"مصر" وسد النهضة: أزمة وجود لا تقبل التفاوض أو المقايضة

منذ آلاف السنين، ارتبطت حياة المصريين بنهر النيل. هذا النهر لم يكن مجرد مجرى مائى، بل شريان حياة صنع الحضارة المصرية. لكن فى العقود الأخيرة، أصبحت المياه مصدرًا للصراع. 

وتمثلت أخطر الأزمات فى سد النهضة الإثيوبى، هذا المشروع الضخم الذى بدأته إثيوبيا عام 2011 على النيل الأزرق، الرافد الرئيسى لنهر النيل.

إنه أكبر سد فى "إفريقيا"، ويصل ارتفاعه إلى 145 مترًا، وتبلغ سعته التخزينية حوالى 74 مليار متر مكعب، ما يعادل تقريبًا كامل الحصة السنوية لمصر من المياه، التى تبلغ 55.5 مليار متر مكعب.

المشكلة الأساسية لا تكمن فقط فى بناء السد؛ لكن فى طريقة إدارته، خاصة فى ظل غياب اتفاق قانونى ملزم بشأن ملء وتشغيل السد، وهو ما يعرض "مصر" لخطر شديد.

تتضمن التأثيرات السلبية على "مصر" نقصاً هائلاً فى المياه، حيث أن "مصر" تعتمد بنسبة تفوق 95% على مياه النيل. وبالتالى فإن أى تقليص فى تدفق المياه سيؤدى إلى نقص حاد فى المياه المستخدمة للزراعة، والصناعة، والاستهلاك اليومى. وإذا ما تم ملء السد بشكل أحادى دون تنسيق، فهناك احتمال لفقدان ملايين الأفدنة الزراعية داخل "مصر".

هناك أيضاً التأثير الاقتصادى والاجتماعى، فنقص المياه يهدد الأمن الغذائى المصرى، وقد يؤدى إلى زيادة الاعتماد على الاستيراد، وسيصحب ذلك تفاقم فى معدلات البطالة فى القطاع الزراعى، وارتفاع فى تكلفة إنتاج المحاصيل.

بالإضافة إلى التحديات البيئية المرتبطة بالمشروع مثل انخفاض منسوب المياه، الذى قد يؤدى إلى تدهور جودة المياه بسبب زيادة نسبة الملوحة فى الدلتا نتيجة تراجع المياه العذبة. وهناك ايضا التهديد المتعلق بالتنوع البيولوجى فى نهر النيل.

لم تثمر المفاوضات الطويلة التى خاضتها "مصر" مع إثيوبيا و"السودان" إلى الوصول إلى اتفاق، أو أى نتائج ملزمة. ويبقى الخطر الأكبر متمثلاً فى استمرار التصرف الأحادى من قبل إثيوبيا، بما فى ذلك بدء الملء وتشغيل السد دون الرجوع إلى الأطراف الأخرى.

ورغم لجوء "مصر" إلى مجلس الأمن والمحافل الدولية، لكنها  لم تحصل حتى الآن على أيه ضمانات واضحة.

هل هناك حلول للأزمة؟

من الناحية النظرية قد يبدو أن الحل الأفضل هو التفاوض للوصول إلى اتفاق قانونى عادل يراعى مصالح الجميع مع تجنب الصدام. ولكن يبقى السؤال المطروح: هل ما لايزال هذا الحل ممكن؟

 دعونا نناقش الأبعاد القانونية والجيوسياسية لأزمة سد النهضة، وماذا تقول القوانين الدولية. إنها تنص على ما يلى:

النيل نهر دولى عابر للحدود، وبالتالى يخضع لمبادئ القانون الدولى للمياه، وأهمها:

• مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول.

• لكل دولة الحق فى استخدام المياه المشتركة بشرط ألا تضر بالآخرين.

• هناك مبدأ عدم التسبب فى ضرر ذى شأن.

• أى مشروع على نهر دولى يجب ألا يؤدى إلى أضرار جسيمة لدول المصب.

• مبدأ التعاون والتشاور المسبق.

• قبل إنشاء مشروعات ضخمة كالسدود، يجب على الدولة صاحبة المشروع التشاور مع الدول المتأثرة.

رغم وضوح هذه المبادئ، إلا أن المسار التفاوضى ظل يراوح مكانه عبر سنوات من الجمود منذ 2011، حين دخلت "مصر" وإثيوبيا والسودان فى مفاوضات مستمرة.

حتى تم الإتفاق على ما يسمى "إعلان المبادئ بين "مصر" وإثيوبيا و"السودان" – فى مارس 2015".

السؤال المطروح بقوة الآن، هل كان هذا الاتفاق فى مصلحة "مصر"؟

وجهة نظرى الخاصة، أنه كان خطأ ويصب فى مصلحة إثيوبيا، لأنه ببساطة يضفى شرعية دولية على السد. 

قبل توقيع الاتفاق، كان سد النهضة مجرد مشروع مثير للجدل بلا اعتراف قانونى من "مصر"، وبتوقيع "إعلان المبادئ"، اعترفت "مصر" رسميًا بوجود السد وقبلت مبدأ التفاوض حوله. وهو الأمر الذى فسره البعض على أنه تنازل عن موقفها التاريخى الرافض لبناء السد من الأساس.

كما أن الاتفاق غامض وغير ملزم قانونيًا: فصياغة الاتفاق جاءت فضفاضة وغير محددة. ولم يتضمن جدولًا زمنيًا واضحًا لملء السد أو آليات فض النزاعات. وقد سمح الاتفاق لإثيوبيا بالمضى قدمًا فى البناء، فقامت باستغلاله سياسيًا كغطاء شرعى، واستمرت فى البناء والملء الأول والثانى والثالث والرابع بشكل منفرد، بحجة أنها "تفاوضت ووقعت".

الأهم من ذلك أنه لم يحافظ صراحة على حقوق "مصر" المائية، فالاتفاق لم ينص على الحفاظ على حصة مصر (55.5 مليار متر مكعب)، بل اكتفى بعبارات مثل "عدم التسبب فى ضرر ذى شأن"، وهى عبارة مطاطة يمكن تفسيرها بطرق مختلفة.

ويرى كثير من الخبراء المصريين أن "القاهرة" كان يمكنها التمسك بموقف أقوى أو وضع شروط أكثر وضوحًا قبل التوقيع. وهو ما جعل الكثير من الأصوات فى "مصر" تعتبره بالفعل خطأ استراتيجى أدى إلى إضعاف الموقف المصرى، بينما الطرف الحكومى يقول إنه كان الحل الأفضل فى ظل الظروف وقتها (ثورات واضطرابات داخلية وضعف موقف تفاوضى).

دعونا الآن نبحث فى بنود الاتفاق بصورة أكثر تفصيلاً:

نص اتفاق إعلان المبادئ بين "مصر" وإثيوبيا والسودان – مارس 2015

المبدأ الأول: التعاون.

تتعاون الدول الثلاث تعاونا قائما على التفاهم المشترك والمنفعة المشتركة وحسن النوايا ومبادئ القانون الدولى.

التحليل: هذه صياغة فضفاضة؛ لا تتضمن إلزامًا قانونيًا فعليًا. عبارة "مبادئ القانون الدولى" مقبولة لكن غير محددة، ولا تشير إلى حقوق "مصر" التاريخية فى المياه.

المبدأ الثانى: التنمية والتكامل الإقليمى.

تقر الدول الثلاث بأن الغرض من سد النهضة هو توليد الطاقة، والمساهمة فى التنمية الاقتصادية وتعزيز التعاون الإقليمى والتكامل، باستخدام موارده المائية العابرة للحدود.

التحليل: يعترف هذا البند رسميًا بشرعية السد وأهدافه التنموية، وهو ما يعتبره بعض الخبراء تنازلًا مصريًا عن موقف الرفض المبدئى لبناء السد.

المبدأ الثالث: عدم التسبب فى ضرر ذى شأن.

تلتزم الدول الثلاث باتخاذ جميع الإجراءات المناسبة لتجنب التسبب فى ضرر ذى شأن أثناء استخدام نهر النيل الأزرق.

التحليل: عبارة "ضرر ذى شأن" مصطلح قانونى دولى لكنه مطاط؛ يترك التقدير لأطراف النزاع دون تحديد معايير للضرر.

المبدأ الرابع: الاستخدام العادل والمنصف.

تستخدم الدول الثلاث مياه النيل الأزرق بطريقة منصفة وعادلة، مع مراعاة كافة الاعتبارات ذات الصلة، مع عدم التأثير بشكل كبير على استخدامات أى دولة.

التحليل: إثيوبيا تستخدم هذا البند لتبرير حصتها الجديدة من المياه.

حيث لا توجد فيه أى إشارة واضحة أو صريحة لحصة "مصر" التاريخية (55.5 مليار متر مكعب).

المبدأ الخامس: التعاون فى الملء الأول وإدارة السد.

تنفذ الدول الثلاث توصيات اللجنة الفنية الوطنية المشتركة المعنية بالدراسات المتعلقة بسد النهضة، بهدف:

• الاتفاق على القواعد الإرشادية لملء السد.

• الاتفاق على الخطوط الإرشادية لقواعد تشغيله السنوى.

• إبلاغ دولتى المصب ("مصر" و"السودان") بأى ظروف طارئة.

التحليل: لم يحدد هذا البند جدولًا زمنيًا للاتفاق على قواعد الملء، مما سمح لإثيوبيا بالملء المنفرد لاحقًا. مع عدم وجود آلية عقوبات أو إجراءات قانونية إذا خالفت إثيوبيا هذا البند.

المبدأ السادس: الثقة.

تعطي الدول الثلاث الأولوية لتبادل المعلومات والبيانات فى إطار ملء وتشغيل سد النهضة.

التحليل: تبادل المعلومات خطوة جيدة نظريًا، لكن إثيوبيا تجاهلتها عمليًا بعد توقيع الاتفاق.

المبدأ السابع: أمان السد.

تلتزم إثيوبيا باستكمال تنفيذ التوصيات المتعلقة بأمان السد وفقًا للتقارير الدولية.

التحليل: هذا البند يحمى "السودان" و"مصر" نظريًا من مخاطر الانهيار، لكنه لا يحل مشكلة نقص المياه.

المبدأ الثامن: تبادل المعلومات.

تلتزم الدول الثلاث بإبلاغ بعضها البعض بأى ظروف طارئة أو غير متوقعة.

التحليل: إثيوبيا قامت بالملء الأول والثانى والثالث والرابع دون إخطار رسمى لمصر.

المبدأ التاسع: تسوية النزاعات.

إذا لم تنجح المفاوضات، يتم اللجوء إلى التوفيق أو الوساطة أو التحكيم.

التحليل: لا توجد آلية ملزمة للتحكيم أو إجبار طرف على الالتزام بنتائج المفاوضات. كما أن إثيوبيا رفضت اللجوء للتحكيم الدولى، مما جعل هذا البند غير فعال عمليًا.

الخلاصة: أن هذا الاتفاق يصب بالتأكيد فى مصلحة إثيوبيا؟

هل يمكن إلغاء الاتفاق أو الطعن فيه؟:

اعتقد انه يجب الغاء الموافقة على هذا الاتفاق فوراً، نظراً لإخلال اثيوبيا بمسئوليتها، ولمنع أى محاولة لإستخدام ورقة السد من أجل مقايضة مصر والاعتداء على سيادتها وحدودها الشرقية.

من الناحية القانونية: يعد اتفاق إعلان المبادئ مجرد اتفاق سياسى وليس معاهدة دولية شاملة، مما يجعله أقل إلزامًا. ولذلك يمكن أن تجادل "مصر" أمام المحاكم أو المنظمات الدولية بأن إثيوبيا أخلّت ببنوده، خصوصًا بند عدم التسبب فى ضرر. كما يمكن لمصر استخدام هذا الاتفاق كدليل على سوء نية إثيوبيا فى المفاوضات.

لقد جعل هذا الاتفاق موقف "مصر" التفاوضى أكثر تعقيدًا، حيث تحول من وثيقة كان يُفترض أن تفتح باب التعاون إلى أداة استغلتها إثيوبيا لترسيخ سيطرتها على مياه النيل الأزرق دون التزامات واضحة تجاه "مصر" و"السودان".

أزمة وجودية تحتاج إلى قرارات حاسمة:

إن أزمة سد النهضة ليست خلافًا عابرًا بين دول متجاورة، بل هى صراع على حق الحياة ذاته.

"مصر" التى تعتمد على نهر النيل بنسبة تفوق 95%، تواجه اليوم خطرًا وجوديًا قد يغير معالمها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ورغم سنوات من المفاوضات والمراوغات، فإن إثيوبيا ماضية فى فرض الأمر الواقع، مستخدمة سد النهضة كورقة ضغط سياسية واقتصادية، بحيث تسعى لأن تكون قوة إقليمية مسيطرة على منابع النيل. على حين أن "مصر" تعتبر مياه النيل خط أحمر وقضية أمن قومى غير قابل للتفاوض.

هل الخيار العسكرى مطروح؟

رغم ما يبدو من تمسك "مصر" بالحل السياسى، إلا أن الخيار العسكرى يظل واردًا كخيار أخير. وقد صرحت "مصر" مرارًا بأن "كل الخيارات مفتوحة".

من المسلم به أن الجيش المصرى يمتلك القدرات التقنية على تنفيذ ضربة عسكرية للسد. وهناك تدريبات عسكرية جرت مع السودان تحت اسم "حماة النيل"، تحمل رسائل واضحة.

لكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر، فقد يؤدى إلى كارثة إنسانية فى السودان، و قد يفتح الباب لصراع إقليمى واسع.

كما أن المجتمع الدولى قد لا يتقبل بسهولة خيار التصعيد العسكرى.

ولكن من الواضح ضرورة إبقاء الخيار العسكرى كورقة ردع، دون استخدامها إلا فى حالة التهديد الوجودى المباشر.

إن أزمة سد النهضة ليست خلافًا تقنيًا حول بناء سد، بل هى قضية حياة أو موت بالنسبة لمصر.

مستقبل أكثر من 100 مليون مصرى مرتبط بمصير هذا السد، الذى تحوّل إلى سلاح جيوسياسى فى يد إثيوبيا.

الحل الأمثل هو التوصل إلى اتفاق عادل وملزم يضمن عدم المساس بحق مصر فى الحياة.

لكن إذا استمر التصعيد الأحادى وفرض الأمر الواقع، فقد تجد "مصر" نفسها مضطرة لاتخاذ قرارات مصيرية تتناسب مع خطورة التهديد.

ففى النهاية، تبقى حماية حقوق "مصر" المائية مسألة لا تقبل التهاون، سواء عبر السياسة أو عبر القوة إذا اضطر الأمر.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

الأنبياء - قصة قصيرة

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"