: "تبلغ معدلات النجاح فى التجارب السريرية للسرطان حوالى 5%. ويضيف: "نستمر فى معالجة نماذجنا قبل السريرية، قبل أن نصل إلى المرضى، لكن المرضى لا يتفاعلون مع العلاجات بالطريقة التى تتفاعل بها نماذجنا. لذلك نحتاج حقًا إلى إعادة النظر في شكل نماذجنا".
بالنسبة لكاجان وزملائه، كان ذلك يعنى إنشاء ما يُطلق عليه "أفاتار الذباب".
حوالى العام 2012، تواصل مريض يُدعى "مارك بينينجا"، مصاب بسرطان يصعب علاجه، مع "كاجان" وطلب منه إجراء تسلسل جينى لورمه للمساهمة فى أبحاث السرطان. يقول "كاجان": "بدأت فكرة "الأفاتار" تتشكل فى تلك اللحظة". "كان "مارك" هو من ألهمنى تمامًا بهذا، لأننى أدركت أننا سنقوم بتسلسله، ولكن ماذا سنفعل بكل هذه المعلومات؟ وهنا خطر ببالى: "مهلاً، ذباب الفاكهة"."
بفضل مبادرة "بينينجا"، الذى توفى عام 2014، أجرى "كاجان" وزملاؤه تجربة سريرية قاموا فيها بعمل تسلسل للطفرات الموجودة فى أورام المرضى، وأنتجوا ذباب فاكهة معدل وراثيًا يحتوى على ما يعادل تلك الطفرات فى الذباب. يقول "كاجان": "لا يُمكن تطبيق هذا إلا على الذباب"، لأن الذباب يوفر المزيج المناسب من التعقيد البيولوجى وسرعة التكاثر، مما يسمح له بإنشاء مجموعة كبيرة كافية للقيام بالدراسة.
قام هو وفريقه بتربية مئات الآلاف من الذباب لكل مريض، بحيث تكون "أفاتار" لسرطانات المرضى، وبدأوا فى اختبار العلاجات. يقول: "لقد فحصنا جميع الأدوية المتاحة المعتمدة من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية".
ووجد الباحثون تركيبات دوائية مصممة خصيصًا لكل مريض مشارك فى التجربة السريرية. وبينما أظهر بعض المرضى بعض النجاح مع بعض العلاجات المتاحة، إلا أن التجربة توقفت بسبب جائحة كوفيد-19.
يقول "كاجان": "اضطررنا إلى إيقاف كل شىء. لكن الخبر السار هو أن الدراسة أدت إلى ولادة "شركة فيفان".
"فيفان ثيرابيوتكس" هى شركة ناشئة فى مجال الطب الحيوى، مقرها "لندن"، وقد حملت لواء العمل الذى بدأه "كاجان" وزملاؤه. يقول "ناهويل فيليجاس"، كبير مسؤولى العلوم فى "فيفان": "على حد علمى، نحن الشركة الوحيدة فى العالم التى تستخدم ذبابة الفاكهة لإجراء هذا النوع من الأبحاث الطبية الحيوية التطبيقية".
مؤخرًا، انتقل باحثو "فيفان" من التسابق لعلاج مرضى السرطان فى مراحله النهائية إلى تطوير قاعدة معرفية أوسع حول العلاجات المختلفة الممكنة.
يقول "فيليجاس": "قمنا بتحليل آلاف الأورام المختلفة، وتحديدًا أورام القولون والمستقيم، وحددنا جميع السمات الجزيئية المحتملة المرتبطة بهذا النوع من الأورام - جميع تركيبات وتكوينات التغيرات الجينية المختلفة المتضمنة فى كل ورم". وحدد الباحثون 400 سمة جزيئية مختلفة. "هذا يعنى أن سرطان القولون والمستقيم هو 400 مرض مختلف على الأقل".
إن الفهم الأفضل للأنواع الفرعية المحددة من السرطان التى يعانى منها المرضى، إلى جانب المعلومات المستمدة من ذباب الفاكهة حول الأدوية الأنسب لعلاج هذه الأنواع تحديدًا، قد يجعل علاجات السرطان الدقيقة متاحةً لعدد أكبر من الناس يومًا ما.
جينات وخلايا الذباب ليست الأجزاء الوحيدة التى تُشبه البشر - فهناك أعضاء كاملة فى أجسامنا تُشبههم. ومن أهمها الدماغ.
تقول "راشيل ويلسون"، الأستاذة فى كلية الطب بجامعة "هارفارد": "نفهم جيدًا كيف يضخ القلب الدم. نفهم كيف يعمل كل نوع من الخلايا مع أنواع أخرى من الخلايا لجعل القلب يضخ الدم، وكيف يضخه بشكل مختلف تبعًا لسرعة الجريان". وتضيف: "لكننا لا نفهم حقًا كيف تعمل أنواع الخلايا المختلفة فى الدماغ معًا لإجراء حسابات دقيقة ومعقدة وسريعة. لذا، فإن إحدى الطرق لحل هذه المشكلة هى التركيز على ذباب الفاكهة".
يبلغ حجم دماغ ذبابة الفاكهة تقريبًا حجم بذرة صغيرة. ومع ذلك، فإنها أذكى بكثير مما نظن. تُعالج أدمغة ذباب الفاكهة المعلومات التى تُوفرها حاسة الشم القوية لديها، وتقوم باستخدامها للتسلل تحت الأبواب والنوافذ شبه المفتوحة بحثًا عن الطعام. ولعلّ أكثر ما يُثير الإعجاب أن ذبابة الفاكهة تقوم بالغناء لبعضها البعض. تهزّ الذكور أجنحتها بنبرة معينة لتغنى للإناث.
فى عام 2024، أعلن باحثون عن إنشاء مخطط كامل لشبكة عصبية لدماغ ذبابة الفاكهة: وهو مخطط يوضح كيفية اتصال جميع خلايا الدماغ، أو الخلايا العصبية، ببعضها البعض عبر المشابك العصبية.
يُعدّ هذا المخطط أول مخطط كامل لشبكة عصبية لأى كائن حى ذى دماغ حقيقى، وقد استغرق إنشاؤه سنوات من العمل المضنى. لقد بدأ العلماء بدماغ ذبابة واحدة تم تقسيمها إلى 7000 شريحة رقيقة للغاية، ثم تم تصويرها باستخدام مجهر إلكترونى.
استخدم الباحثون التعلم الآلى لجمع هذه الشرائح فى خريطة ثلاثية الأبعاد، مما ساعد فى تصحيح التشوهات فى أماكن صنع كل شريحة، مع تحديد الهياكل التى كانوا مهتمين بها. بعد ذلك، استغرق المشروع ساعات عمل لا حصر لها للعمل على تحسين الخريطة من أجل إظهار كل خلية عصبية من خلايا دماغ الذبابة، والتى يبلغ عددها حوالى 140 ألف خلية، و50 مليون مشبك عصبى يقوم بربطها معا.
يقول "سفين دوركينوالد"، الباحث فى "معهد ألين" و"جامعة واشنطن"، والذى ساهم فى إنشاء شبكة الاتصالات العصبية: "إذا كنت مهتمًا بوظيفة خلية عصبية محددة، فأنت الآن تعرف أى الخلايا العصبية التى يمكنك أن تتشابك معها، كما يمكنك على سبيل المثال، ربط وظيفتها بخلايا عصبية أخرى". ويضيف: "هذا يُزيل نوعًا من الضبابية التى كانت موجودة سابقًا".
فى حين أن "الدماغ البشرى" أكثر تعقيدًا بكثير من دماغ الذبابة، بمليارات الخلايا العصبية وتريليونات المشابك العصبية، فإن أوجه التشابه الهيكلية بينهما تتيح إجراء مقارنات قيّمة. قد يُستخدم مخطط الشبكة العصبية أيضًا كأداة لفهم كيفية عمل الدماغ ككل، أكثر من مجرد عمل أجزائه.
يقول "ألبرت لين"، الباحث فى "مركز فيزياء الوظائف البيولوجية" بجامعة برينستون، والذى عمل أيضًا على مخطط الشبكة العصبية: "لفترة طويلة، لم يكن على علماء الأعصاب سوى وضع تخمينات علمية حول كيفية هيكلة الأدمغة لدعم العمليات الحسابية العديدة التى تستطيع الأدمغة القيام بها - حتى لو كان مجرد دماغًا بسيطًا، مثل دماغ ذبابة". ويضيف: "الآن، أصبح لدينا أخيرًا دماغ يمكننا النظر إليه وطرح هذه الأسئلة عليه".
مخطط الشبكة العصبية لدماغ ذبابة الفاكهة مأخوذ من ذبابة واحدة ميتة منذ زمن طويل. لكن العلماء يستخدمون مخطط الشبكة العصبية كخريطة طريق لعملهم التجريبى على الذباب الحى.
تقول "ويلسون": "نبدأ بمخطط الأسلاك العصبية، وهذا يخلق فرضيات حول الوظائف التى قد تؤديها خلايا الدماغ. ولاختبار هذه الفرضيات، من المفيد جدًا مشاهدة خلايا الدماغ أثناء عملها".
لتحقيق ذلك، يستخدم الباحثون أدوات وراثية لجعل بعض خلايا دماغ الذبابة تتوهج، ليتمكنوا من رؤية أجزاء الدماغ النشطة. تقول ويلسون: "لكن لا يكفى مجرد مشاهدة نشاط الدماغ وهو يتذبذب. بل يجب على الحشرة أيضًا أن تقوم بشىء يمكننا نحن العلماء فهمه".
عندما شرعت "ويلسون" وفريقها فى دراسة نشاط دماغ الذباب أثناء تحركه فى بيئته، شكّل حجم الذباب تحديًا. تقول "ويلسون": "فى الحيوانات الكبيرة، يُمكننا زرع أقطاب كهربائية فى أدمغتها. بل يُمكن حتى تركيب مجاهر صغيرة جدًا على رؤوسها. أما الذباب، فهو صغير جدًا بحيث لا نستطيع القيام بأيا من هذه الأشياء". لذا، بدلًا من ذلك، ابتكرت "ويلسون" وفريقها نظامًا تجريبيًا يُثبّت فيه رأس ذبابة فى مكانه وتتم مراقبته بمجهر خارجى وأقطاب كهربائية. ثم، لخداع دماغ الذبابة العالقة فى مكانها لكى تتصرف كما لو كانت تتحرك، ابتكر العلماء نظام واقع افتراضى لذبابة الفاكهة.
تقول "ويلسون": "نضع ذبابة على جهاز مشى كروى، ثم نستخدم حركة الجهاز تحت الذبابة لضبط بيئة الواقع الافتراضى حولها. يمكننا جعل الذبابة تعتقد أنها تتجول داخل بيئة مكانية، ثم نراقب كيفية تفاعلها مع البيئة كوسيلة لفهم ما تحاول فعله وسببه. بعد ذلك، يمكننا ربط هذا السلوك بنشاط خلايا دماغية محددة لمحاولة فهم كيفية دعم هذه الخلايا لسلوك الذبابة وفكرها".
تتضمن بعض تجارب "ويلسون" مراقبة كيفية استجابة أدمغة ذبابة الفاكهة للتوهان، وهو أمر ذو صلة وثيقة بالطب البشرى. وتضيف: "إنه فى الواقع مفيد جدًا للبدء فى التفكير فى الاضطرابات العصبية والنفسية". إن فهم ما يحدث، على مستوى التفاصيل الدقيقة، مع الدماغ المشوش، يمكن أن يكون أساسًا رئيسياً لإيجاد العلاجات. وكما تقول: "أعتقد أنه حينها فقط سنكون قادرين على تصميم واستكشاف الأخطاء وإصلاحها للأدوية التى ستوفر للناس المزيد من الراحة".
عن مقال علمى بقلم "كيت جولمبيوسكى" ،كاتبة علمية من شيكاغو.
تعليقات