كيف نعزز الثقة بالنفس

قد يكون علم النفس قد نجح أخيراً فى إكتشاف أسرار الثقة بالنفس. وربما يكون الحصول عليها أسهل كثيراً مما كنا نعتقد.

عن مقال بقلم: "جيس تومسون"

نحن نميل بطريقة ما، الى التقليل بشكل كبير من شأن أنفسنا. فبينما يرغب معظمنا فى الحصول على المزيد من الثقة (16% فقط منا يصفون أنفسهم بأنهم "واثقون جدًا بأنفسهم")، لا يدرك الكثير منا مدى تأثير الثقة بالنفس على حياتنا.

بعيدًا عن كونها مجرد سمة مفيدة حين تضطر إلى مواجهة الآخرين أو إثارة الإعجاب فى التجمعات، فإن الثقة بالنفس عُرفت دائما بأنها مؤشر قوى على النجاح وتحقيق نتائج إيجابية فى الحياة. 

يميل الأشخاص الواثقون إلى أن يكونوا أكثر صحة وسعادة ومرونة. فيكون أدائهم أفضل فى الدراسة، ويستطيعون الحصول عن رضا وظيفى ونجاح مهنى أكبر، كما أنهم يبنون علاقات أقوى، وغالبًا ما يكونون أعضاءً أكثر فعالية فى المجتمع.

على الجانب الآخر، فإن انخفاض الثقة بالنفس يتجاوز مجرد اللحظات العرضية من الشك فى الذات، إذ يرتبط هذا الشعور عادة، بالخوف من أحكام الآخرين، وتدهور الصحة النفسية، بل وزيادة احتمالية الانخراط فى سلوك إجرامى. 

لقد أدرك علماء النفس دائماً الأهمية البالغة للثقة بالنفس. ومع ذلك، فقد ظلت آلياتها الداخلية - كيفياتها وأسبابها - غامضة لفترة طويلة.

كان ذلك قبل أن تخطر ببال بعض علماء الأعصاب النابهين فكرة جديدة. ماذا لو استطاعت تقنيات مسح الدماغ، مثل التصوير بالرنين المغناطيسى الوظيفى (fMRI) وتخطيط كهربية الدماغ (EEG)، كشف شبكات الدماغ التى "تولد" الثقة؟ هل يمكننا مراقبة تأثير هذه المشاعر على قراراتنا آنيًا؟ 

والسؤال الأهم: هل يمكننا اكتشاف ما إذا كانت الثقة سمة فطرية كامنة فى تركيبنا البيولوجى، أم أنها صفة نكتسبها؟

يُعدّ البروفيسور "إيان روبرتسون"، عالم النفس السريرى والمدير المؤسس ل"معهد ترينيتى كوليدج" لعلم الأعصاب فى "دبلن"، أحد العلماء الذين قاموا تحديدًا بطرح هذه الأسئلة. فبمساعدة أحدث التقنيات، يدرس "روبرتسون" كيفية تأثير الثقة فى أدمغتنا وأجسامنا. ورسالته الأساسية تبعث على الاطمئنان: الثقة ببساطة ليست شيئًا يُولد به بعضنا دون الآخر.

يقول "روبرتسون": "عادةً لا يمكنك رؤية ما يدور فى أذهان الأشخاص الذين يبدون واثقين من أنفسهم، لكنهم يتصرفون بثقة أكبر مما يشعرون به فى الواقع". الثقة لا تعنى اليقين بأن أفعالنا ستحقق النتيجة المرجوة، سيظل هناك دائمًا بعض الشك. بل تعنى التعامل بفعالية مع القلق الناتج عن هذا الشك.

ويقول إنه بهذه الطريقة، لا تُعدّ الثقة سمة ثابتة، بل هى طريقة تفكير وسلوك يمكن للمرء اكتسابها. 

ومع النهج الصحيح والفهم والممارسة، "يبدو الأمر سهلاً".

ما الذى يُكوّن الثقة؟

هناك أمران مهمان فى "علم أعصاب الثقة". الأول هو أنها بعيدة كل البعد عن البساطة.

تقول "الدكتورة ستايسى جروسمان بلوم"، عالمة الأعصاب فى "جامعة نيويورك"، والتى تدرس بالذات آليات الدماغ الكامنة وراء الثقة والإيمان : "الثقة ليست محصورة فى جزء واحد من الدماغ، بل هى نتاج لشبكة من المناطق التى تعمل معًا".

قد تبدو بعض المناطق الدماغية الرئيسية فى هذه الشبكة مألوفة - مثل "قشرة الفص الجبهى". 

تقع هذه المنطقة خلف الجبهه مباشرةً، وتساعد على تقييم الذات، وتقييم الخيارات المتاحة، واتخاذ القرارات - وكلها أمور أساسية عندما تكون على وشك المخاطرة أو مواجهة تحدٍّ ما.

ثم هناك "اللوزة الدماغية"، التى تُعرف بدورها فى المساعدة على إثارة الاستجابات العاطفية مثل الخوف. لكن "اللوزة الدماغية" السليمة لا تُصدر إنذاراتٍ فحسب، بل تُساعد أيضًا على تحديد متى لا تُشكّل الأمور تهديدًا، وهو أمرٌ أساسى لبناء الشعور بالأمان. 

يقول "بلوم": "يمكن للوزة الدماغية فى الواقع تعديل الاستجابات العاطفية، التى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشاعر الثقة".

الأمر الرئيسى الثانى الذى يجب معرفته عن الثقة بالنفس فى الدماغ، هو أنها تعمل كحلقةٍ مُتتالية. فبدلًا من أن تكون شرارةً عابرةً، فهى نظام تغذية راجعة ذاتية التعزيز، يتم دعمه بالعمل والمكافأة والذاكرة - إنها دورةٌ تتعلم من النجاح وتُعزّز الإيمان بالقدرة على تكرار ذلك.

فى صميم هذه الحلقة، يقع نظام المكافأة فى الدماغ والناقل العصبى "الدوبامين". 

قد نستطيع تعريفه باسم "مادة المتعة"، لكن دوره الكامل غالبًا ما يُساء فهمه. صحيح أنه يرتفع عند حدوث أمر جيد (مثل تناول وجبة شهية أو ممارسة الجنس)، ولكنه يلعب أيضًا دورًا حاسمًا فى التوقع. 

لا يُفرز "الدوبامين" استجابةً للمكافآت فحسب، بل أيضًا تحسبًا لها. وبهذه الطريقة، يعمل كإشارة تحفيزية، تدفعك لتكرار السلوكيات التى أدت إلى الحصول على مكافآت ونتائج إيجابية سابقة.

هذه العملية هى جزء مما يُطلق عليه علماء الأعصاب "التعلم المُعزز" - وهى طريقة الدماغ فى ربط الأفعال بالنتائج. 

عندما يُفرز "الدوبامين" تحسبًا للنجاح، فإنه يُعزز الصلة بين ما تفعله والمكافأة التى تتوقعها.

يأتى هنا دور "الحُصين"، مركز الذاكرة فى الدماغ. فعندما تتذكر مثلا لحظةً أدّت فيها أفعالك إلى النجاح - كنجاح عرض تقديمى فى العمل مثلاً - يُساعد "الحُصين" على إعادة تنشيط شبكات الدماغ المُرتبطة بتلك التجربة. أنت لا تتذكر الحدث فحسب، بل تُعيد إحياء "نمط الثقة" فى الدماغ، مُعززاً إيمانك بقدرتك على النجاح مجدداً.

بعبارة أخرى، الثقة ليست مجرد شعور، بل هى استجابة مُكتسبة. وكلما استعان الدماغ بتجارب النجاح، زادت الثقة بالنفس، الأمر الذى ينعكس على المرات القادمة التى يواجه فيها المرء تحديات مماثلة.

يقول "بلوم": "النجاح يقوم حرفيًا بتعليم الدماغ، وكأنه يخبره قائلاً: "هذا الأمر ينجح - إذن كرره!'".

تأثير النجاح:

قد تعتقد أن كل ما سبق هو مجرد أوهام عصبية تُخفى وراءها فكرةً بسيطةً مفادها أن النجاح فى الماضى يُبنى الثقة فى المستقبل. لكن هذه الفكرة البسيطة تُخفى وراءها شيئًا قويًا: فحلقة الثقة لا تكبر فحسب، بل تتضخم بشكل كبير.

يوضح "روبرتسون"، هذه الظاهرة تصف كيف أن الفوز مرة واحدة يُمكن أن يزيد من احتمالية الفوز مرات أخرى، ليس فقط من خلال تحسين المهارات أو تحسين احتمالات الفوز، ولكن لأن الثقة تُعيد تشكيل الدماغ. 

وقد لاحظت الدراسات هذا لدى لاعبى التنس، وراكبى الدراجات، والمتداولين الماليين، وحتى الحيوانات: فالفئران الذكور التى تفوز بسلسلة من المباريات المُخطط لها ضد خصوم أضعف تُصبح أكثر عرضة لهزيمة منافسين أقوى لاحقًا.

يقول "روبرتسون": "الثقة أشبه بالفائدة المركبة. فنجاحاتك الصغيرة تتضاعف بشكل مُضاعف لتصبح نجاحات أكبر تدريجيًا. لذا، فإن أعظم مُحرك للثقة هو النجاح".

ولكن هناك المزيد.  لا يؤدى الفوز إلى تعزيز الأداء المستقبلى فحسب، بل يمكنه أيضًا تشكيل كيفية تعامل الدماغ مع التوتر.

يقول "روبرتسون": "كل تفاعل تنافسى يُنتج فى الجسم بعض هرمون "الكورتيزول"، وهو هرمون التوتر. وعند بلوغه مستويات مرتفعة، يُصبح سامًا للدماغ والجسم". ومع ذلك، فإن الثقة والفوز يُمكن أن يكونا بمثابة حاجز عصبي يحمى من التوتر.

يُجادل "روبرتسون" بأن هذا يُفسر كيف يعيش الفائزون بجوائز الأوسكار فى المتوسط خمس سنوات أطول من المُرشحين لها، وكيف يعيش الفائزون بجائزة "نوبل" حوالى عام ونصف أطول من المُرشحين لها.

"نظرًا لقلة عدد الأشخاص الذين يحصلون على هذه الجوائز، فإن أدمغتهم تقول لهم: "لقد خرجتم من سباق الفئران!". أى أنهم لم يعودوا مُضطرين للمنافسة. 

لقد تحرروا فعليًا من كل هذه الإفرازات السامة الصغيرة للكورتيزول."


عن: "جيس تومسون"، صحفية مُستقلة تُغطى العلوم والصحة والثقافة وأساليب الحياة. ■

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

مـن الذى يحكــم مصــر الأن؟الجزء الثالث