"الإنكشاريون"، مصدر مجد الدولة العثمانية وانحدارها

 كان نظام "الدوشيرمة" (Duvşirme) من أكثر مؤسسات الإمبراطورية العثمانية رعبًا، وهو نظام لتجنيد الأطفال، مأخوذ اسمه من الكلمة التركية "الجمع". 

فمع غزو العثمانيين لأراض فى "الأناضول" و"أرمينيا" و"البلقان" فى القرن الخامس عشر الميلادى، أسروا أكثر الصبية قدرةً جسدية وعقلية. 

يرجع السبب فى ذلك جزئيًا إلى أنه بموجب القانون التركى، كان استعباد المسلمين يعد محظورًا، وأيضًا لأن هذه الاستراتيجية حالت دون بروز منافسين أقوياء بين القادة العسكريين المستقبليين. 

مع مرور الوقت، خُتن هؤلاء الأطفال، واعتنقوا الإسلام، ونُقلوا إلى عاصمة الإمبراطورية.

بعد سقوط "القسطنطينية" فى أيدى العثمانيين عام 1453، أصبحت "أدرنة" هى العاصمة العثمانية الجديدة، وسُميت لاحقًا ب"إسطنبول". وكان المجندون المختطفون الذين أُرسلوا إلى "إسطنبول" يتلقون رواتبهم ويُمنحون فرصًا واسعة.

التحق عدد قليل منهم بكلية "إندرون"، وهى كلية النخبة داخل قصر توبكابى. أما معظمهم، فقد أُرسلوا إلى مدارس عسكرية حيث تم إعدادهم للالتحاق بالجيش، فتدربوا على فنون الحرب وتعلموا الطاعة المطلقة للسلطان. وانتهى المطاف بالغالبية العظمى من هؤلاء المجندين بالانضمام إلى فيلق "الإنكشارية"، أو "ينيتشيرى" (كلمة تركية تعنى "الجنود الجدد")، وهم أخطر جيوش الجيش العثمانى.

الفاتحون والشرطة:

تأسست فرقة "الإنكشارية" فى أواخر القرن الرابع عشر الميلادى كحرس شخصى للسلطان، وأصبحت لاحقًا الجيش النظامى للدولة العثمانية. 

اشتهروا برماة السهام المهرة، واعتمدوا استخدام الأسلحة النارية فى أربعينيات القرن الخامس عشر، كما برعوا فى حفر الأنفاق تحت أسوار المدن المحاصرة. 

كانت مشاركتهم عاملاً حاسماً في نجاح الحملات العسكرية للسلاطين، ولا سيما عام 1453، عندما غزت الدولة العثمانية بقيادة السلطان "محمد الثانى" الإمبراطورية البيزنطية. وبحلول نهاية عهد "محمد الثانى"، عام 1481، تضاعف عدد الإنكشارية.

قام الإنكشاريون بالإضافة إلى واجباتهم العسكرية، بأنشطة أخرى، مثل الحفاظ على النظام العام. وفى حال وجود خطر اندلاع أعمال شغب بسبب نقص الغذاء، كان الإنكشاريون هم من يحرسون المخابز ومواشى قطعان الدولة. 

كان الإنكشاريون يجوبون الشوارع ليلاً ويتصرفون كمحققين، وعلى ما يبدو كان ذلك يتم بفاعلية ملحوظة. 

وقد جعلتهم صلاتهم الخفية بشبكات اللصوص السرية أكثر فعالية فى استعادة المسروقات.

كان الإنكشاريون بأغطية رؤوسهم المميزة، تذكيرًا يوميًا واضحًا لرعايا السلاطين بالسلطة العثمانية. 

كان للمظهر أهمية لا تقل عن البراعة القتالية: فخلال العروض العسكرية العثمانية، كان الإنكشاريون يحملون، وسط الرايات البيضاء، قدرًا نحاسيًا ضخمًا للطهى، وهو رمز شبه مقدس يُعرف باسم "القازان"، حيث كانوا يُعدّون فيه وجباتهم الجماعية أثناء الحملات.

كان من الشائع رؤية الإنكشاريين فى أسواق "إسطنبول" حول منتدى "ثيودوسيوس' القديم. وبفضل الدعم المالى الذى تلقوه، كان بإمكانهم الحصول على الطعام المجانى وغيره من المواد الغذائية الأساسية. كما عُرف عنهم ارتيادهم العديد من المقاهى وصالونات الحلاقة بالقرب من "تكايا" جماعة "بكتاش"، التى كانوا يتبعونها.  

استندت هذه الطريقة الصوفية إلى عقائد مزجت عناصر من العقائد التركية القديمة والبوذية والشيعة. ويشتق اسم المجموعة من "حاجى بكتاش"، مؤسس الطريقة فى القرن الثالث عشر.

الخوف من التمرد:

عندما قاد الإنكشاريون الفتوحات العثمانية العظيمة فى أواخر القرن الخامس عشر، ازداد عددهم بشكل كبير. ومع ذلك، ما إن بلغت الإمبراطورية ذروتها فى عهد "سليمان القانونى" فى منتصف القرن السادس عشر، حتى بدأ وجود مثل هذا العدد الكبير من الرجال المسلحين والمدربين فى العاصمة يُقلق السلطان ووزراءه. 

حيث اشتهر الإنكشاريون باستعدادهم للتمرد، وكثيرًا ما كانوا يُعلنون تمردهم بالانقلاب الرمزى على قوازينهم، ورفض الطعام المُقدم فى القصر.

دبر الإنكشاريون العديد من المؤامرات لعزل الوزراء، وكبار المسؤولين، وخلع السلاطين. وليس من المُستغرب أن يسعى كل سلطان جديد، عند اعتلائه العرش، إلى التقرب من الإنكشاريين بتقديم المال لهم.  

غالبًا ما كانت تنتهى محاولات كبح جماحهم بكارثة، كما حدث مع "السلطان عثمان الثانى"، وهو فى سن المراهقة، حين تم اعدامه خنقًا عام 1622 بعد محاولته إغلاق المقاهى التى كان الإنكشاريون يُدبّرون فيها خططهم التخريبية. 

كانت هذه أول مرة يتسبب فيها الإنكشاريون مباشرةً فى وفاة سلطان، لكنها لن تكون الأخيرة.

الانحدار والعار:

ونظراً لمساهمة الإنكشاريين فى تحقيق المجد للدولة العثمانية، بدا أن تباهيهم وإفراطهم كانا مقبولين. ومع ذلك، بحلول القرن السابع عشر، ازدادت نظرة سكان "إسطنبول" السلبية إلى الإنكشاريين باعتبارهم بلطجية. ولم يكن لدى عامة الناس ملجأ يُذكر عندما عانوا من انتهاكاتهم، إذ كان الإنكشاريون يفلتون عمومًا من العقاب.

خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بدأت الإمبراطورية العثمانية فى الانحدار ببطء، ويعود ذلك جزئيًا إلى عجز السلاطين عن فرض الانضباط على قواتهم.  

يوثّق الضابط البحرى البريطاني "أدولفوس سليدفى" فى مذكراته عن رحلاته إلى "تركيا" و"اليونان'، السمعة السيئة للإنكشاريين فى أوائل القرن التاسع عشر، فيكتب:

"كانوا سادة العصر، وحكموا "القسطنطينية" بغطرسة لا تُقهر، وكان مظهرهم يُجسّد إفراطًا فى الفجور؛ لغتهم البذيئة، وسلوكهم الفظ، وعمائمهم الضخمة، وصدرياتهم المفتوحة، وأحزمتهم الضخمة المحشوة بالأسلحة، وعصيهم الثقيلة، مما جعلهم مصدرًا للخوف والاشمئزاز".

بلغت فوضى الإنكشارية ذروتها عام 1806، عقب محاولات "سليم الثالث" إجراء إصلاحات عسكرية على الطراز الأوروبى. لقد غضب الإنكشاريون من هذا التهديد لهيبتهم، فقتلوا "سليم"، لكن تهورهم كان قد زرع بذور دمارهم.

فى عام 1826، نجح السلطان "محمود الثانى" فيما فشل فيه جميع السلاطين الآخرين، إذ أطلق إصلاحات عسكرية بالتوازى مع تخطيط دقيق ضد ثورة الإنكشارية الحتمية.  

قام الإنكشاريون بقلب قدورهم الرمزية، لكن السلطات كانت مستعدة هذه المرة. وفيما عُرف بالحادثة الميمونة، تم قتل آلاف الإنكشاريين داخل ثكناتهم. لكن الأوان كان قد فات لإنقاذ الإمبراطورية العثمانية، التى اختفت بعد أقل من قرن، حين برز من الجيش التركى لاحقًا جنرالًا يُدعى "مصطفى كمال أتاتورك"، مؤسس دولة "تركيا" ما بعد العثمانية.


عن: "أنخيل كارلوس أجوايو بيريز"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة