أهلاً بكم فى حضارة الكذب
لطالما ناقش فلاسفة من اليونان القديمة والهند وصولاً إلى القرن العشرين ما يُسمى ب"مفارقة الكذب" - إنها عبارات من قبيل "كل ما أقوله كاذب".
تكمن المفارقة فى أنه إذا كانت هذه العبارة صحيحة، فهى إذن خاطئة (كل ما أقوله ليس كاذبًا)، والعكس صحيح.
يقدم "جاك لاكان" (1901-1981) حلاً فريدًا لهذه لمفارقة من خلال التمييز بين محتوى اللفظ والموقف الذاتى الذى ينطوى عليه هذا اللفظ: بين محتوى ما نقوله والموقف الذى ينطوى عليه ما نقوله.
بمجرد أن نُدخل هذا التمييز، ندرك فورًا أن عبارة مثل "كل ما أقوله كاذب" يمكن أن تكون فى حد ذاتها صحيحة أو خاطئة.
قد تُصوّر عبارة مثل "أنا أكذب دائمًا"، سواءً أكان ذلك صحيحًا أم خاطئًا، التجربة الذاتية لوجودنا بأكمله على أنه زائف. ومع ذلك، فإن العكس صحيح أيضًا: فعبارة "أعلم أننى حقير" قد تكون صحيحة فى مضمونها، لكنها خاطئة على مستوى الموقف الذاتى الذى تدّعى تقديمه، لأن مجرد قولها يعنى أن قائلها أُثبت بطريقة ما أنه لست حقيرًا تمامًا - وأنه على الأقل صادق مع نفسه... لكن الرد على هذا ينبغى أن يكون إعادة صياغة لمقولة "جروتشو ماركس" الشهيرة: "أنت تتصرف كحقير وتعترف بأنك حقير، لكن هذا لن يخدعنا - أنت حقير!"
دعونا الآن لا نضيع الوقت فى مثل هذه المفارقات التى لا تنتهى؟ لأنه فى العصر الحالى "ما بعد الحقيقة" للشعبوية اليمينية، بلغت ممارسة الاعتماد على هذه المفارقة ذروتها. لذا لا يمكن فهم الخطاب السياسى اليوم دون التمييز بين لفظ وآخر.
لننتقل إلى "medias res" (وهى كلمة لاتينية تعنى "فى خضم الأحداث").
بعد إعادة انتخاب "ترامب" عام ٢٠٢٤، ناشدت "ألكسندريا أوكاسيو كورتيز" (التى احتفظت بمقعدها فى الكونجرس) علنًا ناخبيها الذين صوتوا لترامب لشرح السبب وراء تصويتهم الغريب والمتناقض هذا. قيل لها إن السبب الرئيسى هو أنها و"ترامب" بدوا أكثر صدقًا، مقارنةً بالحسابات المتلاعبة ل"كامالا هاريس" وغيرها من الديمقراطيين.
ولكن عندما يتم الكشف عن تناقضات أو أكاذيب صريحة له، فإن مثل هذه المقولات لا تفيد "ترامب" إلا عندما يعتبر أنصاره أن حتى أكاذيبه هى دليلًا على أنه يتصرف كإنسان عادى لا يعتمد فقط على مستشاريه الخبراء، بل يعبر عن رأيه بصراحة. وبعبارة أخرى، فإن التناقضات والأكاذيب فى تصريحات "ترامب" تُعدّ دليلًا على أن "ترامب"، يتحدث كإنسان أصيل وصادق. وهذا يثبت أن الموقف الضمنى للكلام يمكن أن يكون مزيفًا أيضًا.
الكذب الاستراتيجى:
تتعارض الحقيقة الذاتية مع الحقيقة الواقعية بطريقة تشبه التعارض بين الهستيريا والعصاب الوسواسى: فالأولى حقيقة متخفية فى هيئة كذبة، والثانية كذبة متخفية فى هيئة حقيقة. فالهستيرى يقول الحقيقة متخفية فى هيئة كذبة، لأن ما يقوله ليس صحيحًا بطريقة حرفية، ولكن هذه الكذبة تُعبّر بشكل زائف عن حقيقية ما؛ بينما يكون ما يدّعيه العصابى الوسواسى صحيح حرفيًا، لكنها تكون حقيقة الغرض منها خدمة الكذب.
يمارس اليوم كلٌّ من الشعبويين اليمينيين ودعاة الصوابية السياسية الليبراليين اليساريين هذين الشكلين المتكاملين من الكذب. أولًا، يلجأ كلا الفريقين إلى الأكاذيب الواقعية عندما تخدم هذه الأكاذيب ما يعتبرونه الحقيقة العليا لقضيتهم.
على سبيل المثال، يدافع بعض الأصوليين الدينيين عن "الكذب من أجل الدفاع عن الدين": لمنع جريمة الإجهاض، فعلى سبيل المثال، يُسمحون بنشر "حقائق" علمية زائفة حول الأجنة والمخاطر الطبية للإجهاض؛ أو بغرض دعم الرضاعة الطبيعية، يقومون بتقديم حقيقة علمية مفادها أن الامتناع عن الرضاعة الطبيعية يُسبب سرطان الثدى.
كما ينشر الشعبويون المناهضون للمهاجرين بلا خجل قصصًا غير مُوثّقة عن حالات اغتصاب وجرائم أخرى يرتكبها لاجئون بهدف إضفاء مصداقية على "رؤيتهم" القائلة بأن اللاجئين يُشكّلون تهديدًا لـ"أسلوب حياتنا".
وفى كثير من الأحيان، يتصرف الليبراليون السياسيون بطريقة مماثلة لأغراض معاكسة.
تُمارس الاستراتيجية المعاكسة على نطاق واسع بين كلا القطبين. فالشعبويون المناهضون للهجرة لا يكتفون بنشر الأكاذيب الواقعية، بل يستخدمونها بمهارة لإضفاء هالة من الصدق على أكاذيبهم العنصرية؛ كما يمارس أنصار الصواب السياسى هذا الكذب فى معركتهم ضد العنصرية والتمييز على أساس الجنس؛ فهم غالبًا ما يستشهدون بوقائع قابلة للتحقق، لكنهم غالبًا ما يُزيّفونها بشكل خاطئ.
يُحول اليمين الشعبوى إحباطه وشعوره الحقيقى بالخسارة نحو عدو خارجى، بينما يستخدم اليسار الصوابى السياسى نقاطه الحقيقية (كشف التحيز الجنسى والعنصرية) لإعادة تأكيد تفوقه الأخلاقى (وبالتالى منع التغيير الاجتماعى والاقتصادى الحقيقى).
تكمن المفارقة الكبرى هنا فى أن اليمين الشعبوى يمارس النسبية التاريخية بوحشية أكبر بكثير من اليسار، على الرغم من إدانتهم لها فى نظريتهم (إذا كان تبريرهم الذاتى يستحق هذه الكلمة من الاساس!).
يمكن القول أن التاريخ بأكمله هو عبارة عن "قصص" أى مزيج من معلومات مُختارة فى سرديات مُتماسكة، وليست نسخًا فوتوغرافية لما حدث فى الواقع.
خذ تاريخ بلد ما على سبيل المثال: يمكن للمرء أن يرويها من وجهة نظر سياسية، مع التركيز على تقلبات السلطة السياسية؛ أو يمكن للمرء أن يركز على التنمية الاقتصادية؛ على الصراعات الأيديولوجية؛ على المعاناة الشعبية والاحتجاجات... كل من هذه الأساليب قد يكون دقيقًا من الناحية الواقعية - لكنها ليست بالضرورة "الحقيقية" بالمعنى الكامل.
لا يوجد شىء "نسبى" فى حقيقة أن التاريخ البشرى يُروى دائمًا من وجهة نظر معينة، مدعومة بمصالح أيديولوجية معينة. الشىء الصعب هو إظهار كيف أن هذه المواقف ليست بالضرورة كلها صحيحة بنفس القدر - فبعضها "أكثر صدقًا" من غيرها.
الكذب السلبى والكذب الإيجابى:
لمزيد من التوضيح فى هذا البُعد، علينا استخدام مفهوم آخر يلعب دورًا حاسمًا في تحليل أيديولوجية اليوم: مفهوم "السلبية المتبادلة"، الذى طرحه "روبرت بفالر".
السلبية المتبادلة هى نقيض مفهوم "هيجل": "مكر العقل"، حيث أكون فاعلًا من خلال الآخر: مفهوم "هيجل" هو أننى أستطيع البقاء سلبيًا، جالسًا فى الخلفية، بينما يقوم الآخرون بالعمل نيابةً عنى. فبدلًا من ضرب المعدن بمطرقة، تستطيع الآلة القيام بذلك نيابةً عنى؛ وبدلًا من إدارة الطاحونة بنفسى، يستطيع الهواء القيام بذلك. هنا أحقق هدفى من خلال التدخل بينى وبين الشىء الذى أعمل عليه، وهو شىء طبيعى آخر. ولكن يمكن أن يحدث الشىء نفسه على المستوى الشخصى. فبدلًا من مهاجمة عدوى مباشرةً، يمكننى إثارة قتال بينه وبين شخص آخر، لأتمكن من مشاهدتهما وهما يدمران بعضهما البعض.
فى حالة التفاعل السلبى، أكون عندها سلبيًا من خلال الآخر: أى أمنحه الجانب السلبى من تجربتى، بينما أظل أنا منخرطًا فى العمل بنشاط: كأن يمكننى مواصلة العمل فى المساء، بينما يكون الآخر جالسا يستمتع بجهاز التلفاز نيابةً عنى؛ أو يمكننى ترتيب أمور مالية لثروة المتوفى بينما ينعيه الباكون.
يقودنا هذا إلى مفهوم النشاط الزائف: فالناس لا يتصرفون لتغيير شىء ما فحسب، بل يمكنهم أيضًا التصرف لمنع حدوث شىء ما، بحيث لا يتغير شىء. وهنا تكمن الاستراتيجية النموذجية للعصابى الوسواسى: فهو يكون نشيط بشكل محموم لمنع حدوث الشىء الحقيقى.
لنفترض، فى موقف جماعى ما، يهدد فيه التوتر بالانفجار، نجد أن الوسواسى يتحدث طوال الوقت لمنع لحظة الصمت المحرجة التى قد تجبر المشاركين على مواجهة التوتر الكامن بصراحة. وبالمثل، فى العلاج بالتحليل النفسى، يتحدث العصابيون الوسواسيون باستمرار، فيغمرون المحلل بالحكايات والأحلام والرؤى. مثل هذا النشاط المتواصل يكون مدعوم بخوف كامن من أنهم إذا توقفوا عن الكلام للحظة، سيطرح عليهم المحلل السؤال الأهم حقًا.
بمعنى آخر، هم يتحدثون لإبقاء المحلل فى موقع محايد.
وحتى فى كثير من السياسات التقدمية اليوم، لا يكمن الخطر فى السلبية، بل فى النشاط الزائف، والرغبة المستمرة فى النشاط والمشاركة، حتى لو كان ذلك غير منتج. يتدخل الناس طوال الوقت، محاولين "فعل شىء ما"، ويشارك الأكاديميون فى نقاشات لا معنى لها؛ أما الصعوبة الحقيقية فهى تكمن فى التراجع والانسحاب. بل غالبًا ما قد يفضل أصحاب السلطة المشاركة النقدية على الصمت - من أجل خلق نوع من الحوار لكسر السلبيه غير المطلوبة.
إن التركيز المستمر على ضرورة الفعل، والقيام بشىء ما، غالبًا ما يفضح الموقف الذاتى المتمثل فى عدم القيام بأى شىء. فمثلاً كلما تحدثنا عن الكارثة البيئية الوشيكة، يقل استعدادنا لمواجهتها.
فى مواجهة هذا النمط السلبى، الذى ننشط فيه باستمرار لضمان عدم حدوث أى تغيير حقيقى، فإن الخطوة الحاسمة الأولى لمعارضته هى الانسحاب إلى السلبية ورفض المشاركة.
هذه هى الخطوة الأولى التى تُمهّد الطريق لنشاط حقيقى - لفعل سيُغيّر إحداثيات الكوكب بفعالية.
تزداد الأمور تعقيدًا مع الاعتذار. إذا جرحتُ شخصًا بتعليقٍ فظّ، فالصواب أن تقدم له اعتذارًا صادقًا؛ والصواب أن يقول هو: "شكرًا، أُقدّر ذلك، لكننى لم أُسىء الفهم، كنتُ أعلم أنك لم تقصد ذلك، لذا لستَ مدينًا لى باعتذار!".
الفكرة بالطبع هى أنه رغم أن النتيجة النهائية هى عدم الحاجة للاعتذار، إلا أن ذلك لا يمكن قوله إلا بعد أن أقوم بتقديم الاعتذار. لذا، فرغم عدم حدوث أى شىء رسميًا- إلا أن هناك فائدةً حدثت فى النهاية: وهى حفظ الصداقة.
وتُطبّق استراتيجية مماثلة فى الاعتذار عندما يكون الاعتراف السريع ذريعةً لتجنب الاعتذار الحقيقى ("قلتُ إننى آسف، فاصمت وتوقف عن إزعاجى!"). قدم الحزب الشيوعى الصينى، نموذجًا مشابهًا للتلاعب بهذه الفجوة بين التصريح والتعبير.
لقد تعلم درس فشل "جورباتشوف": حيث أن الاعتراف العلنى الكامل بـ"الجرائم التأسيسية" للنظام لن يؤدى إلا إلى انهيار النظام بأكمله. لذا، يجب أن تظل هذه الجرائم فى طى الكتمان.
صحيح أن بعض "تجاوزات" و"أخطاء" الماويين ( أنصار ماوتسى تونج) هى مُدانه (القفزة الكبرى للأمام والمجاعة المدمرة التى تلتها؛ والثورة الثقافية)، إلا ان التقييم الرسمى المعتمد هو أن دور "ماو" إيجابى بنسبة 70% وسلبى بنسبة 30%. وهكذا يُمكن الاستمرار فى الاحتفاء به كأب مؤسس للأمة، ويسجى جسده فى ضريح فخم، وتطبع صورته على كل ورقة نقدية.
نحن هنا إذن أمام حالة واضحة من التبرئة المهووسة: فرغم علمنا التام بأن "ماو" قد ارتكب أخطاءً فادحة وتسبب فى معاناة هائلة، إلا أن شخصيته بقيت نقية تمامًا، بغض النظر عن هذه الحقائق. وبهذه الطريقة، يستطيع الشيوعيون الصينيون أن يحصلوا على ما يريدون، ويمكن دمج التغييرات الجذرية التى أحدثها التحرير الاقتصادى مع استمرار حكم الحزب كما كان من قبل.
الإجراء المتبع هنا هو إجراء تحييدى (أو بالأحرى، ما أسماه فرويد "العزلة"): تُقرّ بالفظائع، لكنك تمنع أى ردود فعل تجاهها. ملايين القتلى يصبحون حقيقةً محايدة.
عندما تُغطى وسائل الإعلام الإسرائيلية (وأغلب الغربية) اليوم تدمير غزة، وعمليات القتل الوحشية ألا تُمارس تحييدًا مماثلًا؟
الشائعات والأكاذيب:
ثم هناك الطريقة الغريبة التى تعمل بها الشائعات فى مواجهة الحقائق ("لا أعرف إن كانت صحيحة أم لا، لكن هذا ما سمعته..."). هكذا يحتفظ مضمون الشائعة بكامل فاعليته الرمزية - نستمتع بها، ونعيد سردها بشغف. لذا، فهى ليست مثل الإنكار العبثى، الذى يشبه إلى حد كبير قول: "أعلم جيدًا أنها ليست صحيحة، لكننى مع ذلك أؤمن بها"، بل عكسها - فهى شىء من قبيل: "لا أستطيع أن أقول إننى أعتقد أن هذا صحيح، أو أنه حدث بالفعل؛ لكن مع ذلك، إليكم ما أعرفه".
فيما يتعلق بممارسة السلطة، فإن مجال الشائعات يكون غامض. يمكن للشائعات "القذرة" أن تدعم السلطة (من أتاتورك إلى تيتو)؛ لكن الشائعات تلعب أيضًا دورًا حاسمًا فى كثير من الأحيان فى الاضطرابات والثورات، بما فى ذلك أعمال الشغب المناهضة للمهاجرين (كما ذكرنا، فإن أوروبا مليئة الآن بشائعات عن مهاجرين يغتصبون النساء، وكيف تقوم السلطات برقابة الأخبار المتعلقة بهذه الاغتصابات).
هناك أيضًا ما قد يميل المرء إلى تسميته "الشائعات الجيدة" - تلك اللازمة لإحداث انفجار ثورى، على سبيل المثال. ومن الأمثلة التاريخية الخوف الكبير (لا جراند بور)، الذعر العام الذى حدث بين 17 يوليو و3 أغسطس 1789 فى بداية الثورة الفرنسية.
يبدو أن الشائعات تُناسب تمامًا مأزق اليوم، الذى يصفه كثيرون بـ"موت الحقيقة" - وهو وصفٌ خاطئٌ بوضوح.
يشير مستخدمو هذا المصطلح إلى أنه فى السابق (حتى ثمانينيات القرن الماضى على سبيل المثال)، ورغم كل التلاعبات والتشويهات، فإن الحقيقة قد سادت بطريقةٍ ما، لذا فإن "موت الحقيقة" ظاهرةٌ حديثةٌ نسبيًا.
لكن نظرةً سريعةً تُخبرنا أن الأمر لم يكن كذلك: فكم من انتهاكات حقوق الإنسان والكوارث الإنسانية ظلت خفيةً، من حرب فيتنام إلى غزو العراق؟ تذكروا فقط أوقات "ريجان" و"نيكسون" و"بوش"...
لا يكمن الفرق أن الماضى كان أكثر "صدقًا"، بل فى أن الهيمنة الأيديولوجية كانت أقوى بكثير، بحيث أنه، وبدلًا من فوضى "الحقائق" اليوم، سادت بشكل أساسى "حقيقة" واحدة (أو بالأحرى، كذبة كبيرة واحدة) .
فى الغرب، كانت هذه الحقيقة الوحيدة هى: الليبرالية الديمقراطية (مع لمسة يسارية أو يمينية).
ما يحدث اليوم هو أنه مع هذه الموجة الشعبوية التى هزت المؤسسة السياسية، ينهار أيضًا مبدأ الحقيقة/الكذب الذى شكّل الأساس الأيديولوجى لهذه المؤسسة. والسبب الرئيسى لهذا التفكك ليس صعود النسبية ما بعد الحداثية، بل فشل المؤسسة الحاكمة فى الحفاظ على هيمنتها الأيديولوجية.
يمكننا الآن أن نرى ان ما يطلقون عليه "موت الحقيقة"، هو فى حقيقته تفكيك تلك القصة الكبيرة، التى كانت مقبولة إلى حد ما من قبل الأغلبية، والتى جلبت الاستقرار الأيديولوجى للمجتمع.
يكمن سرّ من يلعنون "النسبية التاريخية" فى افتقادهم للوضع الآمن الذى وفرت فيه حقيقة كبيرة واحدة (حتى لو كانت كذبة كبيرة) "الخريطة المعرفية" الأساسية للجميع.
باختصار، إن من يستنكرون "موت الحقيقة" هم الفاعلون الحقيقيون والأكثر تطرفًا لهذا الموت: شعارهم الضمنى هو الشعار المنسوب إلى "جوته"، "besser Unrecht als Unordnung" - ظلم أفضل من الفوضى - أى، كذبة كبيرة واحدة أفضل من واقع هو مزيج من الأكاذيب والحقائق.
لذا، عندما نسمع تلك الادعاءاتٍ بأن المجتمع ينهار مع استمرار "انهيار النظام البيئى للمعلومات"، يجب أن نكون واضحين تمامًا بشأن ما تعنيه هذه الادعاءات: انها لا تعنى فقط أن الأخبار الكاذبة تكثر، بل الأهم أن الكذبة الكبرى التى كانت تُبقى على تماسك مجتمعنا حتى الآن أصبحت آخذة فى التفكك. وهكذا، فإن "موت الحقيقة" يفتح الباب أمام حقيقة جديدة أصيلة... أو ربما كذبة كبرى أسوأ.
ألا يحدث هذا اليوم مع تراجع الديمقراطية الليبرالية، التى تُطغى عليها تدريجيًا رموزٌ متعددة من الفاشية الجديدة، ومن الشعبوية الإقطاعية الجديدة ومن الاستبداد الدينى؟
بتصرف عن "سلافوى جيجيك" المدير الدولى ل"معهد بيركبيك للعلوم الإنسانية' ب"جامعة لندن"، وأستاذ زائر ب"جامعة نيويورك"، وباحث أول فى قسم الفلسفة ب"جامعة ليوبليانا". ■
تعليقات