لغز الجاذبية، هل وصلنا الى تفسير؟!
اختلف علماء الفيزياء لعقود حول ما إذا كان من الممكن تفسير الجاذبية بشكلٍ كامل باستخدام ميكانيكا الكم، أو الفيزياء الكلاسيكية، وهل يمكن التوفيق بينهما.
ويبدو الآن وكأن تجربة قياس بسيطة قد تحسم هذه الأمور.
طبقاً للفيزياء، يوجد فى الكون أربعة قوى طبيعية: القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، القوة النووية القوية ، والجاذبية.
إلا أن واحدة فقط من هذه القوى وهى الجاذبية تختلف عن القوى الأخرى.
الجاذبية هى القوة التى تبقى أقدامنا ثابتة على الأرض، وتحافظ على الكواكب فى مداراتها حول الشمس، وكانت أيضا أول قوة طبيعية تم التعبير عنها من قبل العلماء.
ولكنها فى نفس الوقت القوة التى لا يعرف عنها الفيزيائيون سوى أقل القليل.
نظرية ميكانيكا الكم تسمح لنا بفهم كيفية عمل القوى الثلاث الأخرى فى الطبيعة على المستوى المجهرى. إلا أنه لا توجد نظرية كمية للجاذبية، لذلك عندما تقوم بالتأثير على الجسيمات، فإننا لا نعرف على وجه اليقين ما هى المبادئ تعمل من خلالها.
لذلك يتم توصيف الجاذبية من خلال النظرية النسبية العامة وليس من خلال ميكانيكا الكم.
وقد أدلى الفيزيائى البريطانى "جوناثان أوبنهايم" بتصريح مثير للجدل: حيث يقول إن مثل هذه النظرية لا معنى لها.
كما يصر "أوبنهايم" على أنه لا يمكن توحيد النظريتين: "ستظل الجاذبية دائمًا خاضعة للفيزياء الكلاسيكية، فى حين أن القوى الطبيعية الأخرى تخضع لميكانيكا الكم".
ولم يكن "أوبنهايم" أول من اقترح مثل هذه النظرية، إلا أنه قام بتقديم تجربة يمكنها تحديد إذا ما كانت الجاذبية تحكمها ميكانيكا الكم أم لا.
وهو واثق للغاية من النتيجة، لدرجة أنه قام بمراهنه مع اثنين من أبرز علماء فيزياء نظرية الكم حول النتيجة.
الجاذبية هى أضعف القوى:
أحد الأسباب التي تجعل من الصعب صياغة نظرية كمية للجاذبية هو أن الجاذبية وعلى الرغم من أنها تبدو قوية على الأرض، فإنها فى الحقيقة أضعف قوى الطبيعة الأربعة على الإطلاق.
فبينما تعمل القوة الكهرومغناطيسية والقوى النووية القوية والضعيفة عادةً على مقاييس بحجم الذرة، تعمل الجاذبية عبر مسافات هائلة، وتتطلب كتلًا كبيرة للغاية ليكون لها تأثير ملحوظ.
ولهذا السبب، لم يكن من الممكن البحث أو العثور عن جسيمات الجاذبية الافتراضية - يطلق عليها الجرافيتونات - بنفس الطريقة التى يبحث بها الفيزيائيون عن الجسيمات التى تنقل قوى الطبيعة الأخرى.
في مختبر المسرع الأوروبي للفيزياء عالية الطاقة CERN، يستطيع العلماء تسريع البروتونات إلى سرعات تقترب من سرعة الضوء ثم القيام بتصادمها ببعضها البعض من أجل العثور على جسيمات جديدة.
ولكن إذا كانت الجرافيتونات موجودة بالفعل، فإن تفاعلها مع بقية الاجسام سيكون ضعيفًا لدرجة أن العلماء سيحتاجون إلى تجربة بحجم مائة ضعف حجم النظام الشمسى للتأكد من العثور على جسيم الجاذبية هذا.
ولنفس هذا السبب، ظل البحث عن نظرية كمية للجاذبية نظريًا فقط حتى الآن، دون وجود أى تجارب سواءً لإثباتها أو دحضها.
لكن إذا كان رأى "أوبنهايم" صحيحاً، فربما لم تكن مثل هذه التجارب لتسفر عن نتيجة أبدًا.
العثور على التقلبات:
يعتقد "جوناثان أوبنهايم" أنه من أجل ايجاد نظرية كمية للجاذبية، فعلى نظرية الكم نفسها أن تتغير لتناسب الجاذبية.
الوصف الكلاسيكى للجاذبية - طبقاً للنظرية النسبية العامة لأينشتاين - أن وجود كتلة، مثل كوكب، سيؤدى إلى ثني الفضاء بطريقة تجعل الكتل الأخرى تنجذب نحو الكوكب.
تعمل الانحناءات فى الفضاء كقوى جذب. لذلك إذا كنت ستصوغ نظرية كمية بناءً على هذا، فيجب أن يكون هناك حد أدنى من الانحناء الممكن للفضاء، الذى يتوافق مع عدد واحد فقط من الجرافيتون، (جسيم الجاذبية).
يقترح "أوبنهايم" بدلاً من ذلك أن يتم التعامل مع الجاذبية بشكل مختلف: فيمكننا ببساطة وضع توصيف للفضاء الذى تعمل فيه قوى الطبيعة الثلاثة الأخرى؛ بحيث تكون الجاذبية مجرد الخلفية لكل ذلك.
وهكذا فلن يكون هناك احتياج لوجود هذا"الحد الأدنى من الانحناء"، ولا للجرافيتون.
لقد حاول فيزيائيون آخرون فى السابق هذا النهج لتوحيد الجاذبية مع قوى الطبيعة الأخرى، لكنهم لم يستطيعوا التغلب على عدد من المشاكل الرياضية التي تنشأ عند محاولة معرفة كيفية تفاعل الجسيمات الميكانيكية الكمومية مع تلك الخلفية.
غالبًا ما ينتهى هذا النوع من النظريات إلى عدم الاتساق مع العالم الكمومى بسبب مبدأ عدم اليقين لهايزنبيرج، والذى بموجبه من المستحيل قياس موضع الجسيم وزخمه (أو سرعته) في وقت واحد. فكلما زادت دقة قياسك لأحد هذين، كلما قلت دقة معرفتك للآخر. ومن الصعب وصف انحناء الزمكان الناجم عن الكتلة والطاقة دون الرجوع إلى قياسات دقيقة للفضاء والحركة.
ما يجعل اقتراح "أوبنهايم" مثيراً للاهتمام هو أنه ربما يكون قد وجد طريقة للالتفاف حول هذه المشكلة.
فلكى تكون النظرية متوافقة مع العالم الكمومى، لابد وأن تقوم بعملية احتواء لمبدأ عدم اليقين.
لذا فهو يزعم أن الفضاء أيضا ينطوى على عدم يقين وليس فقط ميكانيكا الكم.
إن كانت فكرة "أوبنهايم" هذه صحيحة، فإن الفضاء على المستوى المجهرى سوف "يتقلب" ــ وبقوة أكبر كثيراً مما لو كان "عدم اليقين" يخضع فقط للميكانيكا الكمومية.
وهذا هو بالضبط ما يقترح "أوبنهايم" اكتشافه عبر القيام بتجربة يتم من خلالها قياس "التقلبات". "Fluctuations"
اقتراح إجراء عملية وزن:
يقوم الفيزيائيون بقياس الوزن بدقة بالغة من خلال طرق مختلفة.
ويقترح "أوبنهايم" أن يقوم الباحثون التجريبيون ببساطة بقياس وزن أسطوانة البلاتين والإيريديوم التي تزن كيلوجراماً واحداً والتى كانت تحدد الكيلوجرام حتى عام 2019 (وبعد ذلك أعيد تعريف الكتلة من حيث ثابت بلانك).
يقترح "أوبنهايم"، ان يتم إجراء العديد من القياسات لوزن تلك الأسطوانة، ثم يتم قياس الاختلاف فى نتائج القياس عند كل مرة. ذلك من شأنه أن يُظهِر ما إذا كانت الجاذبية قابلة للتفسير بالفيزياء الكلاسيكية أم بميكانيكا الكم.
فاذا كانت النتائج أقل تبايناً من توقعات نظرية "أوبنهايم"، ينبغى هنا رفض نظريته. ولكن إذا كانت النتائج ضمن النطاق الذي توقعه، فيمكن لعلماء الفيزياء حينها الاعتراف بوجود تغيير جذرى فى فهم الجاذبية لا يقل جذرية عن لحظة التفاحة الأسطورية التى وضعها نيوتن.
إن "أوبنهايم" واثق من النجاح، وإذا كانت التجربة سهلة التنفيذ عملياً كما يزعم، فلابد ان الرهان سيحسم بسرعة.
وإذا فاز "أوبنهايم"، فسوف يقترب الفيزيائيون خطوة واحدة من فهم آلية عمل الكون بالكامل.
عن كريستيان بيرلش
تعليقات