المشاركات

"يوسيفوس": المؤرخ الشهير وربما الوحيد لبدايات المسيحية

صورة
 يعد "فلافيوس يوسيفوس" (37 – نحو 100 م) واحدًا من أكثر الأسماء تأثيرًا فى دراسة تاريخ اليهودية خلال الحقبة الرومانية، بل ويمكن القول إنه من بين الشهود القلائل الذين نقلوا إلينا صورة حيّة عن المجتمع اليهودى فى القرن الأول الميلادى. كان "يوسيفوس"، الذى وُلد باسم "يوسف بن متّيا" لعائلة كهنوتية مرموقة فى "القدس"، رجلًا يجمع بين ذكاء المؤرخ ونزعة رجل الدولة. فقد عاش فى زمن التحولات الكبرى: انهيار المملكة اليهودية، تدمير الهيكل الثانى على يد الرومان، وصعود المسيحية كتيار جديد داخل الأوساط اليهودية.  ما يجعل أعماله ذات قيمة استثنائية هو أنها تمثل نظرة فريدة لفهم تلك الحقبة الهامة من التاريخ الدينى والسياسى للمنطقة، حيث يتقاطع تاريخ اليهودية مع بدايات المسيحية وبروز ملامح الأديان الإبراهيمية كما نعرفها اليوم. حياته ونشأته: وُلد "يوسيفوس" فى القدس عام 37 م لعائلة يهودية ذات مكانة دينية واجتماعية رفيعة؛ فوالده كان من سلالة كهنوتية، بينما تنحدر والدته من سلالة الحشمونيين الذين حكموا اليهود فى القرن الثانى قبل الميلاد. منذ صغره أظهر نبوغًا فى دراسة...

الموسيقى: الرياضيات المسموعة ولغة الكون

صورة
  منذ أن وجد الإنسان على سطح الأرض، اكتشف أن الكون الفسيح ليس مجرد فوضى، بل هو نغم متجانس، وظهرت الموسيقى كأحد أعمق أشكال التعبير عن هذا الانسجام. فالموسيقى ليست مجرد أصوات متناثرة أو ألحان للمتعة، بل هى الرياضيات المسموعة، إنها تجسيد للتناغم الذى يحكم العالم.  لقد رأى "فيثاغورس" أن كل وترٍ مشدود يخضع لقوانين رياضية، وأن كل لحنٍ جميل ما هو إلا انعكاس لصوتٍ خالد ينساب فى أرجاء الكون. الطبيعة نفسها تغنى؛ الطيور تغرد بألحانها، وصوت أمواج البحر ينساب الى الشاطئ بنبض متتالى كنبض القلب، حتى صوت حفيف الأشجار بفعل الرياح يبدو كسمفونية عابرة. فكيف يدّعى البعض أن الموسيقى حرام، بينما هى جزء أصيل من نسيج الحياة التى خلقها الله؟ إن تحريم الجمال هو تحريم للحياة نفسها، وخروج على سنّة الله فى الكون. منذ فجر  الحضارة، لم يتم النظر إلى الموسيقى وإلى الفن بوصفهما مجرد زخارف للحياة، بل كامتداد للقوانين الكونية التى اكتشفها العقل. لعل "فيثاغورس" كان أول من كشف عن الصلة الخفية بين النغم والعدد، حين لاحظ أن طول الوتر وعلاقته بالصوت الناتج يخضع لنسب رياضية دقيقة، فأسس بذلك ما عُرف بـ...

من السبى البابلى إلى الصهيونية الحديثة: قراءة فى التاريخ اليهودى.

صورة
 إذا تابعت ما تقوله نشرات الأخبار فى الغرب، والبودكستات الغربية ستلاحظ خطاباً يركز على ذاكرة توراتية. فيتم استخدام تعبيرات من قبيل، «الهيكل الثانى»، «العودة بعد ألفى عام»، «أرض الميعاد»… وغيرها.  وعلينا عند الاصطدام بمثل تلك التعبيرات أن نفرق ما بين التاريخ بوصفه مجالاً نقديًا قابلًا للدراسة والتدقيق، وما بين السرديات بوصفها أداة سياسية أو تعبيراً عن الهوية. فالفرق ما بين الأمرين شاسع للغاية.  سنحاول هنا ان نقوم بعملية تفكيك للتاريخ التوراتى، ونحاول فهم مصطلحات من قبيل (السبى البابلى، الهيكل الثانى، تشكيل اليهودية الرابانية، ثم الحداثة والصهيونية)،  قد يوضح ذلك الكيفية التى تُستخدم بها مثل هذه الذاكرة لتبرير الاستيطان غير الشرعى والعقاب الجماعى والمذابح والحصار على المدنيين — وهى الممارسات التى يَحظُرها صراحة القانون الدولى الإنسانى، مثل اتفاقية جنيف الرابعة، وقرارات مجلس الأمن؛ ونظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، وحظر التجويع والقانون الدولى العرفى. وقبل أن نبدأ فى رسم الخط الزمنى للسردية اليهودية، علينا تقديم تعريفات للمصادر التى تقوم عليها هذه السردية، مثل "التنا...

ما هو "الإسلام التقدمى" "Progressive Islam":

صورة
هناك لحظات فى التاريخ الانسانى تتصارع فيها التساؤلات، ليس كشبهة تخلى عن الموروث، بل كنداء لفهم أعمق لحقيقة الأمور. من هنا كانت الحاجة ملحة للتساؤل حول كيفية إعادة الدين لروحه الحقة؟ كيف نمنع إستخدامه كسيف على رقاب الناس، وهو الذى اقر فى كتابه العزيز أنه نزل "رحمة للعالمين"؟ حمل اصحاب الفكر الحر تلك التساؤلات فى كتبهم وداخل صدورهم، وولد منها ما يمكن أن نسميه اليوم: "الإسلام التقدمى". مابين "المعتزلة" وظلال الحاضر: "الإسلام التقدمى" ليس كما قد يعتقد البعض بدعةً حديثة، بل أن جذوره ضاربة فى القدم، فى فكر "المعتزلة"، أولئك الذين نادوا فى عصور ساد فيها الجمود، بأن العقل ليس خصمًا للوحى، بل هو مرآته الحقيقية. قالوا إن الله لا يظلم، لأنه حكيم، وإن الإنسان حرّ، لأنه مسؤول. لم يكن قولهم هذا نوع من التمرّد،  ولكنه كان فهما عميقا للمعنى الحقيقى للنص: أن الله عادل، لا يضع عبده موضع العجز ثم يحاسبه، وأن الخير والشر يتم إدراكهم بالفطرة السليمة، وليس فقط بالمرويات. ولكن تم إسكات أصواتهم تحت وطأة القمع، إلا أن كلماتهم بقيت تتردد فى قلوب كل من رفض أن يكو...

صرخات وهمسات: مذكرات "آنا فرانكو"

صورة
عن نيويوركر  ٥ نوفمبر ٢٠٢٤ اليوم كان صعب جداً. "بابا" أخبرنا أنه يجب علينا مغادرة منزلنا بحلول ٢٠ يناير والاختباء لأن السيد "ترامب" تم انتخابه رئيسًا. قال إن "ترامب" سيُرحّلنا إلى "السلفادور"، وإن بابا قد يُسجن. واضاف إن هناك رجلًا سيئًا للغاية يقف وراء كل هذا - السيد "ستيفن ميلر". أختى "ماريا" شرحت الأمر لى، إنه يكره المهاجرين لأنه أصلع ولم يحصل على صديقة حتى بلغ الثلاثين. قلت لها إن هذا ليس ذنبنا. طيب لماذا لا يكره النساء بدلًا من ذلك؟ أوضحت إنه يكره الجميع. حتى الكلاب. ١٤ ديسمبر ٢٠٢٤ بابا قال إنه وجد لنا ملجأً. إنه فى حى راقى فى "لوس أنجلوس"، وسننتقل إليه خلال شهر تقريبًا. المنزل ملكٌ لفنان كوميدى كان والدى يعمل لديه كبستانى. اسمه السيد "لارى". وبما أنى لم أقابل فنان كوميدى من قبل. بدأت أتساءل إذا كانوا دائمًا مُضحكين. ٢٠ يناير ٢٠٢٥ وجدت الإجابة، ليسوا كذلك. استقبلنا السيد "لارى" عند الباب الأمامى واصطحبنا إلى الدور العلوى، وهو مكان جميل جدًا باستثناء صور لاعبى البيسبول المُعلقة على الجدران. تس...

"غزة": جريمة القرن التى رأتها الإنسانية بأعين مفتوحة.

صورة
(مقال تمت كتابته عام 2105 بعد 80 عام من الآن) فى مطلع القرن الحادى والعشرين، حين كان العالم يتسابق نحو الذكاء الصناعى، ويغزو المريخ بالمجسات والأقمار، ويصنع طائرات بدون طيار، ويستنسخ الأعضاء البشرية، كانت هناك بقعة صغيرة على الأرض تعود إلى عصورٍ لم يعد أحد يتحدث عنها إلا فى كتب المآسى. "غزة". قطاع محاصر، ضيق المساحة، مكتظ بالبشر، يخنقه الحصار منذ سنوات طويلة. بدأت القصة قديمًا، منذ الاحتلال والتهجير فى منتصف القرن العشرين، لكنها وصلت إلى ذروتها بعد أكتوبر 2023، حين قررت إسرائيل تنفيذ حصار كامل، وقطع الماء والكهرباء عن مليونى إنسان.  كان عام 2023  عامًا فاصلًا. كانت الإنسانية ترتكب جريمة لم تعرف مثلها فى وضوحها وعلنيتها. كانت الجريمة تبث مباشرة على الهواء. لم تكن هناك أسرار. كل شىء كان موثقًا بالصوت والصورة. أطفال تحولت أجسادهم إلى هياكل عظمية من شدة الجوع. مرضى يموتون لأن الدواء لا يصل. مدنيون  يُقصفون فى مخيمات اللاجئين، بلا مكان يهربون إليه. بدءاً من ذلك العام، قررت القوى المسيطرة أن تُنفّذ عملية إبادة ببطء. ليس بالضربة القاضية، بل بالخنق التدريجى. بدأ الأمر تحت شعار "...

"مصر" وسد النهضة: أزمة وجود لا تقبل التفاوض أو المقايضة

صورة
منذ آلاف السنين، ارتبطت حياة المصريين بنهر النيل. هذا النهر لم يكن مجرد مجرى مائى، بل شريان حياة صنع الحضارة المصرية. لكن فى العقود الأخيرة، أصبحت المياه مصدرًا للصراع.  وتمثلت أخطر الأزمات فى سد النهضة الإثيوبى، هذا المشروع الضخم الذى بدأته إثيوبيا عام 2011 على النيل الأزرق، الرافد الرئيسى لنهر النيل. إنه أكبر سد فى "إفريقيا"، ويصل ارتفاعه إلى 145 مترًا، وتبلغ سعته التخزينية حوالى 74 مليار متر مكعب، ما يعادل تقريبًا كامل الحصة السنوية لمصر من المياه، التى تبلغ 55.5 مليار متر مكعب. المشكلة الأساسية لا تكمن فقط فى بناء السد؛ لكن فى طريقة إدارته، خاصة فى ظل غياب اتفاق قانونى ملزم بشأن ملء وتشغيل السد، وهو ما يعرض "مصر" لخطر شديد. تتضمن التأثيرات السلبية على "مصر" نقصاً هائلاً فى المياه، حيث أن "مصر" تعتمد بنسبة تفوق 95% على مياه النيل. وبالتالى فإن أى تقليص فى تدفق المياه سيؤدى إلى نقص حاد فى المياه المستخدمة للزراعة، والصناعة، والاستهلاك اليومى. وإذا ما تم ملء السد بشكل أحادى دون تنسيق، فهناك احتمال لفقدان ملايين الأفدنة الزراعية داخل "مصر...