شكسبير: ما بين الحماقة، والإنسانية

 عندما كان الأباطرة الرومان يستعرضون مواكب النصر، كانوا يصطحبون معهم "مهرجاً"، كانت مهمته أن يهمس لهم باستمرار بعبارات من قبيل: "أنتم لستم سوى بشر، وستموتون أيضًا - تمامًا كما يموت المتسولون والعبيد". 

يبدو "شكسبير" ، فى مسرحية "هاملت" مهووسا بفكرة الفناء. فنجد مثلاً أن الأمير يغنى ساخراً من ذلك "الملك المتسلط، الذى مات وتحول إلى مجرد طين، وقد يصلح فقط لسد ثغرة لمنع الريح". 

فى الواقع انه فى "روما"، كما فى "أوروبا" فى العصور الوسطى، كان شبح الموت ظاهر بشدة، فبغض النظر عن هويتك، إن عاجلاً أم آجلاً سيُبيدك الله. وهى الرؤية التى تذكرنا أن الشىء الأكثر قابلية للتلف، وهو الجسد البشرى.

الحماقة:

مع نشر كتاب "إيراسموس": "مديح الحماقة" (Moriae encomium) عام 1509، اندثر مفهوم الحماقة القديم. فبينما ندد "سيباستيان براندت"، مؤلف كتاب "سفينة الحمقى" (Narrenschiff،  1494 )، بالفساد الأخلاقى للبشر، أصبحت الحماقة بين يدى "إيراسموس" وسيلةً ليس فقط لكشف نفاق واستبداد أصحاب السلطة، بل أيضاً لفهم أنفسنا ومكانتنا فى العالم، لا سيما أنها تُوفر أداةً لسبر أغوار حدود العقل.

الحمقى والشعراء هما روحان متقاربتان، إذ لا يقوم أيٌّا منهما بالتأكيد على وجود حقيقةً قاطعة. وكما لاحظ "فيليب سيدنى"، الذى عاصر "شكسبير"، فى كتابه "الاعتذار عن الشعر" (1587): "الشاعر لا يكذب أبداً، لأنه لا يُثبت أى شئ حقيقى أبداً". بعبارة أخرى، الشعراء ليسوا مخادعين، لأنهم، بحكم كتابتهم للقصص الخيالية، لا يسعون إلى تحرى الصدق. كذلك، لا يدّعى الحمقى امتلاكهم أى سلطة لأن أفكارهم، سواء كانت عميقة أو هدامة، إنما تأتى من فم أحمق. ولعل هذا هو السبب فى أن فلاسفة تلك الفترة لم يهتموا بظاهرة الحماقة بقدر ما جُسّدت فى الأعمال الروائية لكتاب، مثل "إيراسموس" و"رابيليه" و"سرفانتس"، وبالطبع "شكسبير".

كما سنرى هنا، استطاعت الحماقة أن تجعل بعض أشكال الكتابة والتفكير ممكنة، بما يتجاوز بكثير نطاق الثرثرة المتبادلة لمهرجى "شكسبير" والرؤى الساخرة لمهرجيه، مثل "فيست" و"تاتشستون'. 

سنتمكن هنا من توضيح بعض الجوانب الفلسفية للحماقة عند "شكسبير"، بما قد يجعلنا نتساءل: لماذا انبهر بعض ألمع عقول عصر النهضة بهذا المفهوم؟  ويجب هنا إيضاح مركزية الحماقة فى التقليد الفلسفى الذى نشأ منه "شكسبير"، أى إنسانية عصر النهضة.

الإنسانية:

الإنسانية هى مدرسة فكرية تضع الإنسان فى مركزها. 

قد يبدو هذا الأمر غير مؤذٍ، إلا أن كلمة "الإنسانية" أصبحت مؤخراً بمثابة كلمة بذيئة فى دراسات العلوم الإنسانية. وبالتالى أصبحت "الإنسانية" غير شائعة لأن الفلسفة التى تضع الإنسان فى مركزها قد تؤدى إلى الاعتقاد الجوهرى بوجود شىء ثابت يُسمى "الطبيعة البشرية"، وقد تشير كذلك إلى مركزية الإنسان. 

كلا الموقفين إشكاليان للغاية، إذ قد يؤديا، من جهة، إلى اضطهاد الجماعات التى تختلف تقاليدها ومعتقداتها عن تقاليد ومعتقدات الإنسان الجوهرية، ومن جهة أخرى إلى موقف فلسفى يبرر تدمير الطبيعة لأجل الأغراض البشرية. مع ذلك، فإن "الإنسانية" (على الأقل فى بدايتها)، استطاعت أن تتجنب هذه المزالق بفضل إدراكها للحماقة.

فى الثلث الأول من مسرحية "إيراسموس": "مديح الحماقة"، تقوم الراوية التى تقوم برواية المسرحية، والمُسماة "ستولتيشيا"، بالاشارة إلى أننا فى الحياة من المهد إلى اللحد، مجرد ممثلين فى مشاهد مُختلفة ضمن "مسرحية حماقة عظيمة" - وهى رؤيةٌ ستتردد لاحقًا  فى المونولوج الشهير من مسرحية "كما تشاء" (1599) ل "شكسبير": "العالم كله مسرح/وجميع الرجال والنساء مجرد ممثلين".

 على الرغم من أن هذا الإدراك قد يبدو الآن شيئًا من الكليشيه، إلا أن فكرته الأساسية مهمة: فالمؤسسات والخطابات والأفكار التى تبدو متماسكة هى فى حقيقتها واهية كأنها مجرد ديكور مسرحى - وهى إحدى الطرق التى سعى من خلالها فلاسفة وكتاب هذه الفترة إلى تحدى الفهم التقليدى من خلال الكشف عن مدى هشاشة ومحدودية زمن الطريقة التى تسير بها الأمور. 

فقد تحدوا الطرق القديمة لفهم العالم من خلال تفضيل البدء فى فهم الأشياء من خلال التجربة بدلاً من المفاهيم القديمة. 

الفيلسوف المفضل لدى "شكسبير"، هو الإنسانى الرائد فى عصر النهضة "ميشيل دى مونتين" (1533-1592)، والذى كان مدركًا تمامًا للطريقة التى يمكن ألا تكون بها العادة عائقًا أمام التفكير الواضح والنقدى فحسب، بل إنها أيضًا مشروطة ثقافيًا. 

فى مقالته "عن آكلى لحوم البشر"، كتب: "أجد ... أنه لا يوجد شىء فى تلك الأمة [أمريكا] همجيًا أو متوحشًا، لأنه إذا لم يقوم الرجال بتسمية ما ليس شائعًا بينهم همجيًا، فأننا لا نملك أى تعريف آخر من الحقيقة أو العقل، سوى مثال وفكرة آراء وعادات البلد الذى نعيش فيه". 

هنا توصل "مونتين" إلى استنتاج غير عاطفى مفاده أن حتى المحرمات التى تبدو طبيعية مثل عدم أكل الآخرين هى فى الواقع نتيجة للتكييف الثقافى، وليست طبيعة بشرية جوهرية؛ وأن ما نعتبره "غير متحضر" هو فى الواقع مجرد ما هو غير مألوف؛ وأن مفاهيمنا عن "الحقيقة" و"العقل"، التى قد نؤسس عليها وهم "الطبيعة البشرية"، ليست عالمية، بل هى مشروطة ثقافيًا. 

ومع ذلك، يُقرّ "شكسبير" بأنه على "مسرح الحمقى" (الملك لير، الفصل السادس) فى الحياة اليومية، تُشكّل العادة قوةً هائلة؛ وكما يقول هاملت: "تلك العادة الوحشية التى تأكلها كل الحواس" (الفصل الثالث، الفصل الرابع).

وعلى حين أن نفور "مونتين" من التعميم هو جزء متأصل فى منهجيته الفريدة (لقد كتب: "الآخرون يُشكّلون الإنسان؛ أنا... أُمثّل شخصًا مُعيّنًا")، فإن نقد شكسبير للميل البشرى المُفرط إلى استخدام تصنيفات زائفة تُقرّها العادة يتجسد على خشبة المسرح.  

فى مسرحيتى "عطيل" و"روميو وجولييت"، على سبيل المثال، تُحبط الإمكانية الثورية الكامنة فى الحب تجاوز الفروق العرقية والطائفية تحديدًا لأن الشخصيات القوية لا تزال مفتونة بالصور النمطية والافتراضات المألوفة.

من الواضح أنه لا يمكن اتهام النزعة الإنسانية فى تلك الفترة بتقديم حجج جوهرية فحسب، كما أنها ليست مرتكزة على الإنسان بشكل مباشر. بل إن إحدى رؤاها المتكررة هى أن الفكر البشرى متجسد، وبالتالى هو قابل للفناء. فى زمن برزت فيه فكرة الحق الإلهى للملوك - فكرة أن الملوك هم "النواب المنتخبون من قبل الرب" (ريتشارد الثانى) - كانت هذه الفكرة المتعلقة بالتجسيد تناصر المساواة بطريقه جذرية. وكما لاحظ "مونتين" بصراحة فجه: "نحن فقط نجلس على مؤخراتنا، على أعلى عرش فى العالم، ".

يشاركنا "الملك لير" هذا الإدراك لطبيعتنا المتجسدة، إذ أدرك، وهو غارق فى برد العاصفة، أن هؤلاء الذين قاموا بنفاقه وتدليله، قد منحوه قوىً هو ببساطة لا يملكها: "قالوا لى إنى كل شىء؛ هذا كذب، لستُ مُبررًا" (الملك لير، الفصل الرابع). يشعر الملوك والمجانين والحمقى بالبرد على حد سواء. 

لكن تجسيدنا الانسانى يُصاغ بشكل لا يُنسى فى "تاجر البندقية" (1597)، فى وصف "شايلوك" للمساواة العرقية:

"أليس لليهودى عيون؟ أليس لليهودى أيادٍ، أعضاء، أبعاد، حواس، عواطف، عواطف؟ يأكل نفس الطعام، يُصاب بنفس الأسلحة، يُصاب بنفس الأمراض، يُشفى بنفس الوسائل، يُدفئه ويبرده الشتاء والصيف، كما هو الحال مع المسيحى؟ إذا وخزتنا، ألا ننزف؟ إذا دغدغتنا، ألا نضحك؟ إذا سممتنا، ألا نموت؟ وإذا أخطأتنا، ألا ننتقم؟"

مع أن هذا الخطاب يُستخدم لتبرير حق "شايلوك" فى الحصول على رطل من لحمه، إلا أن هذه التأملات تتجاوز سياقها الدرامى المباشر، مُقدمةً حجة للتسامح الدينى والعرقى. بغض النظر عن العقيدة أو الطبقة أو اللون، نشترك فى هشاشة جسدية معينة، ناهيك عن السخافة.  

وإنّ اكتشاف "الملك لير"، عندما واجه المتسول العارى فى العاصفة، أن "الإنسان غير المُتأقلم ليس سوى حيوانٍ فقيرٍ عارٍ مثلك"، لا يُشير فقط إلى أننا نشترك فى الضعف الانسانى.، بل يُشير أيضًا إلى أن الرتب الطبقية خيال، وأنّ الملابس الملكية ليست سوى أزياء، أو كما يُسميها "لير": "إستعارات"، فى إشارة إلى الممارسة المعاصرة للفرق المسرحية التى تستعير أزياءها من رعاتها الأثرياء.

يتّضح إذن أن إحدى السمات البارزة للإنسانية فى عصر النهضة ليست ادعاء سيادة الإنسان على كل شىء. بل إنها تُسلّط الضوء على عبثية البشر وهشاشتهم، فهم عُرضةً للمرض والسموم والمطر، وبالطبع، للحماقة بالمعنى الاكثر احتقارا. إن الفلسفة والأدب الإنسانيين المُتأصلين في هذا التقليد لا يُنصّبان، فالبشر سادةً بقدر ما يُفكّرون نقديًا فى حدود الجسد، أو الاصح حدود العقل.

النظرية النقدية:

يُوضح شكسبير مخاطر التفكير بالهوية, ورغم أنه يفعل ذلك بإظهار العديد من الدول والأفراد الذين أعمتهم التحيزات العنصرية أو كراهية النساء، إلا أن المشكلة ربما تتجلى بوضوح فى حوار قصير فى مسرحية "القياس بالقياس"، الجزء السادس:

الدوق فينسينتيو: ماذا، هل أنت متزوجة؟

ماريانا: لا يا سيدى.

الدوق فينسينتيو: هل أنتِ خادمة؟

ماريانا: لا يا سيدى.

الدوق فينسينتيو: أرملة إذن؟

ماريانا: ولا هذا ولا ذاك يا سيدى.

الدوق فينسينتيو: إذن أنتِ لا شىء: لا خادمة، ولا أرملة، ولا زوجة؟

على الرغم من أن "ماريانا" أمامه مباشرةً، ولكن لأنه لا يستطيع تصنيفها، يخلص الدوق إلى أنها "لا شىء".

مع ذلك، فى مشهد المقبرة فى مسرحية "هاملت"، يتحرك دافع التماهى فى الاتجاه المعاكس، من العدم إلى الشىء. محاولات "هاملت" لتمييز الجماجم - "قد يكون هذا رأس رجل سياسى/قد يكون هذا سيدى سوتشا-وان" - أكثر من مجرد تجسيد درامى لفكرة رقصة الموت. وكما يوحى استخدام العنوان الساخر "سيد سوتشا-وان"، فإن تجربة "هاملت" بين الجماجم تنطوى على اختزال إلى حد العبث لإجبار العقل على خلق تصنيفات - فهذا يُظهر أنه يعتقد أن ذلك لا يمكن تحقيقه دائمًا. حتى عندما يواجه شيئًا بلا وجه حرفيًا - جمجمة خالية بشكل واضح من أى سمات مميزة - فإنه يُنسب إليها هوية، بل مهنة.

طوّر "ميشيل فوكو" (1926-1984) فرعًا آخر من فروع النظرية النقدية. ركّز "فوكو" على العلاقة بين السلطة والمعرفة، وعلى وجه الخصوص، كيفية توزيع السلطات عبر المؤسسات الاجتماعية، كالمدارس والمصحات النفسية. 

فى كتابه الصادر عام 1961، بعنوان "تاريخ الجنون"، حاول "فوكو" تتبع تجربة الجنون المتغيرة من أوائل العصر الحديث إلى القرن التاسع عشر، مجادلًا بأنه "لا عقل بدون جنون". وبينما يحرص "إيراسموس" و"مونتين" و"شكسبير" على الإشارة إلى أنه لا يوجد ما هو أكثر حماقة من اعتبار المرء نفسه حكيمًا، يذهب "فوكو" إلى حدّ القول بأن تأكيد المرء على سلامة عقله يكشف دائمًا عن أثر للجنون. لكن، كما هو الحال فى أى تصنيف، فإن وصف شخص ما بأنه "مجنون" يُعدّ، من بعض النواحى، غير عقلانى. فهذا لا يضع ثقة مطلقة بقدرة العقل السليم على السيطرة على ما لا يستطيع فهمه بحكم تعريفه (لأن الجنون بحكم تعريفه يتجاوز العقل)، بل يغفل أيضًا، كما يتأمل "مونتين" فى الصفحات الأولى من مقالاته، أن "الإنسان كائن رائع، مغرور، متنوع، ومتذبذب: من الصعب جدًا أن نبنى عليه أى حكم مباشر ثابت وموحد". إن وضع معايير مطلقة يتعارض فى نهاية المطاف مع جوهر التقاطع فى الوجود.

يتضح أن رؤية "فوكو" هى رؤية شكسبيرية بامتياز.  ففى رواية "شكسبير" المتأخرة، "سيمبلين"، يجد "بوستوموس" نبوءة "جوبيتر" المُحيّرة، ويشير إليها على النحو التالة:

"...لا يزال حلمًا، وإلا فهو كالجنون، لسانٌ وعقلٌ بلا عقل؛ إما كلاهما، أو لا شىء، أو كلامٌ بلا معنى، أو كلامٌ لا يستطيع العقل فكّه."

هنا، يرتبط المعنى والهراء، العقل والجنون، فى علاقةٍ مُحدّدةٍ مُتبادلة. مع أن الكلام "بلامعنى" لا يُمكن دمجه بدقةٍ فى نطاق العقل، إلا أنه لا يُمكن الاعتراف به دون تصنيف العقل له كشىءٍ غريب، خارج نطاقه، "فهو كلامٌ لا يستطيع العقل فكّه".

ويبدو هنا أن الحماقة والحكمة مرتبطتان أيضًا بعلاقة متبادلة. فبينما تُمكّننا الحماقة من السخرية من ادعاءاتنا بالسيطرة، إلا أنها لا يمكن أن توجد لولا ما يُسميه "مونتين" "العقل البشرى الرفيع الذى يتدخل فى كل مكان، مُسيطرًا ومُشوّشًاعلى كل الأشياء وفقًا لغروره".

ما هى إذن فائدة فهم حدود العقل والجسد البشريين؟  حسنًا، بصرف النظر عن أنها جعلتنا ننظر إلى إنسانية تلك الفترة على أنها معادية للماهية وغير مركزية على الإنسان، إذا فهمنا عملية التنوير على أنها "خروج الإنسان من قصوره الذاتى" (كما عرّف "إيمانويل كانط" التنوير فى إحدى مقالته بعنوان "ما هو التنوير؟")، فقد يقال إن "شكسبير" يُنير جمهوره من خلال خطاب الحماقة، لأنه من خلال هذا الخطاب بالأساس يُحرر جمهوره من انغماسهم فى الأفكار التقليدية وأنماط التفكير الراسخة. ومع ذلك، فإن الحكمة المتناقضة للحماقة تكمن، أولاً وقبل كل شىء، فى رفضها المتشكك للثقة بنفسها - أى تأكيد إما أن دلالاتها صحيحة تمامًا أو أن طرق إدراكها للعالم صحيحة تمامًا. لذا، فإن الحماقة لا تُعلّم المرء الثقة فى فهمه الخاص. إنها تفعل شيئًا أهم بكثير. إن الحكمة المتناقضة للحماقة تُعلّمنا عدم الثقة بحكمتنا الخاصة. 

 عن: الدكتور "سام جيلكريست هول" 

 زميل ما بعد الدكتوراه, وقد نُشرت أطروحته للدكتوراه بعنوان "حماقة شكسبير: الفلسفة، الإنسانية، النظرية النقدية" عام 2017 ■.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة