كيف نفكر فى "العقلية"، "اللغة"، "التراكب الكمى"، "الأنثروبولوجيا"، وأشياء أخرى!

إذا كنت تريد أن تفهم عمل الفيزياء الحديثة، فأنت بحاجة إلى استيعاب ودراسة مجموعةٍ من المفاهيم والأفكار العلمية، ابتداءً من الحقول الكمومية إلى الجاذبية؛ ومن الجسيمات إلى الطاقة، وكثير غيرها. 

ينطبق الأمر نفسه على "البيولوجيا" أو "الوعى": ففهم هذه المجالات يتوقف على الإلمام، على سبيل المثال، بعملية التمثيل الضوئى أو بتفاصيل التجربة الذاتية. وهو الأمر الذى قد يجعل فهم أحدث الاكتشافات أكثر إثارةً للدهشة.

لذلك فأحيانًا، من المفيد التوقف ومراجعة المفاهيم التى يقوم عليها العلم. وهذا بالضبط ما ستفعله هذه المقالة، التى ستتناول أفكارًا قد تبدو مُحيّرة - مثل التراكب الكمى وأشباه الجسيمات - بالإضافة إلى أفكار أخرى - مثل الصداقة والزمالة - والتى قد تكون لها أعماقٌ لم ندرك وجودها. 

عن: "العلوم الآن"

كيف نفكر فى "اللغة" "Language":

تقول احدى الأمهات: اعتقد أن ابنى ساحر. فهو يدخل إلى المطبخ، ينظر إلى وينطق بالكلمات السحرية: "هل يمكننى من فضلك الحصول على شطيرة جبن وطماطم ؟" وبعد بضع دقائق، تظهر أمامه هذه الوجبة الخفيفة.

الحيوانات الصغيرة تستطيع هى الأخرى أن تعبر عن رغبتها فى الطعام من خلال الأنين والتغريد والهدير. لكن البشر وحدهم هم من يمتلكون القواعد والمفردات التى تسمح لنا بالتواصل بعبارات دقيقة.

فى الواقع، ومع تزايد الدراسات على الحيوانات، فإنها أظهرت أنها تشترك مع البشر فى العديد من الخصائص- من الثقافة إلى العواطف وحتى الأخلاق. 

ولكن يبدو أن اللغة هى الشىء الوحيد الذى يميزنا حقًا. 

يقول "برايان ليرش" من "جامعة نورث كارولينا": "أعتقد أن اللغة هى ما تجعلنا نشعر بالتميز كنوع". نظرًا لكل ذلك، فإن أحد أهم الأمور التى يرغب الباحثون فى معرفتها عن اللغة هو كيفية تطورها، ولماذا لم يحدث ذلك إلا فى سلالتنا البشرية.

يعتقد عالم النفس "شيمون إيدلمان" من "جامعة كورنيل" فى ولاية "نيويورك" أن القوة السحرية للغة لها تفسير تطورى واضح. ويجادل هو وزميله "أورين كولودنى"، بأن هذا الفن ربما ظهر منذ 1.7 مليون سنة، عندما بدأ البشر القدماء فى صنع الفؤوس اليدوية الحجرية التى يتجاوز إنتاجها قدرة الحيوانات غير البشرية.

الفكرة أن صانعى هذه الأدوات من البدائيين كانوا يحتاجون إلى توجيه من خبير لصنع فؤوسهم اليدوية، لذا أصبحت مواقع صنع الأدوات بمثابة فصول دراسية. ربما ظهرت اللغة البدائية كوسيلة للتواصل بين المعلمين والطلاب - وهو ما قد يفسر لماذا يبدو أن كلاً من اللغة وصنع الأدوات يتطلبان من الدماغ ترتيب الأفكار وتنظيمها فى تسلسلات منظمة.

ولكن قبل حوالى عقد من الزمان، طعنت تجربة رئيسية فى هذا الرأى. 

فى عام 2014، كلفت "شيلبى بوت" من "جامعة ولاية إلينوى" وزملاؤها 24 متطوعًا بتعلم صنع الفؤوس اليدوية من خبير، إما عن طريق أن يشرح لهم العملية أو أن يقوم بصناعة الأدوات بحضور المتطوعين مع الإشارة إليهم من حين لآخر لتوجيه انتباههم. والمثير للدهشة أن كلتا الطريقتين كانتا فعالتين، مما يشير إلى أن اللغة اللفظية ليست ضرورية لصنع الأدوات المعقدة.

هذا لا يعنى أن "بوت" ترى أن اللغة وصنع الأدوات منفصلان تمامًا. فهى تعتقد أن صنع الأدوات المعقدة يتطلب بالفعل من البشر ترتيب أفكارهم وتنظيمها للاستمرار فى التركيز. وتقول إن هذا أدى إلى توسع مناطق الدماغ المشاركة فى الذاكرة العاملة، والتى نستخدمها لحفظ الأفكار والتلاعب بها لفترة وجيزة.

لكن "بوت" تشتبه فى أن البشر لم يستخدموا هذه القدرة على هيكلة أفكارهم وتنظيمها لتطوير اللغة إلا فى وقت لاحق - ربما لأنها ساعدتهم على التواصل بشكل أفضل وعززت فرصهم فى البقاء.

تفترض جميع هذه السيناريوهات أن اللغة فى جوهرها أداة للتواصل مع الآخرين. لكن قد لا يكون الأمر كذلك. هناك طريقة ثالثة للتفكير فى تطور اللغة تركز بشكل شبه حصرى على الطريقة التى يمكنها بها أن تساعد الأفراد على "التحدث" مع أنفسهم وتنظيم أفكارهم للقيام بمهام معقدة.

وفقًا للبعض، ومنهم اللغوى "نعوم تشومسكى"، فإن هذا هو ما دفع اللغة إلى التطور، أى أنه لا علاقة له على الإطلاق بصنع الأدوات. بدلًا من ذلك، يعتقد هؤلاء الباحثون أن اللغة ظهرت قبل 70 ألف عام، ربما ببساطة بسبب طفرة جينية عشوائية أدت إلى إعادة برمجة الدماغ.

فى الحقيقة، لا يزال هناك إجماع محدود حول كيفية نشوء اللغة. ولكن إذا كان "تشومسكى" وأمثاله على حق، فرغم أنها لم تتضمن السحر، إلا أنها ربما تضمنت على الأقل القليل من الحظ. 

عن: "كولين باراس"

كيف نفكر فى "الأنثروبولوجيا" "Anthropic Principle":

عندما ننظر إلى الكون، فإننا نعلم أن كوكب الأرض قادر على دعم الحياة - ولولا ذلك لما كنا موجودين. وقد تم طُرح هذا المبدأ بطرق مختلفة على مر السنين، لكن يظل الجوهر الأساسى لذلك هو ما يُشكل تلك الحجة الفلسفية التى تُعرف باسم مبدأ "الأنثروبولوجيا".

قد يبدو الأمر بديهيًا، بل وتقليدى أيضاً، لكنه ليس بهذه البساطة.

ولكى نفهم ذلك فلنبدأ بما يُطلق عليه العلماء "مشكلة الضبط الدقيق"، أى أن كوننا لكى يصبح قابل للحياة، فإنه أصبح متوازنًا تمامًا بشكل اعجازى.

فهو يحوى العديد من الثوابت الأساسية، من كتلة النيوترون إلى قوة الجاذبية، وغيرها، وكل هذه الثوابت ذات قيم محددة بشكلٍ دقيق للغاية، وبغيرها لم تكن الحياة لتكون ممكنة. 

يقول "لوك بارنز" من "جامعة غرب سيدنى" فى "أستراليا": "بعض هذه الثوابت، إذا اختلت بشكل طفيف، ستُزعزع استقرار كل ذرة فى الكون".

 بدأ مبدأ "الأنثروبولوجيا" كمحاولة لتفسير سبب وجود الكون بهذه الحالة التى تبدو غير محتملة او تقريباً مستحيلة، ويمكن تلخيصه فيما يلى: "يجب أن يكون الكون على هذا النحو، وإلا لم نكن لنكون هنا كى نراه".

هناك صياغتان رئيسيتان لهذا المبدأ، وُضعتا فى كتاب صدر عام 1986 لعالمى الكونيات والرياضيات "جون بارو" و"فرانك تيبلر". ينص المبدأ الضعيف على أنه نظرًا لوجود الحياة، فإن ثوابت الكون الأساسية - على الأقل هنا والآن - تقع ضمن النطاق الذى يسمح بتطورها. أما المبدأ القوى، فيضيف عبارة قوية مفادها أن الثوابت الأساسية يجب أن تكون لها قيم ضمن هذا النطاق لأنها تتوافق مع وجود الحياة. وتُعدّ عبارة "يجب" مهمة، إذ يمكن اعتبارها دلالة على أن الكون موجود لدعم الحياة.

إذا كان المبدأ الضعيف ينص على: "لقد سمعت صوت شجرة تسقط فى الغابة، وبالتالى لا بد أن أكون فى مكان يمكن للأشجار أن تنمو فيه"، فإن المبدأ القوى ينص على "لقد سقطت شجرة قريبة، وبالتالى كان من المقدر لهذا الكوكب أن يحتوى على غابات منذ البداية".

بالنسبة للعلماء اليوم، يُذكرنا مبدأ "الأنثروبولوجيا" الضعيف بالتحيزات المحتملة فى رصد الكون، خاصةً إذا لم يكن الكون هو نفسه فى كل مكان.  يقول "شون كارول" من "جامعة جونز هوبكنز" بولاية "ماريلاند": "إذا كنا نعيش فى كون يختلف من مكان لآخر، فسنجد أنفسنا بطبيعة الحال فى مكان تتوفر فيه بعض الظروف المحددة المؤاتية للحياة".

أما بالنسبة للنسخة القوية من المبدأ، فهناك فيزيائيون يعتبرونها مفيدة أيضًا، ومن بينهم "بارنز". يعمل "بارنز" على تطوير نماذج مختلفة من نماذج الأكوان المتعددة، ويرى فى المبدأ القوي دليلاً عمليًا. ويشير إلى أنه، داخل الأكوان المتعددة، هناك احتمال بنسبة 100% لتكوين كون واحد على الأقل مواتٍ للحياة. لذا، بالنسبة لأى نموذج متعدد الأكوان، كلما اقتربت هذه الاحتمالية من 100%، زادت مصداقيته. إذا كان الاحتمال، مثلاً، حوالى 50%، يرى "بارنز" ذلك فألًا حسنًا لصحة النموذج. ويضيف: "لكن إذا كانت النسبة ضئيلة، فهذه مشكلة".

فى الحقيقة، مع ذلك، يعتبر معظم الفيزيائيين أن المبدأ القوى هو ببساطة شديد القوة. فهو يوحى بأن الكون حتمى؛ وأن الحياة كانت دائمًا حتمية الظهور، ووفقًا لإليوت سوبر من "جامعة ويسكونسن-ماديسون": "لكن كان من الممكن أن يكون هذا الاحتمال ضئيلًا، وكان من الممكن أن تنشأ الحياة، وكانت ملاحظاتنا ستكون هى نفسها."

أين يتركنا هذا؟ يقدم المبدأ القوى، ظاهريًا، إجابة لمشكلة الضبط الدقيق - لكن هذه الإجابة تُعتبر على نطاق واسع غير منطقية. من ناحية أخرى، بينما لا يقدم المبدأ الضعيف سببًا لضبط ثوابت كوننا بدقة بالغة، إلا أنه أداة مفيدة للباحثين. ولكن وفى كل الأحوال فهذا المبدأ غامض نوعًا ما.

عن: "ليا كرين"

كيف نفكر فى "العقلية" "Mindset":

هناك مجموعة متزايدة من الأبحاث تُظهر أن عقليتنا قادرة بقوة على تشكيل حياتنا، وذلك بفضل تأثيرها على إدراكنا ودوافعنا وسلوكنا.

يقول "ديفيد ييجر" من "جامعة تكساس" فى "أوستن": "العقلية هى رؤيتك لكيفية عمل العالم من حولك - والذى يشملك أنت و بيئتك - والذى بدوره يُشكل تفسيراتك للعالم وردود أفعالك للأحداث، بالإضافة إلى أهدافك".

كانت "كارول دويك" من "جامعة ستانفورد" فى "كاليفورنيا" هى أول من روّج لهذا المفهوم. كانت مهتمة فى البداية بمعتقدات الناس حول الذكاء وكيف تؤثر هذه المعتقدات على تحصيلهم الدراسى.

فى الاستبيانات النفسية، يُؤيد بعض الناس بشدة عبارات مثل "ذكاؤك هو شىء أساسى جدًا فيك لا يمكنك تغييره كثيرًا". ويُقال إن هؤلاء الأشخاص لديهم "عقلية ثابتة".  يميل آخرون إلى تأييد عبارات مثل "مهما بلغ ذكاؤك، يمكنك دائمًا تغييره بشكل كبير". ويُقال عنهم إنهم يتمتعون بـ"عقلية النمو".

وجد بحث "ديويك" أن الأشخاص فى المجموعة الثانية يميلون إلى المثابرة والعمل بعد الفشل، وكانوا أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات خارج منطقة راحتهم - وهما سلوكان يشجعان على التطور الفكرى.

الأهم من ذلك، وجدت "دويك" وزملاؤها أن العقلية قابلة للتغيير؛ فمثلاً وجد أن تثقيف الناس حول مدى مرونة أدمغتهم الطبيعية، يبدو أنه يعزز عقلية النمو تلك. وعلى الرغم من بعض التكرارات الفاشلة، يبدو أن التأثير يكون قويا، وإن كان ذلك يعتمد أيضاً على السياق.

يقول "ييجر"، الذى قاد بعض هذه الدراسات: "يميل هذا التدخل للعمل بشكل أفضل فى الأماكن ذات الثقافة الداعمة، عندما يؤيد المعلمون عقلية النمو بشكل أكبر".

ومن خلال أبحاث "دويك"، اكتشف علماء النفس الآن العديد من العقليات الأخرى التى قد تؤثر على صحتنا وازدهارنا. وقد قادت "علياء كروم"، من "جامعة ستانفورد" أيضًا، أبحاثًا رائدة حول "عقلية التوتر"، حيث أظهرت أن الأشخاص الذين يعتقدون أن التوتر مُحسِّن ومُنشِّط يميلون إلى التعامل بشكل أفضل مع تحديات الحياة مقارنةً بمن يعتقدون أن التوتر مُنهك بطبيعته.

تشبه "كروم" عقلياتنا بـ"العدسات" التى تُصفى نظرتنا للعالم - وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن هذه العدسات البصرية يمكن أن يكون لها عواقب طويلة المدى على صحتنا. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجريت على رجال الإسعاف والطوارئ أن من يعتقدون أن التوتر يُفاقم الوضع، ولا يحسنه كانوا أقل عرضة للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، بغض النظر عن إجمالى كمية التوتر التى تعرضوا لها فى حياتهم.

قد يُعزز الجمع بين عقلية النمو وعقلية أن "التوتر يُفاقم الوضع ولا يحسنه" فوائد كليهما. 

فى سلسلة من الدراسات نُشرت عام 2022، وجد "ييجر" أن تدريس "عقلية شاملة" تجمع بين العقليتين يُحسّن الصحة النفسية والتقدم الأكاديمى للطلاب بشكل أفضل من أيا منهما بمفرده. يقول "ييجر": "هاتان العقليتان تسيران جنبًا إلى جنب. أنت تقوم بربط معتقداتك بشكل متسلسل".

مع ذلك، أُسىء أحيانًا تفسير الأبحاث حول العقلية. ذلك أن العلماء القائمون عليها لم يزعموا قط أن العقلية الإيجابية قادرة على صنع المعجزات - كما تُبرز هذا "ديويك" فى كتابها حول هذا الموضوع. 

كتبت فى كتابها "العقلية: علم النفس الجديد للنجاح": "هل يعتقد أصحاب العقلية [القائمة على النمو] أن أى شخص لديه دافع وتعليم مناسبين يمكنه أن يصبح "أينشتاين" أو "بيتهوفن"؟" "لا، لكنهم يعتقدون أن إمكانات الشخص الحقيقية مجهولة (وغير معروفة)".

يمكن أيضًا أن نعتبر تنمية عقلية النمو مبررًا للتشجيع غير النقدى، ومع ذلك، فإن امتلاك هذه العقلية غالبًا ما يعنى وضع معايير عالية. يقول "ييجر": "يتطلب الأمر أحيانًا التحلى بالصلابة، وأيضًا الدعم من شخص ما حتى يتمكن من النمو لتلبية تلك المعايير". "قد يكون الأمر غير مريح".

لذا، وعلى عكس خبراء التنمية الذاتية، لا يمكن للموقف الإيجابى وحده أن يجلب مكتسبات فورية. لكنه يمكن أن يساعدنا على بذل الجهود اللازمة لتحقيق أهدافنا - والتغلب على المصاعب التى نواجهها على طول الطريق. 

عن: "ديفيد روبسون"

كيف نفكر فى "أشباه الجسيمات""Quasiparticles":

عندما نفكر فى الجسيمات، نميل إلى اعتبارها أجسامًا حقيقية - كيانات دقيقة تشبه النقاط ذات خصائص محددة مثل الموقع أو السرعة. لكن الجسيمات فى حقيقتها هى مجرد نبضات من الطاقة فى المجالات الكامنة التى تتخلل الكون، والتى لا يمكن رصدها مباشرةً. 

قد يتسبب هذا فى بعض الحيرة، مع ذلك، تنتظرنا حيرة أعمق عندما نفكر فى وجود أشباه الجسيمات، والتى تنشأ من التفاعلات المعقدة بين الجسيمات "الأساسية" فى المواد الصلبة والسائلة والبلازما. 

تتميز هذه الجسيمات بخصائص شبه سحرية تُبشرنا بمواد وتقنيات جديدة ومبتكرة، وفى نفس الوقت تُجبرنا على مواجهة بعض معتقداتنا الراسخة حول الجسيمات بشكل عام.

يقول "دوجلاس ناتلسون" من "جامعة رايس" فى "هيوستن"، "تكساس": "إنها تُزيد الأمور تعقيدا عندما نحاول تعريف مسألة ماهية الجسيم". يقول إن "شبه الجسيم" هو "نوع من الإثارة داخل مادة ما، وهو يتمتع بالعديد من الخصائص التى تُشبه الجسيم". يمكن أن يكون لها موضع وسرعة محددان جيدًا، ويمكن أن تحمل شحنة، ويمكنها حمل طاقة. فلماذا إذن تُعتبر "شبه جسيمات" فقط، وليست جسيمات حقيقية؟

يتلخص الأمر فى وجودها داخل المادة فقط. يُشبّه "ناتلسون" الأمر بالمتفرجين الذين يُحدثون حركة "الموجة" فى الملعب. "يمكننا أن ننظر إلى الموجة ونقول: انظروا! هناك موجة، إنها ضخمة جدًا وتتحرك بسرعة معينة. لكن الموجة فى الواقع هى هذا الشىء الجماعى المُكوّن من سلوك جميع المشجعين فى الملعب."

لإنتاج "أشباه الجسيمات"، يأخذ الفيزيائيون جسمًا، مثل قطعة معدنية، ويُخضعونها لدرجات حرارة أو ضغوط أو مجالات مغناطيسية شديدة. ثم يراقبون السلوك الجماعى للجسيمات داخلها.

تم اكتشاف إحدى أولى هذه الظواهر الغريبة فى أربعينيات القرن الماضى. كانت عبارة عن "ثقب": غياب إلكترون سالب الشحنة حيث يجب أن يوجد. تقفز هذه الثقوب داخل المواد الصلبة مثل الجسيمات موجبة الشحنة، وبمعاملتها ككيانات مستقلة، تمكن الباحثون من صنع أشباه الموصلات التى تقوم بتشغيل إلكترونياتنا.

 يقول "ليون بالنتس" من "جامعة كاليفورنيا"، "سانتا باربرا": "فى الأساس، تعتمد جميع الأجهزة الإلكترونية الحديثة على الإلكترونات والفجوات. ونستخدم هذه الجسيمات شبه الذرية باستمرار".

خلال العقود الماضية، تم اكتشاف مجموعةً واسعةً من أشباه الجسيمات. فهناك الماجنونات، التى تنبثق من موجات تدور حول نفسها، وهى الخاصية الكمومية التي تُشكل أساس المغناطيسية. وهناك "أزواج كوبر"، التى تنبثق عند درجات حرارة منخفضة وتحمل شحنة كهربائية دون أى مقاومة، الموجودة فى الموصلات الفائقة. ويتوقع الفيزيائيون أن تستمر هذه القائمة فى الازدياد  لأنواع أغرب بأسماء غريبة، بما فى ذلك "البيتونات"، و"الفركتونات"، وحتى "رينكلونات".

يقول "بالنتس" إن من أكثرها إثارةً للاهتمام هى "الأنيونات غير الآبيلية". فعلى عكس الجسيمات الأخرى التى نعرفها، تستطيع أشباه الجسيمات هذه أن تتذكر كيفية التلاعب بها - وهى خاصية تجعلها خيارًا جذابًا للاستخدام فى الحواسيب الكمومية.

يقول "بالنتس": "لم يُحسم الأمر بعد عما إذا كانت ستكون مفيدة بالفعل". ومع ذلك، تستثمر "مايكروسوفت" وشركات كبرى أخرى بكثافة فى أبحاث "أشباه الجسيمات".

 السبب الآخر وراء جاذبية "أشباه الجسيمات" يعود بنا إلى سؤال ماهية الجسيم. إذا كانت لأشباه الجسيمات خصائص شبيهة بالجسيمات، فعلينا أن نأخذ فى الاعتبار أن الجسيمات "الأساسية" التى تنشأ من تفاعلاتها - الإلكترونات والفوتونات والكواركات - قد تنشأ هى نفسها من شىء أعمق.

"هل الأشياء التى نعتبرها جسيمات أساسية هى فى الواقع أساسية بالفعل، أم أنها بطريقة ما أشباه جسيمات لنظرية أساسية كامنة؟" 

عن: "دانيال كوسينز"

كيف نفكر فى التعايش (التكافل) بين الكائنات "Symbiosis":

خلال أول مليارى سنة من الحياة على الأرض، هيمنت "البكتيريا وحيدة الخلية" وأبناء عمومتها، "العتائق"(archaea) على الوضع. كانت الأرض هشة، وكان من الممكن أن تبقى على هذا النحو لولا حدوث أهم اندماج واستحواذ فى تاريخ كوكبنا.

ابتلعت إحدى تلك الخلايا العتائقية خلية بكتيرية، وبطريقة ما، نجت البكتيريا. تكاثرت الخليتان معًا، ومع مرور الوقت، أصبحت البكتيريا المبتلعة هى "الميتوكوندريا"، وهى بنية صغيرة كانت بمثابة مصدر طاقة لتلك الخلية المبكرة.

أظهر "نيك لين" من "كلية لندن" الجامعية أن "الميتوكوندريا" سمحت لهذه الخلايا بالتعبير عن جينات أكثر بـ 200,000 مرة، مما مكّنها من النمو وإنتاج أشكال لا حصر لها. أصبح هذا المزيج الجديد هو "الخلية حقيقية النواة المعقدة"، والتى أدت فى النهاية إلى ظهور تقريبًا كل كائن حى يمكن رؤيته بدون مجهر، بما فى ذلك نحن أنفسنا.

هذا "التكافل" هو سبب وجودنا, وهو لا يزال يُغذينا حتى الآن. تقوم أكثر من 80% من أنواع النباتات البرية بتكوين علاقات تكافلية مع الفطريات الجذرية، حيث يُوفّر الفطر العناصر الغذائية، ويُوفّر النبات الغذاء للفطر. لولا هذه العلاقة، لما كان لدينا الأكسجين للتنفس. 

التربة نفسها تشكّلت نتيجة علاقة تكافل ما بين الفطريات والبكتيريا والنباتات، التى لم تكن لها جذور عندما انتقلت إلى اليابسة من المحيطات، منذ حوالى 500 مليون سنة.

عندما يسمع معظمنا كلمة "التكافل"، ربما نفكر فى أشكال الحياة التى "تعيش معًا"، وهو المعنى الحرفى للكلمة (Symbiosis) فى الأصل اليونانى. إنها سمكة المهرج التى توجد فى الشعاب المرجانية، مع كل ما توفره من تشكيلة رائعة من أشكال الحياة. وهى تلك الرابطة الوثيقة بين كائنات حية من مملكتين أو حتى ثلاث ممالك منفصلة للحياة. 

بعبارة أخرى، للتكافل دلالات إيجابية، ونفترض أنه يعنى ترتيبًا متناغمًا ذا منفعة متبادلة.

مع ذلك، فمن الأفضل اعتبار العلاقات التكافلية ممتدة على سلسلة متصلة، من التطفل فى أحد طرفيها إلى التكافل فى الطرف الآخر.

تقول "كاتى فيلد' من "جامعة شيفيلد" بالمملكة المتحدة: "لا تظنوا أن التكافل عطاءً غير أنانى: فالشركاء عادةً ما يعطون شيئًا ليتلقوا شيئًا آخر لاحقًا".

لمعرفة كيفية عمل هذه السلسلة المتصلة، يكفى النظر إلى تنوع الطرق التى تُظهرها بساتين الفاكهة. بذور الأوركيد صغيرة الحجم، تكاد تنعدم فيها الموارد، لذا من أجل أن تنبت، يجب عليها أن تتطفل دائمًا على الفطريات الجذرية فى التربة، بحيث تسرق منها السكريات والمغذيات. ولاحقًا، عندما تنمو أوراقها، تبدأ بعض الأنواع بتعويض الفطريات، وتبدأ علاقة تكافلية.

هناك أيضاً حالات تُوفر فيها بساتين الأوركيد الكبيرة الغذاء لبساتين الأوركيد الصغيرة. وهناك أنواع أخرى من الأوركيد لا تُنتج أوراقًا خضراء أبدًا، وتبقى متطفلة طوال حياتها. يقول "فيلد": "يوجد لدينا هذه الدورة الكاملة من مراحل مختلفة من الوظائف التكافلية".

هناك كذلك طريقة أخرى مهمة وعملية للتفكير فى "التكافل" باعتباره مفتاحٍ لمستقبلنا. تستخدم البقوليات، مثل الفاصوليا والعدس، بكتيريا تكافلية لإنتاج سمادها الخاص من النيتروجين الموجود فى الهواء. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن طريقة النباتات فى القيام بذلك مُقتبسة من آليات خلوية موجودة مسبقًا.

هذا يعنى أنه من الممكن القيام بهندسة محاصيل أخرى - وخاصة الحبوب مثل القمح والذرة، والتى تُساهم بنصف السعرات الحرارية التى يتناولها الناس - لإنتاج سمادها الخاص. يقول "جايلز أولدرويد" من "مركز علوم المحاصيل" بجامعة "كامبريدج". إذا نجحنا فى ذلك، يُمكننا خفض كمية السماد التى نستخدمها فى الحقول بشكل كبير.

يقول "أولدرويد"، والذى يقوم بإجراء تجارب على محاصيل مُعدّلة بغرض تعزيز خواصها التكافلية، إن مهمته هى التخلص من الأسمدة الكيماوية. ويضيف: "أنا متفائل للغاية بأننا سنحقق ذلك".

عن: "روان هوبر"

كيف نفكر فى الهندسة الجيولوجية "Geoengineering":

نحن نعلم أن الحل الوحيد الآمن وطويل الأمد للتغير المناخى هو خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحرارى. ولكن فى ظل استمرار ارتفاع الانبعاثات وتفاقم آثار المناخ، يدرس البعض خيارًا لم يكن ليخطر على بال الباحثين - حتى وقت قريب.

"الهندسة الجيولوجية" هو مصطلح شامل يُستخدم لوصف التدخلات البشرية فى أنظمة المناخ، والتى تهدف عمومًا إلى الحفاظ على النظم البيئية أو تبريد الكوكب. لكن تحديد ما يُعتبر "هندسة جيولوجية" يظل أمرٌ معقد. ففى أوسع معانيها، يمكنها أن تشمل أى شىء بدءًا من زراعة الأشجار وصولًا إلى دعم الصفائح الجليدية بستائر عملاقة تحت الماء.

بعض أفكار الهندسة الجيولوجية تكون أكثر إثارة للجدل من غيرها. فإعادة التشجير على نطاق واسع، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُعتبر إجراءً مناخيًا إيجابيًا مقبولًا على نطاق واسع. لكن بعض الأفكار الأكثر تطرفًا، مثل تعديل سلوك ضوء الشمس فى الغلاف الجوى للأرض، تثير قلقًا أكبر.

 تقول "جانيس لاشانس"، من "الاتحاد الجيوفيزيائى الأمريكى" (AGU)، وهى منظمة غير ربحية قامت مؤخرًا بوضع "إطارًا أخلاقيًا" للعلماء العاملين فى هذا المجال: "إنها مستويات متفاوتة من المخاطر والعوائد". وتضيف: "غرس الأشجار فى حديقة... سيكون على الأرجح سريعًا جدًا، وغير مثير للجدل على الإطلاق. ومع ذلك، يتغير الأمر بسرعة عندما نبدأ فى التفكير فى تقنيات جديدة، وطرق جديدة للقيام بالأشياء".

لنأخذ على سبيل المثال فكرة عكس المزيد من ضوء الشمس إلى الفضاء بغرض تبريد الكوكب، وهى ما تعرف بإدارة الإشعاع الشمسى (SRM). يمكن تحقيق ذلك بثلاث طرق أساسية، وتشير معظم دراسات النمذجة إلى أن هذه التقنية قد تُحدث تأثيرًا تبريديًا طفيفًا خلال بضع سنوات من الاستخدام، على الرغم من أنها قد تُسبب أيضًا اضطرابًا كبيرًا فى دورات هطول الأمطار وتكوين السحب.

لطالما كانت إدارة الإشعاع الشمسى موضوعًا بحثيًا محظورًا، ولكن مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة وتزايد حدة تأثيرات المناخ، فإنها تجذب المزيد من اهتمام العلماء والحكومات.

يقول بعض النشطاء إنه يجب علينا تجنب حتى مجرد البحث فى هذا النوع من التدخلات، محذرين من أنه يُخاطر بتشتيت انتباه الناس عن ضرورة خفض الانبعاثات بسرعة. لكن "آندى باركر" من مبادرة الدرجات، وهى منظمة غير حكومية تُركز على إدارة الإشعاع الشمسى، يُحذر من أن خفض الانبعاثات لم يعد أمراً كافيًا للبشرية للتعامل مع آثار تغير المناخ.

ويقول إننا "بحاجة إلى التفكير فى كيفية إدارة مخاطر غازات الاحتباس الحرارى التى أطلقناها بالفعل". بالإضافة إلى ذلك، ففى غياب البحوث والمناقشات الدولية حول الهندسة الجيولوجية، يتزايد خطر أن تُقرر جهة غير مسئولة، كدولة تعانى من آثار مناخية حادة، الشروع فى استخدام الهندسة الجيولوجية من جانب واحد.

فى ظل هذا، يدعم عدد متزايد من العلماء الآن البحث فى استراتيجيات الهندسة الجيولوجية. 

يقول "لاشانس": "هناك إدراك لدى بعض العلماء بأننا لا نحقق نتائج جيدة فى تحقيق أهداف اتفاقية باريس". وهذا ما دفع "الاتحاد الجيوفيزيائى الأمريكى" (AGU) إلى وضع إطاره الأخلاقى لتوجيه البحوث المتعلقة بالتدخلات المناخية.

ما يثير قلق الناس ليس فقط كيفية إجراء البحوث، بل أيضاً من يجرى هذه الأبحاث. غالبًا ما تطبق أفكار الهندسة الجيولوجية، فى البلدان منخفضة الدخل، وخاصة تلك الواقعة حول خط الاستواء، فى مواجهة عواقب غير مقصودة، مثل اضطراب أنماط الرياح الموسمية. لكن معظم الأبحاث المتعلقة بتقنيات الهندسة الجيولوجية تُجرى فى الدول ذات الدخل المرتفع، مع مساهمة أقل فى عملية التطبيق.

كجزء من مبادرة "الدرجات"، يعمل "باركر" مع باحثين من مختلف البلدان منخفضة الدخل فى نصف الكرة الجنوبى لبناء القدرات البحثية فى مجال إدارة الإشعاع الشمسى، على أمل أن يضمن ذلك تأثر أى قرار مستقبلى بهذا الشأن بمن هم الأكثر عرضة للخطر. 

يقول: "ليس لدينا أى موقف بشأن ما إذا كان سيتم استخدام إدارة الإشعاع الشمسى أم لا. لكننا نعتقد أن الدول النامية بحاجة إلى صوت مُستنير لإجراء أبحاثها الخاصة". 

عن: "مادلين كاف"

كيف نفكر فى الصداقة "Friendship":

قد تبدو الصداقات الهادفة كأنها أمر طبيعى. فنحن قد نستمتع بصحبة الآخرين أو لا نستمتع؛ وقد نجد الأمور نفسها مضحكة أو لا. لكن ماهية الصداقه، وما هى أنواعها المختلفة قد يكون  أمراً أكثر تعقيداً. 

على مدار العقد الماضى، بدأت الأبحاث الدقيقة تكشف ليس فقط عن مدى أهمية هذه العلاقات لسعادتنا، ولكن أيضًا عن كيفية ضمان ازدهار العلاقات المناسبة.

"جيفرى هول"، مدير مختبر العلاقات والتكنولوجيا فى "جامعة كانساس"، هو أحد الباحثين الذين يبحثون فى كيفية تعزيز وتقوية الصداقة. يقول إنه يجب أن ننظر إلى صداقاتنا على أنها سلسلة متصلة - من مجرد معارف وأصدقاء الأصدقاء، وصولاً إلى أعز أصدقائنا الذين يساندوننا دائمًا.

ويضيف: "المعيار الأدنى لتكوين الصداقة هو أن يكون هناك إعجاب بين شخصين، وأن يكون هناك تواصل مستمر يسمح بازدهار تلك العلاقة".  

نحن نتوقع الحصول على الشعور بالثقة معهم، ونتوقع أن نتمكن من البوح بأسرارنا لهم، وأنهم أشخاص نستمتع بقضاء الوقت معهم ونعطيهم الأولوية على الآخرين.

يلعب استثمار الوقت دورًا هامًا فى تعريفات "هول". 

فى سلسلة من الاستطلاعات، طلب من أشخاص انتقلوا مؤخرًا إلى مدينة أخرى أن يرسموا مسار حياتهم الاجتماعية الجديدة. وجد أن الناس يحتاجون إلى قضاء ما بين 57 و164 ساعة مع شخص ما قبل أن يُعتبروا "أصدقاء"، ونحو 200 ساعة معًا ليصبحوا "أصدقاء جيدين" أو "مقربين".

إن نوعية الوقت الذى نقضيه معًا أمرٌ بالغ الأهمية أيضًا. يقول "هول"، المؤلف المشارك لكتاب جديد بعنوان "البيئة الاجتماعية"، والذى يستكشف هذه المواضيع: "إنها إشراك الشخص فى شؤون حياتك اليومية - الأكل والشرب واللعب والخروج - لأنك ترغب فى وجوده، ومشاركة هذه الأشياء تجعله أفضل". فى المقابل، لم يُساعد إجبار بعضنا البعض على صحبة بعضنا البعض من خلال العمل أو الدراسة على تكوين صداقات. وبالطبع نحن أكثر عرضة لقضاء الوقت مع أشخاص يشبهوننا. 

على مدى العقد الماضى، حدد عالم الأنثروبولوجيا "روبن دنبار" من "جامعة أكسفورد"٠ سبعة "ركائز للصداقة" يبدو أنها تساهم بقوة فى تدعيم الروابط. وهى: امتلاك اللغة أو اللهجة نفسها، والنشأة فى نفس المكان، وامتلاك نفس الخبرات التعليمية والمهنية، وامتلاك نفس الهوايات والاهتمامات، وامتلاك نفس النظرة للعالم، وامتلاك نفس حس الفكاهة، وامتلاك نفس الذوق الموسيقى.

 سنشارك واحدًا أو اثنين فقط من هذه الركائز مع حوالى 150 شخصًا نُعرّفهم بشكلٍ عام، ولكن ستة أو سبعة سيشاركون معنا خمسة ركائز أو نحو ذلك، ويصبحوا من أقرب حلفائنا، ويشكلوا أهم علاقاتنا".

ومن المثير للدهشة أن أوجه التشابه بين الأصدقاء تمتد حتى إلى نشاطهم العصبى. فى عام 2018، طلبت "كارولين باركنسون" من "جامعة كاليفورنيا"، من طلاب جامعيين مشاهدة سلسلة من مقاطع الفيديو أثناء استلقائهم فى جهاز التصوير بالرنين المغناطيسى الوظيفى. ووجدت أنها تستطيع التنبؤ بمن هم الاصدقاء بناءً على تشابه ردود فعل أدمغتهم تجاه المقاطع التى كانوا يشاهدونها. كلما اقتربوا من بعضهم البعض، زاد احتمال استجابة نفس المناطق فى نفس الوقت.

يتوافق عمل "باركنسون" مع النظرية القائلة بأن وجود "واقع مشترك" - أى رؤية مشتركة للعالم - هو أساس أى علاقة قوية. تقول: "هؤلاء أشخاص ينتبهون إلى نفس الأشياء التى نهتم بها، ولديهم ردود فعل عاطفية مماثلة لما يرونه، وما إلى ذلك". وتضيف: "يمكن التنبؤ بهؤلاء الأشخاص وفهمهم بسهولة أكبر عند تفاعلنا معهم - مما يجعل المحادثات أكثر سلاسة، ويخفف من إرهاقهم، ويقلل من سوء الفهم".

هل يمكننا تجربة هذا التواصل عن بُعد؟ يعتقد "هول" ذلك. ويضيف: "ربما تكون المكالمات الهاتفية ومحادثات الفيديو مع الأشخاص الذين نحبهم بنفس أهمية التواصل وجهًا لوجه". "وخلق فرص روتينية للتواصل عبر الهاتف أو دردشة الفيديو يُحافظ على العلاقات ويغذيها". 

عن "دى آر"

كيف نفكر فى الهندسة "Geometry":

هل يمكنك تخيّل الأثر الذى قد يتركه شكل سداسى رباعى الأبعاد عند مروره عبر منضدة المطبخ ثلاثية الأبعاد؟ ربما لا، لكن البعض يستطيع ذلك.

من هؤلاء عالمة الرياضيات "أليسيا بول ستوت"، ابنة عالم المنطق "جورج بول". فى أوائل القرن العشرين، قامت بصنع نماذج للأشكال التى تقوم بتكوينها الأجسام رباعية الأبعاد عند مرورها عبر أجسام ثلاثية الأبعاد. بعد عقود، عندما تمكّن علماء الرياضيات من فحص هذه الأشياء باستخدام برامج الكمبيوتر، اكتشفوا أن "بول ستوت" امتلكت موهبةً خارقةً فى تخيل هذه الأشكال.

بالنسبة لمعظمنا، تُذكّرنا الهندسة بأقلام الرصاص والمساطر والمثلثات والدوائر. وتلك الأسئلة المعقدة التى كانت تُطرح علينا فى المدرسة حول الخطوط المتوازية والزوايا. ولكن كما تُظهر قصة "بول ستوت"، فقد تجاوزت الهندسة هذا بكثير منذ فترة.

 يمكن للهندسة أن تبتعد عن العالم المفهوم للأشكال ثنائية وثلاثية الأبعاد - وبذلك، يمكن أن تكون وسيلة ابداع مستنيرة للغاية.

ولعلّ أفضل مثال على ذلك هو "النسبية العامة"، نظرية الجاذبية لألبرت أينشتاين، التى تجمع الأبعاد الثلاثة للمكان مع الزمن، مما يخلق مسرحًا رباعى الأبعاد يتجسّد عليه كل شىء فى الكون.

لكن يمكن للهندسة الاستفادة أيضًا من أبعاد غير حقيقية فيزيائيًا. 

لنأخذ علم الأرصاد الجوية كمثال، حيث يمكن لنقطة فى الغلاف الجوى أن يكون لها "أبعاد" متعددة - خطوط العرض والطول ودرجة الحرارة والضغط وسرعة الرياح وما إلى ذلك.

يرسم الباحثون هذه الأبعاد كأشكال تمتد إلى أبعاد أعلى للمساعدة فى فهم آلية عمل الغلاف الجوى. تقول عالمة الرياضيات "سنيزانا لورانس" من "جامعة ميدلسكس" فى "لندن": "من خلال أشياء كهذه، يمكنك تطبيق نماذج رياضية واستنتاج ما يحدث [لهذه الخصائص] فى أبعاد متعددة".

بالنسبة لعلماء الفيزياء النظرية، تبدو الأبعاد الإضافية جزءًا ضروريًا من أى وصف شامل للكون، فعلى سبيل المثال يقترح البعض أن واقعنا ما هو إلا "إسقاط" من بُعد أعلى. قد يبدو هذا غريبًا، ولكن إذا افترض الفيزيائيون بعض الافتراضات التبسيطية المتعلقة بهذه الفكرة، فسيُتيح ذلك فجأةً إجراء حساباتٍ تتعلق بالجسيمات الأساسية والثقوب السوداء، وهى كانت حساباتٌ مستحيلةٌ بغير ذلك.

ويعتمد بعض الفيزيائيين على أفكارٍ هندسيةٍ أغرب كطريقٍ للوصول إلى "نظرية كل شىء"، أى ايجاد إطار واحد يفسر الكون وكل ما فيه. 

ومن هذه الأفكار "الأمبلتيدرون"، وهو جسمٌ رياضى طوّره "ياروسلاف ترنكا" من "جامعة كاليفورنيا"، و"نيما أركانى حامد" من "معهد الدراسات المتقدمة"، فى "نيوجيرسى", كبلورةٍ تجريديةٍ متعددة الأبعاد، تُوفّر خصائصها طريقةً بديلةً لوصف أساسيات فيزياء الجسيمات.

أو هناك "التثليث الديناميكى السببى"، الذى طورته "رينات لول" فى "جامعة رادبود" فى "هولندا". يجمع هذا التثليث مجموعة من الأشكال الهندسية لإنشاء وصف للزمكان يبدو أنه يتمتع ببعض خصائص كل من نظرية الكم والنسبية العامة - وهما فكرتان عادةً ما تكونا متعارضتان . وتقول "لول" إنه ليس مجرد مفهوم هندسى تجريدى، بل هو انعكاس قابل للاختبار لخصائص الكون الحقيقية التى يمكن أن تنعكس فى ملاحظاتنا لإشعاع الخلفية الكونية الميكرويفية الذى يملأ الفضاء بأكمله.

لا ترقى أيا من هاتين الفكرتين حتى الآن إلى "نظرية كل شىء". لكن البعض يظن أنه لكى يكون لدينا أى أمل فى إيجاد واحدة، فنحن نحتاج إلى رؤية جديدة للفيزياء - وهناك شعور متزايد بأن هذا قد يتم الوصول إليه بلغة الهندسة. وسواء كان ذلك صحيحًا أم لا، فإن الهندسة بالتأكيد أكثر من مجرد أشكال سداسية - حتى لو كانت رباعية الأبعاد. 

عن: "مايكل بروكس"

كيف نفكر فى وعى الحيوانات "Animal consciousness":

هل الكلاب واعية، بأفكارها ومشاعرها الخاصة؟ وماذا عن الحمام؟ عن النحل؟ ديدان الأرض؟ قنديل البحر؟ من المرجح أن تعكس إجابتك ميل البشر إلى نسبة "الوعى" إلى ما يُسمى الكائنات "الأعلى"، مع الشك فى كونه يمتد إلى الحيوانات "الأبسط"، مثل اللافقاريات.

فى الواقع، لا يمكننا الجزم أبدًا بوعى كائن آخر. وكما يقول "جوناثان بيرش" من "كلية لندن للاقتصاد"، مؤلف كتاب "حافة الإحساس": "الطبيعة الذاتية للتجربة تعنى أنه لا يمكنك الجزم تمامًا - لا يمكنك حتى الجزم بنسبة 100% بشأن البشر الآخرين".

ومع ذلك، يمكننا جمع الأدلة. لكن أولًا، يجب أن نحدد ما الذى نعنيه بالوعى. يقول "بيرش"، من المفيد هنا اتباع فكر الفيلسوف "هربرت فيجل" وتقسيم الوعى إلى ثلاث طبقات.

 أبسطها هو الإحساس، أى الإحساس الصافى باللحظة الراهنة، بما فى ذلك الإحساس بالعالم الخارجى والمشاعر الداخلية كالألم والمتعة والإثارة والملل. وفوق ذلك، تأتى طبقة "الإدراك"، أى القدرة على التأمل فى تجاربنا - القدرة على التفكير، مثلاً: "هذا الألم هو أسوأ ألم مررت به فى حياتى". أما الطبقة الأخيرة، وهى الذات أو"النفس"، فهى إحساسنا بأنفسنا ككائنات لها ماضٍ ومستقبل وحياة خاصة بنا.

تميل دراسات وعى الحيوانات إلى التركيز على الطبقة الأولى "الإحساس". تقول "كريستين أندروز" من "جامعة يورك" فى "تورنتو": "ركزت الكثير من هذه الأبحاث على الألم، مع أن الباحثين يتجهون نحو دراسة المشاعر الإيجابية كالفرح أيضًا". على سبيل المثال، قد تسبح الأسماك المتألمة إلى جزء من حوضها يحتوى على مسكن ألم مذاب فى الماء.

يأتى نوع ثانٍ من الأدلة على الإحساس من السلوك الاجتماعى. تقول "أندروز": "تتعلم الحيوانات اجتماعيًا الكثير من معارفها ومهاراتها". حتى الحشرات تفعل ذلك. ذباب الفاكهة، على سبيل المثال، يتعلم مع من يتزاوج من خلال مشاهدة ذباب فاكهة آخر يتزاوج.

يتجلى مدى وعى بعض الحيوانات بسياقها الثقافى، ففى بعض النتائج الاستثنائية، كما فى ذلك الاكتشاف الأخير بأن الفئران تقدم، على ما يبدو، "إسعافات أولية" لرفاق لهم فاقدى الوعى. كما بحث الباحثون عن الذاكرة العرضية، وهى القدرة على استعادة تجارب الماضى - مما يوحى بالذات - ووجدوها موجودة لدى العديد من الثدييات، بما فى ذلك الجرذان والشمبانزى، وكذلك لدى بعض الطيور.

وعلى الرغم من تزايد الأدلة على انتشار "الإحساس"، إلا أننا ما زلنا لا نفهم المتطلبات العصبية الحيوية للوعى. تقول "أندروز" أن هناك بعض الدراسات على الثدييات تشير إلى مناطق معينة فى الدماغ "لكن لا يمكننا التعميم على أنواع أخرى ذات بُنى عصبية مختلفة تمامًا". على سبيل المثال، لا تمتلك الحشرات دماغًا يشبه دماغ الإنسان، ومع ذلك، هناك أدلة قوية على قدرتها على الشعور بالألم، وبالتالى فهى واعية.

مع ذلك، أصدرت "أندروز" و"بيرش" وزملاؤهما العام الماضى "إعلان نيويورك حول الوعى الحيوانى"، الذى ينص على وجود "إمكانية واقعية للتجربة الواعية" حتى لدى العديد من اللافقاريات. وتذهب "أندروز" إلى أبعد من ذلك، فتجادل بأنه ينبغى علينا البدء بافتراض أن جميع الحيوانات واعية.

هذا يُقلب الافتراضات الحالية لدى معظم علماء الأحياء، ولكنه قد لا يكون مُبالغاً فيه بالنسبة لنا جميعاً. 

يقول "بيرش" إن فكرة أن الحيوانات آلات بلا مشاعر هى "انحراف عن العلم فى الغرب". "ذلك أن الثقافات غير الغربية طالما اعتبرت، هم وكثير من الناس فى الغرب، خارج الأوساط الأكاديمية، أن الحيوانات كائنات واعية".

عن: "مايكل مارشال"

كيف نفكر فى التراكب الكمى "Quantum superposition":

يقول الفيزيائى "مارسيلو جليزر": "تكون هناك دائمًا نظرة استياء على وجوه الطلاب عندما يدرسون التراكب الكمى لأول مرة". لقد قام "جليزر" بتدريس ميكانيكا الكم، النظرية التى تحكم عالم الذرات والجسيمات المجهرية، لعقود، ويظهر الانزعاج على طلابه دائماً فى الوقت المناسب: عندما يصل إلى الجزء المتعلق بوجود الأجسام الكمومية ظاهريًا فى عدة أماكن فى آن واحد.

المشكلة هى أن كلمات مثل "ظاهريًا" تتكرر كثيرًا حول هذا الموضوع. فى الواقع، منذ ظهور فكرة التراكب قبل قرن تقريبًا، ظل معناها الحقيقى محل خلاف. الشىء الوحيد الذى يتفق عليه الفيزيائيون هو أنها تقودنا إلى جوهر معنى أن يكون الشىء "حقيقيًا".

نقطة الانطلاق الجيدة هى "معادلة شرودنجر". تم وضع هذه المعادلة بواسطة "إروين شرودنجر" فى عشرينيات القرن الماضى، وهى حجر الأساس فى "نظرية الكم"، إذ تُخبرنا باحتمالية وجود جسيم فى حالة مُحددة عند قياسه. الفكرة هى أن ميكانيكا الكم تُعنى بالتنبؤ بنتيجة موقف ما، فهى لا تُقدِّم أى معلومات مُحددة حول ما كان يفعله الجسيم قبل قياسه.

ومع ذلك، تعمل معادلة "شرودنجر" على وصف جميع الأماكن المُحتملة التى قد يكون فيها الجسيم قبل قياسه باستخدام دالة الموجة. وهذا يُعطينا تعريفًا رياضيًا واحدًا للتراكب: إنه مجموع حالات كمومية مُختلفة مُمكنة.

نحن نعلم يقينًا أن الجسيمات يمكن أن توجد فى حالة تراكب. ففى "تجربة الشق المزدوج"، على سبيل المثال، يُطلق فوتون واحد، وهو جسيم ضوئى، نحو شبكة ذات فجوتين ضيقتين أمام شاشة. إذا كان هناك كاشف يراقب، فسيلتقط الفوتون أحد الشقين ويصطدم بنقطة محددة على الشاشة. أما إذا لم يكن هناك كاشف، فسيظهر "نمط تداخل" على الشاشة، مما يوحى بأن الجسيم تصرف كموجة وعَبَر الشقين فى آن واحد، متفاعلًا مع نفسه.

ما لا نعرفه على وجه اليقين هو معنى "التواجد فى حالة تراكب". 

توجد بشكل عام وجهتا نظر. إحداهما تقول إن دالة الموجة أداة رياضية مفيدة، لا أكثر. هذه هى وجهة نظر "جليزر"، من "كلية دارتموث"، فى "نيو هامبشاير". يقول: "لا شىء فى شكليات ميكانيكا الكم يُشير إلى أن دالة الموجة يجب أن تكون جزءًا من الواقع الفيزيائى. إن الاعتقاد بأن الرياضيات حقيقة أصبح أشبه بكونه عقيدة".

 يدعم "جلايزر" تفسيرًا لميكانيكا الكم يُسمى "البيزية الكمومية"، والذى ينص على أن النظرية لا تصف الواقع فى حد ذاته، بل تصف ما نعرفه عنه. ففى النهاية، ما يتغير عند قياس حالة كمية هو معلوماتنا عنها، وليس الواقع نفسه.

ولكن هناك فريق يدحض بقوة هذا الرأى، ويرفضه رفضًا قاطعًا. يعتقد "سايمون سوندرز"، الفيلسوف ب"جامعة أكسفورد"، أن دالة الموجة حقيقية. بالنسبة له، يكون الجسيم فى حالة تراكب ماديًا، ويوجد فى أكثر من مكان فى آنٍ واحد. يقول: "إنه جسم ممتد، غير موضعى". 

وفقًا لهذا المنظور، يجب أن نقبل أن عالم الجسيمات لا يحمل أى تشابه مع الواقع كما نختبره. على سبيل المثال، توجد الإلكترونات التى تدور حول ذرة كسحابة من الاحتمالات قبل أن نقيسها.

غالبًا ما يتساءل منتقدو هذا الموقف عمّا يحدث لتلك الاحتمالات الأخرى عندما يُجمّع قياسٌ جسيمًا فى مكانٍ واحد. يُرحّب "سوندرز" بالإجابة الجذرية القائلة بأنّ جميعها تتجلى فى فرعٍ خاصٍّ بها من الكون المتعدد اللانهائى.

فى كل الأحوال فإن هذا السؤال لن يُحلّ قريبًا. وفى غضون ذلك، تجاوز الباحثون وضع الجسيمات المفردة فى حالة تراكب - فقد تحقّق ذلك لجزيئاتٍ كبيرة، بل وحتى لبلورةٍ وزنها 16 ميكروجرامًا. وإن كان هذا يُشير إلى شىء، فهو أنّ الواقع أغرب بكثير مما يبدو. 

عن: "ميريام فرانكل"

كيف نفكر فى الميتافيزيقيا "Metaphysics":

 يبدو أن سمعة "الميتافيزيقيا" هى أمر مشكوك فيه إلى حد ما. 

يقول الفيلسوف "ستيفن مومفورد" من "جامعة دورهام"، "المملكة المتحدة"، ومؤلف كتاب "الميتافيزيقيا: مقدمة قصيرة جدًا": "أعتقد أن الكثير من الناس يعتقدون أنها مجرد مضيعة كاملة للوقت. فهم يعتقدون أنها مجرد جدال حول أسئلة لا طائل منها، من قبيل، كم ملاكًا يستطيع الرقص على رأس دبوس؟"

من السهل معرفة السبب فى ذلك. فالميتافيزيقيا الكلاسيكية - مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية "ميتا"، والتى تعنى ما وراء - تتأمل فى بعض الأسئلة التى تبدو غريبة. ما هى الطاولة؟ ما شكل وجود الألوان؟ بالإضافة إلى ذلك، فهى تفعل ذلك من خلال التفكير وحده، باستخدام أدوات مثل "الاختزال إلى العبث" - وهو أسلوب جدلى يسعى إلى إثبات ادعاء ما من خلال استنباطات عبثية تبدأ من إنكاره. إنه بعيد كل البعد عن المعرفة التجريبية التى يسعى العلماء إلى تحقيقها من خلال الملاحظة والتجربة.

 لكن فكرة أن "الميتافيزيقيا" هى مجرد نظرية مجردة هى فكرة خاطئة، وكما يقول "مومفورد": "الميتافيزيقيا تتعلق بالبنية الأساسية للواقع، والتى تتجاوز المظاهر. إنها تتعلق بذلك الجزء من الواقع الذى لا يمكننا معرفته تجريبيًا".

فى الواقع، مع توسع العلم الحديث إلى مجالات كانت تُعتبر فى السابق من اختصاص الميتافيزيقيا، مثل طبيعة الوعى أو معنى ميكانيكا الكم، أصبح من الواضح أن أحدهما لا يمكن أن ينجح بدون الآخر.

لمعرفة السبب فى ذلك، فإن أول ما يجب فهمه هو أن لكل شخص معتقدات ميتافيزيقية. تقول "فانيسا سيفرت"، فيلسوفة العلوم بجامعة بريستول بالمملكة المتحدة: "على سبيل المثال، ربما نؤمن بوجود الأشياء حتى لو لم ننظر إليها، رغم عدم وجود دليل تجريبى قاطع على ذلك".

هناك أيضًا ما يُسمى "الميتافيزيقيا الطبيعية"، والتى تختلف عن الميتافيزيقيا الكلاسيكية من حيث أنها مُستنيرة بالعلم، فكما تقول "سيفرت": "أنت تنظر إلى ما يخبرنا به العلم عن العالم، وتبحث فى كيفية تفسيره حرفيًا".

يقدم هذا النوع من الميتافيزيقيا خدمة حيوية للعلم لأنه يدرس الافتراضات التى تقوم عليها محاولاتنا لفهم العالم. يقول "مومفورد": "فى كثير من الحالات، تُشكل المعتقدات الميتافيزيقية الأساس الذى تُبنى عليه المعرفة التجريبية". خذ على سبيل المثال السببية - فكرة أن للنتائج أسبابًا - والتى نؤمن بها جميعًا على الرغم من أن الروابط السببية غير قابلة للملاحظة.  

يقول: "في الأساس، يرتكز العلم برمته على هذا المفهوم الميتافيزيقى للسببية".

فى هذه الأيام، يتعامل العلماء بانتظام مع مختلف المفاهيم الأخرى المتأصلة بعمق فى الميتافيزيقيا، بدءاً من العناصر الكيميائية والمكان والزمان إلى مفهوم الأنواع وقوانين الطبيعة.

يقول "مومفورد": "لدينا خيار. إما أن ندقق فى معتقداتنا الميتافيزيقية بحثًا عن تماسكها أو أن نتجاهلها. لكن فى تلك الحالة الأخيرة، فإننا نقوم بافترضها دون تفكير".

من أبرز الحالات التى يصطدم فيها العلم بالميتافيزيقيا هى "ميكانيكا الكم"، التى تصف عالم الذرات والجسيمات. إنها نظرية علمية ناجحة للغاية، ومع ذلك، عند محاولة فهم معناها، يتعين على الفيزيائيين مواجهة أسئلة ميتافيزيقية، مثل كيفية تفسير التراكب الكمى، والقدرة الظاهرية لنظام كمى على الوجود فى حالات متعددة فى آن واحد.

هنا، كل ما لدينا هو تفسيرات متنافسة لما يحدث بالفعل، والتى لن تخضع للاختبار التجريبى، وقد أصبح من الواضح أن التقدم سيكون مستحيلًا دون مواجهة افتراضاتنا الخفية. 

لتحقيق ذلك، بدأ بعض الباحثين مؤخرًا بإحياء تقليد يُعرف باسم "الميتافيزيقيا التجريبية"، حيث يختبرون تماسك المعتقدات الميتافيزيقية التى تقوم عليها التفسيرات المختلفة لنظرية الكم.

يقول "إريك كافالكانتى"، من "جامعة جريفيث" فى "بريسبان"، "أستراليا"، وهو أحد أبرز مؤيدى هذا النهج: "فى النهاية، لا يمكن دراسة الفيزياء بدون ميتافيزيقيا. يجب علينا التعامل مع كليهما فى الوقت نفسه".

كيف نفكر فى... الحواسيب الكمومية "Quantum computers":

على مدار العقد الماضى، تطورت الحوسبة الكمومية لتصبح صناعةً بمليارات الدولارات. ويبدو أن الجميع يستثمر فيها، بدءًا من عمالقة التكنولوجيا، مثل "آي بي إم" و"جوجل"، وصولًا إلى الجيش الأمريكى والصينى.

لكن "إجناسيو سيراك"، من "معهد ماكس بلانك" للبصريات الكمومية فى "ألمانيا"، وهو رائد فى هذه التقنية، لديه تقييم أكثر واقعية. 

يقول: "الحاسوب الكمومى هو شىء غير موجود حاليًا". ذلك لأن بناء مثل هذا الحاسوب، وجعله يعمل بالفعل بطريقه عملية الاستخدام - هو أمرٌ بالغ الصعوبة.

فبدلًا من "البتات" المستخدمة فى الحاسبات التقليدية، تستخدم هذه الحواسيب لتشفير المعلومات البتات الكمومية، أو الكيوبتات. يمكن تصنيع هذه البتات بطرقٍ متعددة، بدءًا من الدوائر فائقة التوصيل الدقيقة ووصولًا إلى الذرات شديدة البرودة، ولكنها جميعها معقدة البناء. الجانب الإيجابى هو أنه يمكن استخدام خصائصها الكمومية لإجراء أنواع معينة من العمليات الحسابية بسرعة أكبر من الحواسيب القياسية.

 تُعدّ مثل هذه التسريعات مُغرية لمجموعة من المشاكل التي تُواجهها الحواسيب العادية، بدءًا من محاكاة أنظمة فيزيائية مُعقدة وصولًا إلى القيام بجدولة رحلات الركاب بكفاءة. 

قبل خمس سنوات، بدا أن الحواسيب الكمومية ستُحسّن هذه التحديات الحسابية وغيرها الكثير. اما اليوم، فقد أصبح الوضع أكثر تعقيدًا. فالتقدم المحرز فى بناء حواسيب كمومية أكبر حجمًا كان بلا شك مذهلًا، حيث طورت العديد من الشركات آلاتٍ بأكثر من 1000 كيوبت. لكن هذا كشف أيضًا عن صعوباتٍ يستحيل تجاهلها.

احد هذه المشكلات الرئيسية هى أنه مع ازدياد حجم هذه الحواسيب، فإنها تميل إلى ارتكاب أخطاء أكثر، وقد ثبت أن إيجاد طرق لمنع هذه الأخطاء أو إصلاحها أصعب مما كان متوقعًا. فى العام الماضى، قام باحثو "جوجل" بتحقيق أكبر تقدمٍ حتى الآن لحل هذه المشكلة، ولكن مع ذلك، لم تظهر بعد أى حواسيب كمومية متكاملة ومفيدة - كما يشير "سيراك".

ولهذا السبب، قد تكون قائمة التطبيقات الواقعية لهذه الآلات أقصر مما كنا نأمل. فمقارنة تكلفة بناء واحدٍ مقابل الوفورات التى يمكن أن يحققها، والتى هى أقل مما كنا نتوقع، وفى العديد من حالات الاستخدام، قد لا يكون منطقيًا من الناحية الاقتصادية. 

يقول "سيراك": "أكبر فكرة خاطئة هى أن الحاسوب الكمومى قادر على تسريع أى مشكلة".

 إذًا، ما هى المشكلات التى قد تستفيد من الحوسبة الكمومية؟ 

يقول "سكوت آرونسون" من "جامعة تكساس" فى "أوستن": "يمكن للحواسيب الكمومية اختراق أنظمة التشفير التى نستخدمها حاليًا للاتصالات الآمنة، وهذا ما يجعل هذه التقنية مثيرة للاهتمام للحكومات والمؤسسات الأخرى التى قد يتعرض أمنها للخطر بسببها".

من المجالات الأخرى التى يُفترض أن تظل فيها الحواسيب الكمومية مفيدةً: نمذجة المواد والتفاعلات الكيميائية. ذلك لأن الحواسيب الكمومية، وهى بحد ذاتها نظام من الأجسام الكمومية، مُهيأة تمامًا لمحاكاة أنظمة كمومية أخرى، مثل الإلكترونات والذرات والجزيئات.

يقول "دانيال جوتسمان" من "جامعة ماريلاند": "ستكون هذه نماذج مُبسطة؛ ولن تُمثل مواد حقيقية. ولكن إذا صُمم النظام بشكل مناسب، فستحتوى على ما يكفى من خصائص المواد الحقيقية التى تُمكّننا من تعلّم شىء ما عن فيزياءها".

قد تبدو محاكاة الكيمياء الكمومية أكثر أهمية من جدولة الرحلات الجوية، لكن بعض النتائج المحتملة - مثل التوصل إلى إيجاد موصل فائق فى درجة حرارة الغرفة - ستكون ثورية.

يعتمد مدى إمكانية تحقيق كل هذا فعليًا بشكل كبير على خوارزميات الكم، وهى التعليمات التى تُرشد الحواسيب الكمومية إلى كيفية العمل - وتُساعد فى تصحيح تلك الأخطاء المُزعجة. 

يقول "فيدران دونيكو" من "جامعة لايدن" فى هولندا: "هذا مجال جديد ملىء بالتحديات، إنه يُجبر الباحثين على مواجهة أسئلة جوهرية حول ماهية المعلومات والحوسبة".

ويقول "دونيكو": "إن هذا يُعطى دافعًا رائعًا لدراسة صعوبة المشكلات وقوة أجهزة الحوسبة. بالنسبة لى، هذا سبب كافٍ لتخصيص جزء كبير من حياتى لهذه الأسئلة". 

عن: "كارميلا بادافيك-كالاجان"



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

الأنبياء - قصة قصيرة

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"