"نجيب محفوظ": السطح الهادئ والأعماق المتوهجة
يمكن وصف "نجيب محفوظ" بأنه ضمير المجتمع وسارد التحولات السياسية والاجتماعية فى "مصر".
لم يكن "نجيب محفوظ" كاتبًا منعزلًا فى برج عاجى، بل كان منذ بداياته شاهدًا على تحولات المجتمع المصرى الحديث. إمتلك حسًا اجتماعيًا حادًا، وميلًا لتحليل البنية الاجتماعية والسياسية من خلال شخصيات وأحداث يومية. لكنه فى نفس الوقت، لم يقع أبدًا فى المباشرة أو الخطابة، بل جعل من الرواية أداة فهم للتاريخ الاجتماعى والسياسى للبلاد.
أولا: "نجيب محفوظ" والمجتمع المصرى... من الزقاق إلى الطبقة الوسطى:
كانت روايات "نجيب محفوظ" الأولى مرآة حية للتحولات الاجتماعية الكبرى.
ففى "زقاق المدق"، يرسم بانوراما طبقة شعبية مسحوقة، تكشف عن تناقضات الحداثة والتقاليد. وفى "بين القصرين"، تظهر شخصية "السيد أحمد عبد الجواد" كرمز مزدوج للسلطة الأبوية والمجتمع المحافظ، فى الوقت الذى كانت فيه رياح التحرر قد بدأت تهب على المجتمع من الخارج والداخل.
وكانت "القاهرة الجديدة" ضربة مباشرة للنفاق الاجتماعى باسم الدين والسلطة، حيث يقوم "محجوب عبد الدايم" ببيع قيمه من أجل منصب حكومى.
لم ينظر "محفوظ" إلى المجتمع من فوق،
بل من الداخل، من تفاصيل البيوت والأزقة والمقاهى، فبانت لنا هشاشة البنية الاجتماعية، وارتباطها بصراعات أعمق من مجرد الفقر أو الغنى.أدرك "محفوظ" مبكرًا أن الطبقة الوسطى هى محور التغير فى "مصر" الحديثة، إلا أنها تعانى فى الوقت نفسه، من الاضطراب ما بين الماضى والحاضر.
فترصد رواية "ميرامار" تفكك هذه الطبقة بعد ثورة 1952، وتقلبها بين الشعارات الكبرى والواقع الفاسد. وتفضح "ثرثرة فوق النيل" السقوط الأخلاقى لنخبة فقدت الإيمان بأى مشروع. وفى "السمان والخريف"، يعيش البطل على هامش الحياة، كرمز لانهيار الطبقة التى فقدت الدور والهوية.
هكذا رأى "محفوظ" أن أزمة المجتمع المصرى ليست فقط اقتصادية أو سياسية، بل أزمة وعى وانتماء طبقى مشوّه.
هكذا نرى أن السياسة عند "نجيب محفوظ" ليست مجرد خلفية، بل هى قوة فاعلة تشكل مصائر الأفراد. ففى "الكرنك"، يفضح "محفوظ" بشجاعة النظام البوليسى وتعذيب الأبرياء، وتحوّل المثقف إلى مجرد شاهد مأزوم.
وفى "حديث الصباح والمساء"، يأخذنا فى رحلة تاريخية عميقة لفشل الدولة الوطنية فى تحقيق وعودها، منذ عصر "محمد على" إلى نهاية القرن العشرين. أما "أولاد حارتنا" فهى ترميز فلسفى للصراع بين السلطة والدين والعلم والثورة.
على أن "محفوظ" ورغم نقده القاسى، لم يفقد الإيمان بقدرة الإنسان على التغيير. السياسة عنده ليست نهاية، بل سياق، والبطل دائمًا هو الإنسان العادى الذى يقاوم ويعيش ويسأل.
يظهر لنا فى روايات "نجيب محفوظ" نوعان من السلطة:
السلطة القمعية: كما فى "الكرنك" و"اللص والكلاب"، حيث تتحول الدولة إلى كيان متوحش يحاصر المواطن. والسلطة الأبوية: كما فى "الثلاثية" و"زقاق المدق"، حيث يفرض الأب أو الزوج نظامًا صارمًا على الأسرة، شبيهًا بشكل الدولة نفسها. وكأن "محفوظ" يقول إن الاستبداد يبدأ من البيت، ويتكرس فى المدرسة، ويُمارس فى القصر الملكى أو الجمهورى. ولا خلاص إلا بكسر هذه الدائرة.
ما يجعل "نجيب محفوظ" مميزًا عن غيره من كتّاب جيله أنه لم ينفصل قط عن مجتمعه ولا عن زمنه، ولم يكن تابعًا لأى سلطة أو حزب. بل كان "كاتبًا حرًا"، يقول كلمته بهدوء، ويرسم ملامح "مصر" كما هى.
"مصر" الغارقة فى أحلامها، والممزقة بين زمنين، المقهورة من الداخل، لكن القادرة على الحلم رغم كل شىء.
"محفوظ"، فى النهاية، هو ضمير مجتمع كامل، لا يصرخ، بل يحفر فى الذاكرة، ويصوغ من رواياته وثائق إنسانية لحياة المصريين تحت سلطة الزمن والتاريخ.
ثانياً: "نجيب محفوظ"... الظل القرآنى الذى لم يُغادر الحارة:
قد يبدو غريباً للوهلة الأولى أن يتم وصف "نجيب محفوظ" – الروائى العقلانى، الحيادى، الذى كتب عن الحارة والمقهى والزقاق – بأنه كاتب ينهل من "روح القرآن". لكنه توصيف لا يلبث أن يفرض نفسه كلما أمعنّا النظر فى لغته، ورموزه، وأسئلته الكبرى.
"نجيب محفوظ"، الذى قرأ القرآن مبكرًا فى صباه، لم يكن واعظًا، ولا صوفيًا، ولا مفسرًا، لكنه كان، بطريقته الخاصة، إنسانًا مسكونًا بهاجس المعنى، وقلق المصير، وتأمل العدالة، وكلها من صلب الرسالة القرآنية.
تتجلى أكثر صُوَر "الحضور القرآنى" له فى رواية "أولاد حارتنا"، التى أعادت صياغة القصص الدينى – من "آدم" إلى "محمد" – بلغة رمزية. فغيبوبة "الجبلاوى" ترمز إلى "الله"، وتمرد "إدريس" على العهد يوازى سقوط إبليس، و"قادر" هو المسيح، و"عرفة" هو نبى العلم الحديث... إلى آخر هذا البناء المحفوظى العميق الذى استعان بالرمز القرآنى ليحمله إلى منطقة الأسئلة المعاصرة.
هنا، نلمح "القرآن" ليس باعتباره مرجع لغوى أو بلاغى، بل كـ منجم للرموز الكبرى التى مازالت تتفاعل فى الوعى الانسانى: الظلم، العصيان، التوبة، الصراع بين العقل والإيمان، بين السلطة والنبوة.
لم يُقلّد " نجيب محفوظ" القرآن فى عباراته، لكنه قام أحيانًا بتبنّى نفس القرآن وإيقاعه.
ويبرز عند "محفوظ" بقوة حضور السؤال الأخلاقى. نحن اذا تعمقنا فى
"القرآن"، نجد أنه فى جوهره، ليس كتاب إجابات سهلة، بل كتاب أسئلة كبيرة،
"ألم يك نطفةً من منيٍّ يُمنى؟"
"أفلا يعقلون؟ أفلا يتفكرون؟"
و"نجيب محفوظ" هو كاتب السؤال بامتياز. كل أبطاله تائهون، سائلون، يضربون فى الأرض بحثًا عن العدل، عن الحب، عن الله.
"سعيد مهران" فى 'اللص والكلاب" هو صورة من تلك النفس الثائرة المتمردة التى تبحث عن عدالة لم تجدها، تمامًا كما فى القصص القرآنى.
لا يقوم "محفوظ" بتقديم "أجوبة دينية"، لكنه بالأحرى يطرح أسئلة دينية:
هل الإنسان مُسيَّر أم مُخيَّر؟
أين تكمن العدالة: فى السماء أم فى القانون؟
هل الغفران ممكن؟
وهل المصير محتوم؟
الحارة عند "نجيب محفوظ" ليست مجرد خلفية روائية، بل هى مُجتمع مصغّر للبشرية، تمامًا كما أن قصص "القرآن" ليست حكايات عن قوم مضوا، بل رموزًا لحالات إنسانية تتكرر.
فى "زقاق المدق" و"خان الخليلى" و"الكرنك"، نرى الإنسان يواجه السلطة الغاشمة (كفرعون)، الفتنة والغواية (كإبليس)، الحكمة والصبر (كيعقوب)، والغضب والثورة (كموسى). ليست هذه استعارات جاهزة، لكنها أنماط وجودية، استلهم "محفوظ" جوهرها فى شخصياته دون أن يسميها.
ورغم أن "نجيب محفوظ" قلّما يتحدث عن "الله" صراحة فى رواياته، فإن حضوره واضح لكنه ضمنى وعميق. "الجبلاوى" حاضر وإن كان فى قصره، والعدل مطروح وإن غاب، والإيمان مطارد وإن لم تتم تسميته.
حتى فى لحظات التمرد، هناك اعتراف ضمنى بأن هناك "شيئًا أكبر"، أو كما قال أحد أبطاله: "أنا لا أُصلى، لكنى أخاف... ولا أدرى ممن."
هذا التوتر بين الإيمان والتمرّد، بين الحضور والغياب، هو من أكثر ما يُشبه نبرة "القرآن" حين يُخاطب الإنسان المتردد، التائه، الباحث، لا الكافر الصلد.
ثالثا: "نجيب محفوظ" والصوفية:
لم يكن "نجيب محفوظ" صوفيًا بالمعنى الطقوسى، ولا هو ارتدى خرقة المريدين، ولا جلس فى حضرة شيخ، لكنه فى مرحلة ما من مشروعه الروائى، تحوّل من "كاتب العقل" إلى "كاتب الطريق"؛ الطريق الذى لا يُرى إلا بالبصيرة، ولا يُقطع إلا بسؤال واحد: من أنا؟ وإلى أين؟
فى أعماله، وخصوصًا المتأخرة، لم تعد الحارة مكانًا واقعيًا فحسب، بل تحوّلت إلى رمز للمسيرة الوجودية، وصار البطل أقرب إلى "سالك" يبحث عن الحق لا بين الناس، بل فى أعماقه. وهذا ما يجعل كثيرًا من رواياته "صوفية" دون أن تعلن صوفيّتها، كما لو أن الروح تخاطب القارئ من وراء ستار.
فى رواية "الطريق"، نتتبع "صابر" الذى يبحث عن أبيه، الرجل الغامض، الذى لا يعرف عنه شيئًا، سوى أنه قد يقوده إلى الخلاص أو إلى الحقيقة. لكن القارئ الذى يقرأ بعين صوفية، يرى أن "الأب" ليس إلا رمزًا لله، والحقيقة التى يسعى إليها الإنسان. "صابر" يشبه السالك الصوفى فى أول الطريق: مُضطرب، وحيد، تطارده الشهوات والأسئلة، ويبحث عن نور لا يعرفه لكنه يشعر به. كل محطة فى رحلته ليست إلا حالة من أحوال النفس: التردد، الغواية، التوبة، الانتظار.
تمامًا كما فى أدبيات التصوف، حيث يبدأ السالك بـ"اليقظة"، ثم يمر بـ"المجاهدات"، ثم ينتهى إلى "المشاهدة".
فى "رحلة ابن فطومة"، تتجلى الصوفية بأوضح صورها، وإن كانت مغلّفة بثوب فلسفى. "قنديل ابن فطومة" ليس مجرد رحّالة، بل هو مريد يبحث عن "دار الجبل"، المدينة الموعودة التى قيل إنها تسكنها العدالة والحكمة. لكنه لا يصلها أبدًا. كأن "محفوظ" يقتبس هنا فكرة صوفية رفيعة: الحقيقة لا تُرى، لكنها تُعاش. والمعرفة ليست فى الوصول، بل فى السعى.
كل بلد يمر به "قنديل" يرمز إلى حال من أحوال البشرية: بلد الشهوة، بلد العلم، بلد القوة، بلد الطاعة... لكنه لا يطمئن لأى منها، لأن الحقيقة، كما فى التصوف، لا تُحدّ بزمان أو مكان، بل هى نور يُلقى فى القلب.
وفى النهاية، لا نعلم هل وصل "قنديل" أم لا. كما لا نعلم هل رأى "ابن عربى" الحق بعينه أم بحبه.
فى "ملحمة الحرافيش"، يُعيد "محفوظ" كتابة التاريخ الشعبى بلغة التصوف.
"الفتوة" ليس مجرد زعيم الحارة، بل هو أشبه بالـ"قطب الغوث"، الشخص الذى بيده ميزان الحق، والذى تتعلق به قلوب الناس، لكنه – حين ينسى رسالته – يسقط، ويُستبدل بسالك جديد.
هذا التكرار الرمزى للفتونة، عبر الأجيال، يذكّرنا بفكرة الخلافة الروحية فى الفكر الصوفى: أن الولاية تنتقل من ولى إلى ولى، كلما ضاعت القيم، لكى يعود النور إلى الحارة – أى إلى العالم.
والحرافيش أنفسهم هم عامة الناس، الذين لا يملكون شيئًا، لكنهم ينتظرون دائمًا "الفتوة العادل" كما ينتظر المريدون "الشيخ الكامل"، ليهديهم سواء السبيل.
فى بعض حوارات "نجيب محفوظ"، خاصة المتأخرة، صرّح بأنه يميل إلى فكرة "وحدة الوجود" – دون أن يعلن التزامه بها صوفيًا – بل قال ما معناه:
"الله ليس خارج العالم... هو فى كل شىء، وهو كل شىء."
وهو تصريح يُفهم فى سياق المتصوفة الكبار أمثال "ابن عربى" و"الحلاج"، الذين رأوا أن "الله" لا يفارق خلقه، بل يتجلّى فيهم، وأن المعرفة الحقة هى الذوبان فى المحبة، والاتحاد فى المعنى.
وهذا ما نجده ضمنًا فى مشاهد كثيرة من رواياته، حيث يحسّ القارئ أن البطل لم يعد يميّز بين ذاته والعالم، وأن النهاية ليست موتًا بل ذوبانًا فى الكل، فى الوجود، فى النور.
ونصل الآن الى أكثر روايات"نجيب محفوظ" اقترابا وتعبيرا عن الصوفية.
قد يُخدع بعض القراء فى ظاهر رواية "حضرة المحترم"، فيظنوا انها رواية عن موظف بيروقراطى طموح، بينما هى فى الحقيقة نص رمزى صوفى بامتياز، يُخفى تحته رحلة روحية كاملة من الإرادة إلى الذوبان.
بقراءة تحليلية سريعة لهذه الرواية من منظورها الصوفى، نجد أن البطل هو "المريد". يبدو "عثمان بيومى" فى ظاهره موظفًا طموحًا، يحلم أن يصبح مديرًا عامًا فى دار الكتب. لكن هذا الطموح الظاهرى ليس سوى صورة من صور السلوك الروحى: فهو يعزل نفسه، يرفض اللهو، يتجنب الشهوات، يُكرّس حياته لهدف واحد لا يحيد عنه، كما يفعل المريد الصوفى الذى يسلك طريق "المجاهدة".
لكن هنا المفارقة العميقة: هدفه ليس "الله"، بل السلطة – الكرسى – اللقب.
وهو ما يجعل الرواية نقدًا ساخرًا لصوفية مقلوبة، أو ربما تجربة صوفية علمانية تبحث عن المطلق فى مؤسسة حكومية!
نحن نجد أن "دار الكتب" هى تعبير عن "الزاوية". فدار الكتب، المؤسسة التى يعمل بها البطل، ليست مجرد مكان، بل رمز لـ"الزاوية" أو "المقام" فى التصوف. إنها بيت المعرفة، كما الزاوية بيت الذكر، وكما كان "بيت الحكمة" فى التاريخ العباسى مركزًا للعقل والتأمل.
يعكس هذا رؤية "محفوظ" أن السعى نحو المطلق لا يقتصر على الدين أو التصوف التقليدى، بل يمكن أن يحدث حتى فى قلب المؤسسة البيروقراطية، لكن بثمن باهظ.
وتتمثل"المجاهدة" فى العزلة والزهد. "عثمان بيومى" يزهد فى النساء، يرفض الصداقات، يتحكم فى شهواته، ينام قليلًا، يستيقظ مبكرًا، لا يتحدث كثيرًا...
أليس هذا هو وصف المريد الصوفى.
لكنه يفعل ذلك لا حبًا فى "الله"، بل حبًا فى الكرسى. وكأن "محفوظ" يسأل:
ماذا لو سلك إنسان سلوك المتصوفة، لكن دون أن تكون غايته الله؟ هل يصل؟ أم يضل؟ الكرسى هنا هو "لحظة التجلّى". وحين يحصل "عثمان" أخيرًا على المنصب المنشود، يتجلى له فراغ الهدف. لحظة الوصول هى لحظة الانكسار.
تمامًا كما يقول المتصوفة: "مَن طلب الله لأجل الجنة، فالجنة حظه. ومَن طلبه لأجله، فالله حظه."
"عثمان" طلب المطلق، لكنه طلبه فى صورة مادية، فكان جزاؤه الفراغ.
نهاية الرواية تقول ذلك صراحة:
"جلس على الكرسى، و... لا شىء. لا نور. لا سكينة. لا يقين".
فى التصوف، تنتهى الرحلة بـ"الفناء فى الله"، أو الاتحاد. "عثمان" ينتهى إلى "اتحاد" من نوع آخر: يذوب فى الوظيفة، فى النظام، فى السلطة، لكنه لا يبلغ أى نوع من الكشف أو الراحة.
هذ ما يجعل الرواية صوفية من نوع خاص جدًا:
سلوك صوفى فى الظاهر، مادى فى الغاية، مأساوى فى المصير.
لم يكتب "نجيب محفوظ" عن الله كما يكتب الفقيه، ولم يروِ السير كما يروى المتصوفة، لكنه خاض الطريق – بطريقته – عبر الأدب، وجعل من الرواية معراجًا روحيًا يتدرج فيه الإنسان من الحيرة إلى المعرفة، من الغفلة إلى النور، من الزحام إلى الذات.
ولذلك، فإن من يقرأ "محفوظ" قراءة سريعة، قد يراه علمانيًا، محايدًا، واقعيًا.
لكن من يقرأه قراءة قلبية، سيكتشف أنه كان فى رواياته كلها، يردد مع "النفّرى": "كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة."
رابعا: "نجيب محفوظ" الروائى الفيلسوف بين الوجود والمعنى:
فى ظاهر الأمر، لا يبدو "نجيب محفوظ" فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمى للفلاسفة. لم يؤسس مذهبًا فلسفيًا محددًا، ولم ينخرط فى التنظير المجرّد أو الجدل الميتافيزيقى الصريح. لكنه، على امتداد أعماله، قدّم نموذجًا خاصًا للفيلسوف السردى: فيلسوف يكتب الرواية لا المقال، ويطرح الأسئلة من خلال البشر لا المفاهيم، ويبحث عن الحقيقة فى دروب الحارة والمقهى والبيت والشارع.
"محفوظ الفيلسوف" لا يتكلم عن "الوجود" بل يجسّده. ففى شخصياته نرى تجليات لقضايا كبرى: "كمال عبد الجواد" مثلًا ليس مجرّد شاب حساس، بل هو التجسيد الأدبى لوعى يتصارع مع الأسئلة الأولى عن الله، والمطلق، والقدر، والمعرفة، والزمن.
"سعيد مهران" فى "اللص والكلاب" ليس مجرد خارج عن القانون، بل هو رمز لتمرّد وجودى على العبث والخيانة والخذلان — شبيه بما نراه فى أدب "كامى" أو "سارتر".
أما "الجبلاوى" فى "أولاد حارتنا" فهو صورة رمزية للإله الغائب الحاضر، المتعالى الذى ينتظره الأبناء.
لا يقوم "نجيب محفوظ" بطرح "قضايا فلسفية" بل يعيد إنتاجها شعبيًّا، كأنما يعيد "تمصير" الأسئلة الخالدة. فنجد أن "الزمن"، على سبيل المثال، يتسلّل فى معظم أعماله، ليس كموضوع بل كحالة وجودية.
فى "ميرامار" تتصارع الأجيال مع زمن فقدت فيه المعانى ثباتها، وفى "ثرثرة فوق النيل" يتبدّد الزمن مع دخان الحشيش واللامبالاة، وفى "الكرنك" يتحول الزمن إلى مرآة للموت السياسى والتعذيب.
كما أن "محفوظ" الفيلسوف كان دائم التأمل فى الموت والمعنى. فلا نجد فى رواياته الخوف من الموت فحسب، بل الخوف من حياة بلا قيمة.
القلق الذى يتكرر فى "أحلام فترة النقاهة" ليس من النهاية، بل من الفراغ:
"رأيتنى ميتًا ولم أجد من يبكى على... قلت فى سرى: حتى الحزن بُخس فى هذا الزمن!"
ورغم أن "نجيب محفوظ" لم يكتب "كتبًا فلسفية" بالمعنى التقليدى، فإن رواياته — خاصة منذ منتصف الخمسينيات — تحولت إلى فضاء فلسفى بامتياز، حيث تتحول شخصياته إلى تجسيد للأسئلة الكبرى من قبيل:
ما معنى الوجود؟
هل للعدالة مكان فى هذا العالم؟
ما حدود الحرية؟
هل يوجد إله، وهل يُصغى؟
أسئلة الوجود تلك، لا تأتى بشكل مباشر، بل تتسرب من خلال حوارات عادية، مواقف مأزومة، وانهيارات صامتة.
فلسفة "محفوظ" ليست خطابًا، بل تجربة معايشة. الفرد فى عالم "محفوظ" دائمًا بين قوسين، إما مقموع سياسيًا، كما فى "الكرنك"، أو محاصر اجتماعيًا، كما فى "بداية ونهاية"، أو مطارد داخليًا، كما فى "الشحاذ".
الحرية فى روايات "محفوظ" ليست "حقًا"، بل محنة. من يطلبها، يدفع الثمن. لكن الحرية هنا ليست فقط ضد السلطة، بل ضد الخوف، والعجز، والتواطؤ مع الواقع.
لا يمكن الحديث عن "محفوظ" الفيلسوف دون التوقف عند سؤاله الجوهرى:
أين الله؟ وهل يوجد عدل فى العالم؟
يتجلى هذا بوضوح فى "أولاد حارتنا"، التى ترمز لمسيرة البشرية مع الدين والعلم والثورة، لتنتهى بحلقة مفرغة من الظلم، بانتظار "جبل" جديد يأتى ولا يأتى. كما يظهر فى "الطريق"، حيث يبحث البطل "صابر" عن أبيه، فى رحلة شبه صوفية/وجودية، تنقلب فيها صورة الأب إلى رمز إلهى غامض، لا يُمسك به. فى النهاية، فإن "محفوظ" لا ينكر "الله"، لكنه ينكر صمت "الله" أمام هذا الكم من الألم، ويدعو إلى أن يكون الإنسان هو العدالة المؤجلة.
يتحول الزمن فى عالم محفوظ من سياق للأحداث إلى سؤال فلسفى فى جوهره: هل نعيش فعلًا، أم أننا مجرد نمضى؟
هل نحن أحرار، أم نسير فى مسرح كتبه آخرون؟
ما يجعل من "محفوظ" فيلسوفًا فريدًا هو أنه لم ينفصل عن الناس. لم يتعالَ عليهم، لم يتخذ موقف المعلم، بل ظل وفيًا لدور الراوى المُفكر، منغمسًا فى الحارة لكنه شاخص بالبصر نحو المطلق.
هو فيلسوف من طراز نادر، يمارس التأمل فى صمت، ويكتب الوجود بلغة تُقرأ فى المقاهي، لكنها تهمس دومًا للقارئ المتأمل: هل ترى؟ هناك دائمًا ما هو أعمق.
لقد كان "نجيب محفوظ" فى عمق أعماقه فيلسوفًا يكتب الرواية، لا ليساوى بين الفلسفة والحياة، بل ليضع الفلسفة فى قلب الحياة. لم يقدم أجوبة قطعية، بل قام بتشخيص للإنسان وهو يتأرجح بين الإيمان والخذلان، بين الحلم والسقوط.
فى النهاية، "محفوظ" لا يبشر، ولا يهدم، بل يسأل —والسؤال عنده ليس ضعفًا، بل قمة النضج الفكرى.
خاتمة:
فى عالم "نجيب محفوظ"، لا توجد حقيقة واحدة ولا رؤية مطلقة. كل شخصية مرآة، وكل رواية تساؤل، وكل حارة كونٌ مصغّر يتردد فيه صدى الأسئلة الكبرى.
ما بين الحارة والفلسفة، والذات والله، والزمن والموت، صنع "نجيب محفوظ" أدبًا يَجمع بين الوضوح الشعبى والعمق الفلسفى، بين بساطة السرد وتعقيد المعنى، بين الواقع الصلب والحلم الشفاف.
لم يكن مجرد راوٍ، بل كائنًا يتأمل العالم بعيون الآخرين، ويمنحهم لغة للحيرة، وكرامة للأسئلة.
من يقرأ "نجيب محفوظ"، لا يقرأ عن الناس فقط، بل عن نفسه،
ولا يجد أجوبة، بل يجد جرأة السؤال.
تعليقات