الديادوخيون- ورثة "الاسكندر الأكبر"

فى عالم جديد متقلب، كان طموح خلفاء "الإسكندر الأكبر" (الديادوخيون) الهلنستيين، هو الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها، وكانت الشرعية هى المسألة الحاسمة. 

كان "الإسكندر" ملكاً شرعياً، لكن خلفاءه لم يكونوا من السلالة الملكية، بل كانوا أمراء حرب يتقاتلون من أجل السيطرة على تلك الإمبراطورية الموروثة. ولكى يكونوا فعالين، فقد اتسموا بخصائص تميز بها الطغاة السابقين.

ظهر أوائل الطغاة فى "اليونان" بحلول منتصف القرن السابع قبل الميلاد. وبينما لم يكن للطغيان سابقاً أى دلالات سلبية، إلا أنهم وعلى الرغم من شعبيتهم بين عامة الناس، قد تعرضوا لانتقادات لاذعة.

فعلى سبيل المثال، صرّح "هيرودوت" بأنه "لا يوجد شىء معروف للإنسان أكثر ظلمًا أو تعطشًا للدماء من الطغيان". وأشار إلى الكيفية التى اكتسب بها الطاغية الأثينى، "بيسيستراتوس"، أتباعًا كثرًا لأن الأثينيين "وجدوا أن حكم الطاغية أمتع من الحرية". وبالمثل كتب "زينوفون"، مشيرًا إلى "يوفرون السيسيونى"، كيف "يبدو أن الأغلبية تصف رجلًا بأنه 'صالح' لمجرد أنه نفعها".

كان للفلاسفة هم أيضًا، نظرة سلبية للغاية تجاه الاستبداد. حين جادل "أفلاطون" فى جمهوريته بأن الديمقراطية أفسحت المجال للاستبداد. بحيث أن الجماهير غير المثقفة فضّلت الطغاة من أجل مصالحها الخاصة، لا لمصلحة مجتمع عادل. وافق "أرسطو" على ذلك. ووفقًا لكتابه "السياسة"، نشأ الطغاة من كنف حكام ذوى حكم طويل الأمد فى الأنظمة الأوليجارشية والديمقراطية، سواءً كان شاغلو تلك المناصب من السلالات الحاكمة أو من الديماجوجيين. فى الواقع، لقد جادل "أرسطو" بأن الاستبداد، على عكس الملكية، هو أسوأ أشكال الملكية، على الرغم من أن الطغاة يمكن أن يتطوروا من الملكية.  

حتى أن الفلاسفة سعوا إلى تثقيف القادة الملكيين حتى لا يقعوا فريسة لإغراءات الطغيان، مثل "إيسقراط"، الذى سعى إلى تعليم "نيكولاوس"، الملك القبرصى، كيفية "حكم دولته ومملكته بأفضل ما يمكن" (إلى نيكولاوس).

خلفاء هيلنستيون:

لم يعتبر "أرسطو" تلميذه، "الإسكندر الأكبر"، طاغية، معتبراً إياه الحاكم الشرعى لمقدونيا - على الرغم من أن العديد من اليونانيين قد خالفوه الرأى، واعتبروا كلاً من "الإسكندر" ووالده، "فيليب الثانى"، طغاة غير شرعيين. 

أما الديادوخيون،( ورثة الاسكندر) ، فلم يكونوا من سلالة ملكية، ولم يكن لهم حق شرعى مباشر فى عرش "مقدونيا" ولا فى الإمبراطورية التى أسسها الإسكندر. 

وبينما لم تستخدم المصادر القديمة، كلمة "طاغية" للإشارة إليهم، إلا أنه من السهل إيجاد أوجه شبه.

ومثل الباسيليوس، ارتدى الحكام الهلنستيون التيجان وحملوا الصولجانات، ولكنهم مثل الطغاة، استخدموا القوة للحفاظ على سلطتهم واعتمدوا على المرتزقة. وكما هو الحال مع الطغاة السابقين، بمن فيهم "جيسون الفيراى"، و"مايندريوس الساموسى"، أو "ديونيسيوس الأول السرقوسى"، ركّز الديادوخيون على الحرب، وكثيراً ما كانوا يهاجمون بعضهم البعض لتوسيع سلطتهم باعتبار كل منهم هو "الخليفة الحقيقى الوحيد" للإسكندر. 

وكثيراً ما سادت عقلية "الانتصار بالرمح" لدى هؤلاء الورثة، بحيث أصبحت القوة شكلاً من أشكال الشرعية. 

فى الواقع، وفقاً لفلسفة "أفلاطون"، لا بد أن يكون الطاغية دائماً مُثيراً للحرب (الجمهورية)، وهو ما فعله الديادوخيون فى العقود التى تلت وفاة "الإسكندر". ومع ذلك، فبينما غزا "الإسكندر" أراضٍ أجنبية، ضحى خلفاؤه بممتلكات بعيدة للتركيز على محاربة إخوانهم اليونانيين، وهو ما كان هدفهم النهائى من أجل الحفاظ على شرعيتهم.

كان هؤلاء الخلفاء أو الورثة بمثابة المستفيدين من المجتمعات الخاضعة لسيطرتهم، بحيث شيّدوا المبانى أو قدّموا المساعدة الاقتصادية من أجل ذلك. 

عُرفت هذه المنافع باسم "الإيورجيتسم" أو "فعل الخيرات"، وهى ممارسة بدأها طغاة العصر القديم، مثل "بيسيستراتوس". 

فعلى سبيل المثال، بنى "بطليموس الأول" والثانى "فيلادلفوس" مكتبة "الإسكندرية" الكبرى، وهى أهم مركز للتعلم فى العالم القديم. 

كما بنى "بطليموس الثالث" (الملقب، بإيورجيتس، المحسن) العديد من المعابد، بما فى ذلك معبد "حورس" فى "إدفو". 

فى "بيرجامون"، كان الأتاليون من كبار المحسنين أيضًا. بنى "يومينس الثانى" مذبح زيوس ومكتبة المدينة العظيمة. لم تكن هذه الأعمال مجرد مشاريع مجتمعية هادفة بدأها أى قائد ولكنها كانت مصممة خصيصًا لكسب تأييد المواطنين لحكمهم.

وبينما عرض الخلفاء دعم حرية اليونانيين، إلا أن هذه التصريحات لم تكن إلا من أجل خدمة مصالحهم الخاصة. حيث لم ينعم اليونانيون بالحرية، إذ كانوا خاضعين للطغاة والحاميات المرتزقة والثورات المختلفة فى الفترة الهلنستية المبكرة. 

فى عام 307 قبل الميلاد، أرسل "أنتيجونوس مونوفثالموس" ابنه "ديمتريوس" إلى "أثينا" لاستعادة الديمقراطية، ولطرد طاغية كان قد تم تنصيبه حديثًا - يُدعى أيضًا "ديمتريوس" - كان قد نصّبه "كاساندر"، خليفة "أنتيجونوس" المنافس. وبعد أكثر من عشر سنوات، تولى طاغية آخر، "لاكاريس"، السلطة فى "أثينا"، فخلعه "ديمتريوس" مرة أخرى.  

كان هدف "أنتيجونوس" هو تصوير نفسه كمحرر، مقارنةً بسلوك "كاساندر" الاستبدادى الذى نصّب الطغاة فى أثينا ملوكًا وهم مجرد دمىً لنفسه. 

وهكذا، كان الهدف العام من هذه التحركات حشد الدعم لسلالة أنتيجونيدية فى "اليونان".

الطغاة، السلالات، والموت:

من خلال تأسيس السلالات، يتضح أن الخلفاء اعتبروا أنفسهم ملوكًا، ولكن هذا اللقب لم يتم اعتماده رسميًا إلا بعد عقود، وقبل ذلك، كانت السلطة الفعلية أكثر تعقيدًا. 

فى الواقع، بعد حوالى عشرين عامًا من وفاة "الإسكندر"، بدأ استخدام مصطلح "باسيليوس" بين الخلفاء. 

بالطبع، كان عليهم الاعتراف بعدم امتلاكهم للقب ملكى، فكانوا  على غرار "الطغاة"، يطالبون به بناءً على هيبتهم وشرفهم الشخصى. 

خلال حكم "الإسكندر"، كان الديادوخيون مجرد حكام أقاليم، وبعد وفاة "الإسكندر"، أطلقوا على أنفسهم لقب "إبيميليتس" (مدير) أو "ستراتيجوس" (قائد).

 طوال التاريخ اليونانى القديم، استندت النخبة إلى شكل من أشكال النسب الإلهى أو البطولى لتمييز أنفسهم عن عامة الناس وتقديم أنفسهم كحكام طبيعيين، وهو الأمر الذى استخدمه الطغاة، وخاصة الطغاة الأوائل.

 على سبيل المثال، ادعى "البيسيستراتيون" النسب إلى "نيليوس"، والد "نستور"، حتى أن "بيسيستراتوس" تمت تسميته على اسم أحد أبناء "نستور". كما جادل الخلفاء الهلنستيون بامتلاكهم الدعم الإلهى، حتى أنهم واصلوا ادعاءات "الإسكندر" بالألوهية من خلال الدفع إلى عبادة إله مستبد فى شخصهم. 

خلال حياة "الإسكندر"، أغرى رجال الحاشية غرور الملك، واصفين إياه بابن زيوس آمون، ملك الآلهة اليونانى المصرى. حتى أنهم شجعوه على تجاهل فيليب باعتباره والده الحقيقى، واحتضان العنصر الإلهى. 

ادّعى "الإسكندر" أيضًا أن مغامراته وفتوحاته فاقت مغامرات "هرقل" وحتى "ديونيسوس"، الذى سافر إلى "الهند" خلال رحلاته الأرضية. وحتى قبل وفاته، كان يتم تكريم "الإسكندر" باعتباره "إله".

بعد وفاته، أصبح جسد "الإسكندر" رمزًا قويًا لشرعية خلفائه. فسارع "بيرديكاس"، الذى كان يعلم أن مكانته ضعيفة، إلى ضمان حصوله على شرف دفن الملك العظيم. 

فى حين كانت ل"بطليموس" خطط أخرى، فاختطف الجثة وهى فى طريقها إلى "مقدونيا"، وقام بدفن "الإسكندر" فى "مصر"، مُرسخًا نفسه كأسعد خلفاء الإسكندر حظًا. 

لاحقًا، قام بتأسيس عبادة حول شخص "الإسكندر", مُصوّرًا إياه بشكلٍ  رسمى كإله. كما بدأ تداول تقليد يزعم أن "بطليموس" هو الابن غير الشرعي ل"فيليب الثانى"، والد "الإسكندر الأكبر"، ومن المرجح أنه اختُرع ذلك لإضفاء شرعية أكبر وإظهار حكمه على أنه شرعى.  

كان حكام الديادوخ الآخرون لا يزالون ينتظرون فرصتهم. ووفقًا لبلوتارخ، ادعى "يومينيس" أن "الإسكندر" جاءه فى المنام مُعلنًا أنه سيقف إلى جانبه فى صراعه مع الخلفاء الآخرين. 

كان امتلاك جسده أمرًا رائعًا، لكن زيارة شبحه له وتأييده الرسمى له بدا أروع. ولكن للأسف هُزم "يومينيس" على يد "أنتيجونوس" فى إحدى المعارك، مما أثبت أنه حتى لو كان ادعاؤه صحيحًا، فيبدو إن شبح "الإسكندر" قد دعم المرشح الخطأ. ومع ذلك، فإن التركيز على الادعاءات الخارقة للطبيعة كان بمثابة صدى لادعاءات طغاة العصر القديم.

كما عاش "الديادوخيون" وفق نهج "الفوز بالرمح"، فانهم ماتوا أيضاً بنفس الطريقة. سقط جميعهم تقريبًا ضحيةً لأحد منافسيهم إلى تحقيق الرغبة فى أن يصبحوا الملوك الشرعيين. وبينما كان الديادوخيون يخوضون الحروب، قام "كاساندر"، الذى كان يعمل فى الخفاء أكثر من منافسيه، بقتل وريث الإسكندر، "الإسكندر الرابع"، وأمه "أوليمبياس". كما دبر مقتل ابنه غير الشرعى المحتمل، "هرقل". فى النهاية، أُبيدت سلالة "الإسكندر الأكبر" على يد الديادوخيين التابعين له، تمامًا كما أُبيدت إمبراطوريته.

السعى وراء الشرعية:

لم يكن لخلفاء "الإسكندر" أى حق فى الإمبراطورية التى أسسها. ولذلك، حاولوا ادعاء الشرعية من خلال فضائلهم، كما كان يفعل الطغاة الذين سبقوهم.  اعتبر الديادوخيون جميع زملائهم من بلاط "الإسكندر" بمثابة تهديدًا لسلطتهم، بحيث انخرطوا جميعاً فى سلوك استبدادى لضمان شرعيتهم ومكانتهم ونجاحهم.

فى النهاية، وبينما كان شعبهم يُطلق عليهم اسم "باسيليوس"، فقد لعبوا أدوارًا مختلفة كملوك وقادة وطغاة.


مقال: "جيسون س. ويتمارش" أستاذ العلوم الإنسانية فى "كلية سانت جونز ريفر ستيت". وهو متخصص فى حضارات "مصر" و"اليونان" و"روما".


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة