ما هو العيش البطىء؟

فى مجتمع يبدو فيه الجميع منشغلا، يُخالف مبدأ العيش البطىء هذا التوجه السائد. فدعونا هنا نكتشف سويا كيف بدأ هذا التوجه اللطيف ولماذا من المفيد أن نبدأ فى ان نكون أقل إيقاعًا.

من السهل جدًا أن تجد نفسك فى خضم فوضى الحياة اليومية، وكأنك قد أصبحت فى وضع التشغيل التلقائى. لقد أصبحت الجداول الزمنية المزدحمة، وعشرات المهام التى لا تنتهى، والمواعيد الهامه هى القاعدة. لقد اصبح الانشغال وجمع المال والحرص على الإنتاجية، هو وسام الشرف الذى يتنافس عليه الجميع.

لكن فى خضم هذا الروتين، ظهرت حركة مضادة، وبدأت تكتسب زخمًا تدريجيًا. 

يُعرف هذا المفهوم الحديث باسم "العيش البطىء". 

وهو يدعو إلى طريقة حياة أبطأ وأكثر استمتاعا بالحياة.

إنه نهج جديد ربما يُمثل حلا للضغوط العالية التى تسببها المجتمعات الحديثة، سريعه الوتيرة.

قد يعتقد البعض أن العيش البطىء هو مجرد ذريعة للكسل، أو مضيعة للوقت، لكن هذا سوء فهم. 

تتمحور الفكرة الأساسية حول القيام بالأشياء بشكل أفضل، وهو ما يساعد على التخلص من الأشياء غير الضرورية، وبالتالى إتاحة  المزيد من الوقت والمساحة للتركيز على الأشياء المهمة حقًا.

المبادئ الأساسية:

لا تخضع الحياة البطيئة لمؤسسة مركزية، ولا يوجد تعريف عالمى واحد لها. لكن معظم المؤيدين يتبعون مبادئ عامة تُعارض الحياة السريعة.

بينما يتميز نمط الحياة السريع بإحساس دائم بالانشغال والتركيز على إنجاز الأمور، تُعطى الحياة البطيئة الأولوية لإيقاع أقل تسرعًا، حيث يتم تخصيص وقت من أجل الاستمتاع باللحظة الحالية - وهى طريقه تساهم فى تنمية الوعى الذهنى.

كما أنها تُولى أهمية كبيرة للعلاقات الإنسانية وتوطيدها، سواءً من خلال التشجيع على بناء العلاقات، أو ممارسة هواية ما، أو قضاء الوقت فى الطبيعة.

يأتى ذلك فى مقابل ما يفتقره الأشخاص كثيرو الحركة من الوقت الكافى لمثل هذه الأنشطة، وهو الأمر الذى قد يؤدى إلى الشعور بالانفصال والعزلة. 

غالبًا ما يدفعهم ذلك إلى محاولة الإحساس بالرضا عن طريق وسائل تتضمن الإفراط فى الاستهلاك، مثل الشرب أو الأكل أو الإنفاق المفرط. 

ويقودنا هذا إلى جانب آخر من جوانب الحياة البطيئة - وهو تقدير ما نملكه بالفعل، وان نصبح أكثر وعيًا تجاه السلوك الاستهلاكى.

من أين بدأ كل ذلك؟

لنتتبع أصول اسلوب العيش البطىء هذا، علينا العودة إلى مارس 1986، عندما افتُتح فرع جديد ل"ماكدونالدز" فى "ساحة إسبانيا" الشهيرة بروما فى "إيطاليا".

لم تكن مجموعة من النشطاء هناك، راضية عن هذه الإضافة الجديدة إلى المدينة. لم يقتصر قلقهم فقط على إضفاء هذا الطابع الأمريكى على النظام الغذائى الإيطالى، بل شعروا بالفزع أيضًا من شكل الأقواس الذهبية لسلسلة مطاعم الوجبات السريعة، والتى شوّهت جماليات الساحة العريقة.

أدى هذا الاستياء إلى قيامهم بتنظيم مظاهرة، التى على الرغم من فشلها فى إغلاق المطعم، إلا أنها كانت بمثابة الدافع وراء ما يمكن القول إنه أكثر تأثيرًا وامتدادًا: واطلق عليه حركة الأكل البطىء.

كانت الفكرة الرئيسية بقيادة الناشط والمؤلف الإيطالى "كارلو بيترينى"، هى الدفاع عن تقاليد الطعام المحلية، وكما هو موضح فى البيان الأصلى، "الهروب من ملل الوجبات السريعة" و"تناول تشكيلة غنية من المأكولات المحلية مع الاستمتاع بها ببطء وتروى".  

بعد قرابة عقدين من الزمن، أصبح للحركة الآن مؤيدون فى أكثر من 160 دولة، وتطورت لتتبنى نهجًا أكثر شمولًا تجاه الغذاء. 

تُدرك الحركة الصلة بين طبق الطعام وكوكب الأرض والناس والسياسة والثقافة، مع التركيز على تعزيز الأجور العادلة للمنتجين والأنشطة المستدامة.

الأقسام الفرعية للطعام البطىء:

مع ترسيخ حركة الطعام البطىء فى التسعينيات، ألهم ذلك نشوء ثقافات فرعية أخرى للطعام البطىء. ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك منظمة "سيتاسلو"، التى أسسها عام 1999 أربعة إيطاليين هادئين سعوا إلى التغلب على ضغوط الحياة العصرية. وقد حققت المنظمة الآن هدفها المتمثل فى تحسين جودة الحياة فى المدينة فى 260 مركزًا حضريًا.

ومع  ذلك، فإن مفهوم الحياة البطيئة بحد ذاته قد برز عام 2004 مع نشر كتاب بعنوان: "فى مديح البطء". حين استلهم الكاتب، الصحف الكندى "كارل أونوريه"، استكشاف هذه الفلسفة عندما واجه هو شخصيا تجربة نداء استيقاظ. 

فبينما كان يبحث عن قصة ما قبل النوم لابنه ذى الأربع سنوات، وجد كتاب حكايات خرافية مدته ستون ثانية. فى تلك اللحظة، أدرك أنه كان يخوض غمار الحياة، بدلًا من أن يعيشها بالفعل.

 يتناول  كتاب "فى مديح البطء" هذا الإلحاح العصرى على الاستعجال، ويرصد الاتجاه المتزايد نحو الهدوء والتروى. ويجادل الكتاب بأنه على الرغم من استمرار تسارع العالم، إلا أن هناك تيارًا مضادًا متزايدًا من البطء.

إن الظهور المستمر لأقسام فرعية جديدة من الحركة دليل على تزايد شعبية الحياة البطيئة. 

من العمل، وتربية الأطفال، والسفر، إلى الموضة، والبستنة، وألعاب الفيديو، هناك جانب من البطء لدى الجميع. ومع ذلك، ورغم هذا الانتشار، فقد تطلب الأمر جائحة عالمية حتى تصل الحركة إلى الجماهير بالكامل.

الحياة فى زمن الجائحة:

توقفت الحياة كما عرفناها تمامًا مع اجتياح جائحة كوفيد-19 العالم فى أوائل عام 2020. ومع اضطرارنا للبقاء فى منازلنا، لم يكن أمامنا خيار سوى التباطؤ. وأدى التحول إلى العمل عن بُعد إلى تقليص ساعات التنقل، كما أتاح قلة الالتزامات المجال لممارسة الهوايات - القديمة والجديدة - وأبرزت العزلة أهمية التواصل الحقيقى.

بدأ الناس يدركون أنهم استخدموا حياتهم المزدحمة كمجرد وسيلة إلهاء، بينما اكتشف آخرون أنهم ببساطة استنفدوا طاقاتهم لسنوات دون مرود نفسى حقيقى. وفى النهاية، سلّط هذا الضوء على أن ثقافة العمل من التاسعة صباحًا إلى الخامسة مساءً لم تعد طريقة مُرضية للعيش.

لقد بلغ السعى وراء العيش البطىء بلا شك، مستويات جديدة خلال هذه الفترة. فقد أفادت "جوجل" فى مارس 2021 أن هذا التوجه "ينمو بشكل كبير على يوتيوب"، حيث بحث ملايين المشاهدين عن مقاطع فيديو تحمل عنوان "العيش البطىء".

كما شهدت وسائل التواصل الاجتماعى تدفقًا كبيرًا.  ويوجد الآن 5 ملايين هاشتاج #slowliving على موقع "إنستجرام"، بينما حقق نفس الهاشتاج أكثر من مليار مشاهدة على تطبيق "تيك توك".

الخروج من الحجر الصحى:

لحسن الحظ، لم نعد مقيدين الآن بقيود الحجر. لقد عادت الحياة كما عهدناها، باستثناء بعض التغييرات التى تتماشى مع فلسفة الحياة البطيئة. 

أبرز هذه التغييرات هو ظهور اسلوب العمل المرن، الذي يوفر توازنًا أفضل ما بين العمل والحياة، إذ يوفر وقت أطول للأنشطة والالتزامات الأخرى.

كما أن الجائحة قد ذكّرتنا بأن الوقت غير المنظم يُمكّن الأطفال من استعادة نشاطهم، والتأمل، والتفكير الإبداعى. ونتيجةً لذلك، برز اتجاهٌ نحو السماح للأطفال بالتباطؤ، حيث قلّصت المدارس واجباتهم المدرسية وأنشطتهم اللامنهجية.

حتى فى عالم الأعمال، حيث يسود حب السرعة، فإنه بدأ يتقبل فكرة تخفيف وتيرة العمل من وقت لآخر. ويعود ذلك جزئيًا إلى أن الرؤساء أدركوا أن أخذ استراحة من ساعات العمل الطويلة والضغط يُعزز الإنتاجية، والتفكير الاستراتيجى، والإبداع، والدقة.

العصر الرقمى:

 يتشابك عالم الأعمال، ويمتد إلى أوقات فراغنا، فى اعتماد متزايد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى. ويُعد هذا المجال بالغ الأهمية لمن يحرصون على اتباع مبادئ الحياة البطيئة.

تواصل منصات التواصل الاجتماعى ومواقع الأخبار إنتاج التحديثات والآراء والمعلومات الرقمية الأخرى بسرعة قياسية. إنه سيل متواصل من المحتوى ردىء الجودة وغير المدروس، مما ساهم فى ثقافة الاتصال الدائم، حيث تضج هواتفنا الذكية بالتحديثات والإشعارات.

وكرد فعل على هذا، ظهرت الصحافة البطيئة. 

وترى منشورات مثل مجلة "الإشباع المتأخر" (Delayed Gratification) أن الأولوية يجب أن تكون للسياق وليس للسرعة، وتهدف إلى تقديم قصص أكثر دقة وأخلاقية وطرق بحث أفضل. إنها حركة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإعلام البطىء، مع فروع أخرى مثل التدوين البطىء، والتلفزيون البطىء، والقراءة البطيئة.

ومع ذلك، فإن المسؤولية تقع فى النهاية على عاتق مستهلك المحتوى فى عملية البحث عن مثل هذه المنصات.  

ولتجنب الوقوع فى الفخ، من الضرورى مراجعة طريقتنا فى التعامل مع الصحافة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعى، لا سيما مع نمو منصات الذكاء الاصطناعى مثل ChatGPT، التى تُنتج بسرعة شديدة محتوىً "مُصطنعًا".

الخبر السار هو أن بعض شركات التكنولوجيا العملاقة بدأت تدرك رغبتها فى التباطؤ. وتم طرح أدوات تُمكّننا من الحد من وقت استخدامنا للشاشات، كما يتم تشجيعنا على التخلص من السموم الرقمية. كل هذا يُسهم  فى تباطؤ حركة التكنولوجيا.

التوجه نحو البيئة:

يُعد التغير المناخى موضوعًا ساخنًا آخر فى القرن الحادى والعشرين، وهناك العديد من الطرق التى يمكن لأسلوب العيش البطىء أن يُسهم بها فى حماية البيئة. ففى النهاية، العيش بوعى يعنى أن الناس أكثر استعدادًا لاتخاذ قرارات واعية لاستهلاك الأشياء بطريقة مستدامة.

وبدلًا من الانغماس فى ثقافة الاستهلاك المفرط، يتمتع مؤيدو العيش البطىء بوقت أطول لتطبيق بدائل مستدامة، مثل استخدام كوب قهوة قابل لإعادة الاستخدام، أو تقليل استخدام البلاستيك أحادى الاستخدام. 

كما تُتيح هذه الفكرة المجال لطهى الطعام من الصفر، مما يُساعد على التخلص من النفايات البلاستيكية، ويجلب أيضًا فائدة أخرى تتمثل فى تناول طعام أكثر صحة.

كما  أن الموضات السريعة تُلحق الضرر بالبيئة. فالإنتاج المستمر للملابس يُسهم فى شح المياه، واستخدام المواد الكيميائية السامة، وإزالة الغابات، وانبعاث الغازات الملوثة. لذلك فإن التحول إلى فلسفة الموضة البطيئة، المتمثلة فى تقليل الشراء واختيار المنتجات المستعملة كلما أمكن، يُمكن أن يُساعد فى تقليل الأثر الضار لهذه الصناعة.

وقد تطور السفر البطىء أيضًا كاستجابةً للتلوث الناجم عن السيارات والطائرات. لا تقتصر روعة هذا النوع من العطلات على كونها صديقة للبيئة فحسب، بل إن قضاء العطلات بوتيرة أبطأ له إيجابيات أخرى، مثل القدرة على الانغماس الكامل فى ثقافة ما والتفاعل بشكل أكبر مع المجتمعات المحلية.

ماذا بعد؟

لا شك فى أن أسلوب العيش ببطءٍ متعدد الجوانب. لكن لا تدع ذلك يُربكك. فلجعل هذه الفلسفة جزءًا من حياتك، ابدأ بتأنٍّ باختيار جانب أو جانبين يتماشيان مع قيمك. إذا كنت تحب الطبخ، فتمهل فى المطبخ. إذا كنت ترغب فى قضاء وقتٍ ممتعٍ أكثر مع عائلتك، فاجعل ذلك أولوية.


أو يمكنك أن تأخذ نفسًا عميقًا، وتعد إلى ثلاثة، وتقرأ جميع صفحات هذه المدونه بهدوء.


عن مقال ل "ريبيكا برادبرى"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل نحن اذكى مما ينبغى؟

كم أفتقدك - "بقلم: حازم فرجانى"

الأنبياء - قصة قصيرة