"رام" قصة قصيرة ، ل: حازم فرجانى


١
"عصبى، أنانى، متقلب، ربما ملحد!" هكذا وصفوه. 
كانت كلمات الزملاء عن "رام" كأنها سهام تُطلق فى الظلام، تحمل تحذيرات غامضة. 
"لكنه خبير لا يُضاهى، ستتعلم منه الكثير،" 
هذا ما قال لى مديرى، لكن نبرته لم تخفف من الحذر.
اختتم أحدهم الوصف كأنه يغلق كتابًا لم أقرأه بعد بقوله:
"باختصار، مجنون!"

كان ذلك فى الثمانينات، وفى طريقى إلى مقر العمل الجديد، عبرت الحافلة صحراء شاسعة، كثبانها تمتد إلى ما لا نهاية. لم يشغلنى البُعد عن المدينة، ولا الوظيفة المؤقتة التى قبلتها لكسب المال من شركة أجنبية. كل ما شغلنى هو "رام"، الرجل الذى سأشاركه العمل أسبوع كل شهر. أسبوعان فى الصحراء، أسبوع إجازة، راتب مجز، ومدة لا تتجاوز عامًا. بدا كل شىء مثاليًا، حتى ظهر هذا اللغز المسمى "رام".

سألت السائق بعد لحظة صمت:
"تعرف الأستاذ رام؟"  
أجاب بضحكة: 
"ومين ما يعرفش "رام"؟ راجل غريب، بس قلبه أبيض!" 
طمأننى كلامه قليلًا، لكنه أضاف: 
"اسمه "إحسان رامى النشرتى"، لكن الكل بيناديه "رام".
واصل الحديث عن الشركة، لكن ذهنى ظل معلقًا: من هو "رام"؟ ولماذا يبدو كأنه سؤال عبثى بلا إجابة؟

٢
استقبلنى مدير الموقع بحفاوة، وقادنى إلى مكتبى المشترك مع "رام". 
قال:
"كان يُفترض أن يكون هنا، لكنه مشغول" . 
جلست أنتظر، أفكر فى الرجل الذى سبقته سمعته. عندما دخل، رأيته، طويل، قوى البنية، شعر أبيض كثيف، ملامح صلبة كتمثال فرعونى. لم يرتدى زى العمل المقرر، بل بنطالًا أبيض متسخًا وفانلة مهترئة، كأنه يرفض قواعد العالم.

قلت بالإنجليزية، رافعا يدى:
"مرحبًا، كيف حالك؟"  
لكنه حدق فى اللاشئ بجوارى، كأننى غير موجود، وتمتم بكلمات غامضة قبل أن يغادر وكأنه يرى عالمًا آخر. كما لاحظت حولًا خفيفًا فى عينيه، بداية محبطة، لكننى قررت الصبر.
فى المكتب، وجدت تقارير مكتوبة بدقة، بلغة إنجليزية راقية. هل هذا عمل "رام"؟ 
تساءلت مع نفسى ربما ليس مجنونًا تماماً كما يدعون. 
داخل المبنى الاجتماعى، سمعت صوته الأجش فى قاعة المكتبة: 
كان طبيب الموقع يقول:
"لا معنى للحياة إذا لم تخلق لها معنى بنفسك" 
رد "رام" بثقة:
"الجماعات إياها تبيعك أوهامًا، لكن الحقيقة فى مواجهة الذات." 
رد الطبيب: 
"لكنهم منظمون!" 
أجاب "رام": 
"النظام بلا حرية هو سجن." 
وغادر، تاركًا كلامه يتردد فى ذهنى.
سألت الطبيب عنه، فأخبرنى أن "رام" من عائلة النشرتى الثرية، درس فى "سويسرا"، وعمل دبلوماسيًا يجيد أربع لغات. لكنه نفى أن يكونا أصدقاء: "رام" لا يحتاج أصدقاء، يحتاج نفسه فقط." 
زاد كلامه من حيرتى: من هو هذا الرجل؟

٣
استيقظت مبكرًا، مستمتعًا بشروق الشمس على الكثبان. وصلت إلى المكتب، لأجد "رام" ينظف الأرضيات بنشاط غريب. قلت:
"صباح الخير!" 
رد باقتضاب
 "خير" 
بدا كأنه يحادث الكون. لاحظت ثلاجة وموقدًا فى المكتب، مع أوعية للقهوة. بدا واضحًا أنه يعيش باستقلالية تامة.
بدأت العمل على تقارير الاجتماع الأسبوعى. 
لاحظ "رام" اهتمامى بالكمبيوتر، وكان جهازا حديثاً فى ذلك الوقت، فسألنى: 
"ما فائدة هذه الآلة إذا لم تضف معنى؟" 
أجبته: 
"تسرع العمل." 
رد بهدوء: 
"العمل بلا معنى هو عبث." 
أوقفنى كلامه. هل يرى فى هذه الصحراء شيئًا أعمق مما أراه؟

فى الأمسيات، كان "رام" يتحول إلى فيلسوف. فى قاعة المكتبة، ناقش "سارتر" بحماس: 
"الإنسان محكوم بحريته، لكنه يخافها. لهذا يختار السجون." 
سألته: 
"لكن لماذا تختار العزلة هنا؟" 
أجاب: 
"العزلة ليست هروبًا، بل مواجهة. هنا، تواجه نفسك بلا أقنعة." 
جعلنى كلامه أتساءل: هل أنا هنا للمرتب الكبير، أم أننى أهرب من شىء أكبر؟

٤
فى يوم بدء إجازته، كانت المفاجأة، توقعت رحيله، لكننى وجدته فى المكتب، يستخدم الكمبيوتر. 
بادرنى بالقول:
"جربت الآلة، لكن المعنى لا يزال فى العقل". 
هرعت إلى مدير الموقع، الذى أخبرنى بعد قليل من التردد: 
"حسنا، عليك أن تعرف أن "رام" لا يغادر." 
شعرت أننى محاصر بفيلسوف لا يتبع قواعد العالم.

فى اجازتى، ذهبت الى "الاسكندريه" لزيارة صديقى "عارف كمال"، الذى يعرف "رام" من أيام عملهما سويا. 
وبينما كنت أتأمل البحر فى مقهى "التريانون"، دخلت سيدة أنيقة سبعينية، تفرست المكان والحاضرين، ثم تسألت بتعجب: 
"أين أعزائى؟ أين احبائى؟ من هؤلاء؟ ما هذه الفوضى؟" 
بدت كأنها تجسيد آخر لرام، صادقة، غريبة، خارجة عن الزمن. 

حكى "عارف" لى عن "رام": "أنقذ حياة ابنى بعلاج لم يوجد إلا فى "فرنسا"، لكنه رفض حتى كلمات الشكر، يعيش لنفسه، لا للمظاهر." 
اكتشفت أن "رام" يقوم بزيارة سنوية لفرنسا، لكنه يفضل الصحراء على "القاهرة".

٥
عدت بنظرة جديدة. "رام" ليس لغزًا، بل لعله وجودى يعيش وفق إرادته. 
قلت بعد قليل:
"إزيك يا "رام"؟ أريد مناقشة أفكارك عن الحياة". 
نظر إلى: 
"الحياة عبثية، لكنك تخلق معناها باختياراتك." 
بدأنا مناقشات عن "سارتر" و"كامو". 
"الإنسان حر، لكنه يهرب إلى الأوهام،" هكذا قال. 
"أنا هنا لأننى اخترت مواجهة العبث." 
سألته: 
"لكن لماذا الصحراء؟" 
أجاب: "الصحراء فارغة، فتجبرك على ملء نفسك بنفسك."

اكتشفت أن عزلته اختيار وجودى، رفض للمجتمع الذى يفرض معانيه. ترك شقة "القاهرة" لابنة أخته، ورفض الزواج ليظل سندًا لعائلته. 
"المعنى ليس فى الامتلاك، بل فى التخلى" هكذا شرح فلسفته الحياتية. كلامه جعلنى أعيد التفكير: هل اختياراتى تعكس حريتى، أم أنا أسير توقعات الآخرين؟

٦
بعد مغادرتى العمل، بقيت على صلة بـ"رام". كنت ألتقيه أحيانًا فى القاهرة، يسير ببدلته البيضاء كأنه يسير فى زمن آخر، يناقش الحياة والحرية بحماس من يعرف أن الوقت يضيق.
فى آخر لقاء، جلسنا على مقهى قديم، يطل على شارع مزدحم. نظر إلى طويلًا قبل أن يقول:
"بفكر أشتغل فى الخليج… أدخر شوية… يمكن أعمل حاجة لنفسى قبل ما أمشى."
كان وقتها فى السبعينيات من عمره.
ضحكت  وأنا أقول: "وأنت الذى علمتنى أن المعنى ليس فى الامتلاك!"
ابتسم ابتسامة هادئة، وقال:
"المعنى يا صديقى… أن تعرف متى تتمسك… ومتى تترك."
لم أره بعدها.
اليوم، كلما مررت بالصحراء، أو جلست أمام شاشة الكمبيوتر، أسمع صوته فى داخلى:
"العمل بلا معنى… عبث."
وأدرك أننى، دون أن أشعر، صرت أبحث عن المعنى كما كان يفعل "رام"…
وربما، بطريقة ما، صرت أنا أيضًا جزءًا من الصحراء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

الأنبياء - قصة قصيرة

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"