حقيقة أصول الشعوب الفينيقية
دائما ما يتم إتهام منطقة الشرق الاوسط والشرق عامة، بانه غارق فى الاوهام والخرافات والتفكير غير العلمى. واذا امعنا النظر قليلاً سنجد ان الغرب، حتى فى افضل صوره الحضاريه، ليس غارق هو الآخر فى الخرافات فحسب، بل انه يقوم بشن الحروب، واستبعاد واستعباد بعض الشعوب بناءاً على تلك الخرافات. بل أن الأمر وصل الى حد المساعدة فى عمليات التطهير العرقى والقتل الجماعى لبعض الشعوب، بناءاً على مثل تلك المرويات الخيالية التى مازالوا يعتبرونها مقدسة.
أصول الفينيقيين:
يذكر الكتاب المقدس أن كبار التجار فى "صور" و"صيدا" كانوا وافدين جدد. إلا أن أحدث الاكتشافات الأثرية تُظهر أن للفينيقيين جذورًا عميقة فى المنطقة.
لم يطلق من نعرفهم الآن بالفينيقيين هذا الاسم على أنفسهم. فبينما كانوا يُعرّفون أنفسهم كسكان مدينة معينة - "صور"، "صيدا"، "جبيل" (المعروفة لدى الإغريق باسم "بيبلوس")، "بيريتوس" (بيروت)، أو "أرادوس" (أرواد) - إلا أنهم لم يُعرّفوا أنفسهم قط كجماعة فينيقية. كانت كل مدينة فينيقية مستقلة بذاتها، وكان السكان يتحدثون لهجات مختلفة. كان لكل مدينة مجمعها الخاص ومؤسساتها وسياستها الدولية المستقلة.
مصطلح "فينيقى" (Phoinikè) هو كلمة يونانية استُخدمت لأول مرة فى قصائد "هوميروس" التى كُتبت حوالى القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. يشير هذا الاسم إلى سكان المنطقة الممتدة على طول الساحل اللبنانى الحالى. ليس من الواضح سبب اختيار اسم "فينيقى"؛ فقد يشير معناه، وهو اللون الأرجوانى المحمر، إلى لون بشرة الفينيقيين، أو على الأرجح إلى الصبغة الأرجوانية الثمينة التى استخدموها لتلوين منسوجاتهم.
كما أدى الاعتقاد الخاطئ بأن الفينيقيين شعب واحد إلى افتراض أن مؤسسى المدن الفينيقية قد انتقلوا فى وقت ما فى الماضى إلى ساحل "لبنان" الحالى من مكان آخر. وقد صاغ المؤلفون اليهود واليونانيون والرومان نظريات مختلفة حول أصل الفينيقيين بناءً على هذا الافتراض.
من أكثر الآراء انتشارًا فى "سفر التكوين" التوراتى، الذى كُتبت نسخته النهائية على الأرجح فى القرن السادس قبل الميلاد. يُذكر فيه أن الفينيقيين ينحدرون من صيدا، ابن كنعان وحفيد حام. ومن خلال هذا الربط، يُدرج كُتّاب الكتاب المقدس الفينيقيين ضمن سلسلة نسب البشرية. حيث اعتُبر حام، ابن نوح، سلف الشعوب الأفريقية؛ وسام، شقيق حام، سلف الشعوب السامية؛ والأخ الثالث، يافث، سلف شعوب وسط وشرق آسيا. ومن اللافت للنظر أن كُتّاب الكتاب المقدس اعتبروا الفينيقيين، الذين تحدثوا، مثلهم، لغة سامية، منحدرين من حام لا من سام.
طرح المؤلفون اليونانيون والرومان فرضيات مختلفة حول أصول الفينيقيين. فوفقًا لهيرودوت، أنهم جاءوا من البحر الإريترى، الواقع، وفقًا لبعض المصادر، بين القرن الأفريقى وشبه الجزيرة العربية. وأشار آخرون إلى منطقة الخليج العربى كموطنهم الأصلى، وأنهم اضطروا للهجرة نحو بلاد الشام بسبب زلزال ضرب موطنهم الأصلى. مع أنه لا أحد يحدد متى أو مكان وقوع هذا الزلزال. ربما كان فى "سوريا" أو إحدى مناطق بلاد الرافدين، أو ربما على شواطئ البحر الأحمر.
أدلة من علم الآثار:
وبالطبع فإن أحدث البيانات التاريخية والأثرية تُناقض جميع هذه الفرضيات والخرافات القديمة حول أصل الفينيقيين. لم تستطع التقاليد التوراتية واليونانية الرومانية التكهن بالتاريخ الحقيقى للفينيقيين، لكن الاكتشافات الأثرية تكشف عن أدلة على ما حدث بالفعل.
فى حين أن الأصول النهائية للشعب الذى أصبح يسمى فيما بعد بالفينيقيين ضائع فى غياهب الزمن؛ إلا أنه بحلول الفترة التى نشأت فيها مدنهم العظيمة، كانوا قد استقروا فى بلاد الشام المتوسطية جنباً إلى جنب مع جيرانهم الكنعانيين المجاورين.
تُظهر الأبحاث الحديثة أن الفينيقيين كانوا ورثة مباشرين لثقافة كانت قائمة فى بلاد الشام منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد على الأقل: ثقافة "الكنعانيين".
يُعرف "الكنعانيون" على نطاق واسع من خلال الكتاب المقدس، حيث وُصفوا بأنهم السكان الأصليون لفلسطين الذين قاوموا غزو بنى إسرائيل لأراضيهم، والتى يُرجع تاريخها تقليدياً إلى حوالي عام 1200 قبل الميلاد.
ومع ذلك، فقد بلغت "كنعان" أوج ازدهارها فى وقت سابق من الألفية الثانية قبل الميلاد، عندما انتشرت الثقافة الكنعانية فى جميع مناطق أنحاء بلاد الشام، من ما يطلق عليه الآن اسم إسرائيل والأراضى الفلسطينية الحالية إلى جنوب سوريا.
وأنشأت الشعوب السامية المختلفة فى المنطقة فسيفساءً من دول المدن التى تم التحدث فيها بلهجات مختلفة من اللغة السامية الغربية نفسها. وحافظت هذه الدول على علاقات تجارية مع المناطق الأخرى فى شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد أدت القيمة الاستراتيجية للأراضى الكنعانية ووفرة مواردها الخاصة، بما فى ذلك خشب الأرز، إلى سعى إمبراطوريات الشرق الأدنى و"مصر" المستمر للسيطرة عليها.
لمدة ثلاثة قرون تقريبًا، حكم فراعنة المملكة المصرية الحديثة "كنعان".
الجذور الكنعانية:
هناك استمرارية واضحة للثقافة الكنعانية فى الألفية الثالثة والثانية قبل الميلاد والحضارة الفينيقية فى الألفية الأولى قبل الميلاد. وقد أظهرت الآثار أن المدن الفينيقية، مثل "جبيل" و"صور"، كانت مأهولة بشكل شبه مستمر منذ العصر البرونزى المبكر (حوالى 3500-2000 قبل الميلاد) على الأقل من قبل أسلاف نفس هذا الشعب الذى عُرف لاحقًا باسم الفينيقيين.
كانت هذه المدن تقع على نتوءات بحرية أو جزر، مما سمح لهم بالسيطرة على الأراضى الزراعية المحيطة والخلجان والموانئ الطبيعية، التى كانت أساسية لأنشطتهم التجارية.
ووفقًا للمصادر المكتوبة، شهدت المنطقة حوالى عام 1200 قبل الميلاد أزمة بسبب غزوات ما يسمى بشعوب البحر، وهم مجموعات من القراصنة من السواحل الغربية للأناضول ومنطقة بحر إيجة. وبينما تشهد الأدلة الأثرية المكتشفة حتى الآن على اضطرابات فى التجارة، واصل الفينيقيون ممارسة تجارتهم.
إن فكرة كون الفينيقيين شعبًا تجاريًا قويًا، ليست بدعةً ظهرت فى الألفية الأولى، بل هى مُثبتةٌ بالفعل فى ألواحٍ كُتبت حوالى عام 2300 قبل الميلاد، اكتُشفت فى إحدى المدن السورية.
تُظهر هذه النصوص أن "جبيل" كانت بالفعل وسيطًا فى التجارة الدولية بين البحر الأبيض المتوسط ومدن وممالك آسيا، لا سيما فى المنسوجات والمعادن والخشب.
لاحقًا، خلال العصر البرونزى المتأخر (حوالى 1600 إلى 1200 قبل الميلاد)، كانت "جبيل" و"صيدا" و"صور"، الموانئ التجارية الرئيسية فى شرق البحر الأبيض المتوسط، ومحطاتٍ حيوية على الطرق البرية والبحرية بين "مصر" و"سوريا" و"فلسطين" و"قبرص" وبلاد ما بين النهرين.
تشير الأدلة إلى أن اللهجات المختلفة التى استخدمها الفينيقيون تنتمى إلى مجموعة اللهجات الكنعانية من اللغات السامية الشمالية الغربية. وأقرب اللغات إلى الفينيقية هى العبرية والآرامية.
يُنسب إلى الفينيقيين دورٌ رئيسيٌّ فى اختراع الأبجدية، التى تُعدّ من أهمّ الإنجازات فى تاريخ البشرية. فقد بُنيت أبجديتهم على أشكال الكتابة السابقة، ورسختها، والتى وُجدت فى ما يُسمى بالنقوش الكنعانية البدائية من مواقع مثل عزبة سرط وسرابيط الخادم، بالإضافة إلى الأبجدية المسمارية فى أوجاريت.
ثقافة مميزة:
يبدو أن الديانة الفينيقية تطورت إلى حد كبير من الديانة الكنعانية القديمة. حيث واصلوا عبادة الآلهة الكنعانية التقليدية مثل "بعل"، و"إيل"، و"عنات"، و"عشتروت"، و"رشف"، و"كوثر"، و"بعلة جبيل" (سيدة جبيل).
وفى وقت لاحق، تبنت المدن الفينيقية آلهة إضافية نتيجة تواصلها مع مجموعات أخرى، بما فى ذلك الآشوريين والبابليين والآراميين والعبرانيين والفلسطينيين واليونانيين. كما بدأوا بعبادة آلهة مثل "ملكارت" و"تانيت"، اللتين لم تكونا ضمن البانثيون الكنعانى فى الألفية الثانية قبل الميلاد. وهكذا، طور الفينيقيون ديانتهم الخاصة، لكنهم حافظوا على تواصل وثيق مع الثقافة الكنعانية السابقة.
بفضل الاضطرابات التي سببتها شعوب البحر، بدأت المدن الفينيقية بالتطور والازدهار بعد عام 1200.
قامت شعوب البحر بتدمير موانئ منافسة، مثل "أوجاريت"، التى لم يُعاد بناؤها، مما سمح للفينيقيين باحتكار التجارة مع "قبرص" و"اليونان" و"مصر". كما ساهم انهيار الإمبراطوريتين المصرية والحثية فى ازدهار المدن الفينيقية. وبحلول القرن العاشر قبل الميلاد، أصبحت مدينة "صور" هى القوة التجارية الرئيسية فى بلاد الشام. وبعد ذلك بوقت قصير، بدأ توسع استعمارى نقل الثقافة الفينيقية غربًا إلى الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، وشبه الجزيرة الأيبيرية، والساحل الأطلسى لأفريقيا.
تعليقات