الثلاثاء، يناير 07، 2025

إسلام العصور الوسطى وطبيعة الله

يتأمل "موسى ممتاز" فى هذا المقال إسهامات اثنين من علماء الميتافيزيقيا المسلمين المتمردين في العصور الوسطى.

إن الأساس الدينى للإسلام، وهو القرآن الكريم، يؤكد بشكل لا لبس فيه على مبدأ التوحيد ـ وهو مبدأ وحدانية الله المطلقة، التى لا تقبل أى شكل من أشكال النقاش او المجادلة. 

ومن أجل فهم الإنسان للطبيعة الإلهية، يسعى القرآن أيضاً إلى تعريف الله للبشر من خلال درجات عليا من الصفات الكاملة والتى قد توجد ولكن بشكل محدود في البشر. 

وهو الأمر الذى ربما دفع كثير من علماء الدين المسلمين إلى التفكير فى الله، وهو كيان غير بشرى من الأساس، بطريقة تشبه الى حد ما رؤيتهم للبشر. 

تلك العادة التى غالباً ما يعززها الميل الفطرى لدى البشر إلى إسناد الصفات البشرية إلى كيانات غير بشرية، وكذلك محاولة توصيف الألوهية التي لا توصف بأمثلة يصعب إدراكها، لمجرد احساسهم باليأس التام من تصور الوجود الالهى بشكلٍ مادى. 

ومع ذلك، فإن هذه الفكرة "الإنسانية" عن الله أزعجت علماء الدين والفلاسفة المسلمين على حد سواء لفترة طويلة.

فى التقاليد الفلسفية الغنية للإسلام، يمثل مبدأ التوحيد المطلق، حجر الزاوية الرئيسى.

لذلك فربما علينا أولاً وقبل كل شىء، أن نعرف "الواحدية" بمعناها العام، حيث يمكننا الإشارة إليها باعتبارها "عدم ثنائية مطلقة". 

بشكل رئيسى تقول "الواحدية" إن هناك حقيقة مطلقة واحدة عليا تكمن وراء كل ظاهرة أخرى في الكون. 

انطلاقاً من هذا التعريف الأساسى، يمكن تقسيم الواحدية وتطبيقها على مدارس فكرية مختلفة. 

على سبيل المثال، طورت التقاليد الفلسفية اليونانية والهندوسية القديمة تفسيرات وتكيفات غنية للواحدية، ربما يكون من غير المنصف شرحها في مثل هذا المقال القصير. 

لكن بين ما قبل سقراط، طور الفيثاغورسيون أحد أقدم أشكال الواحدية التى لا نزال نعرفها اليوم - وهي فكرة تُعرف باسم الموناد. وهنا سوف نقوم بالبحث فى تقليد من تقاليد الواحدية تم تجاهله وعدم تمثيله بشكل كافٍ: الواحدية فى العالم الإسلامى.

في حين يحاول الفلاسفة جاهدين فهم طبيعة الواقع ومحاولة تفسيره، حاول العديد من الفلاسفة المسلمين البارزين فك رموز هذه المعضلة المحيرة. ومن بينهم كثيرون من أمثال "ابن عربى" و"شهاب الدين السهروردى" ـ وهما اثنان من الرواد البارزين فى الفلسفة الإسلامية.

وقد أُعدم "السهروردى"، الذي ولد فى بلاد فارس فى القرن الحادي عشر الميلادى، بتهمة الهرطقة بسبب فكرته الفريدة، حكمة الإشراق ـ التوحيدية التنويرية ـ 

ولهذا السبب تم تهميش أعماله وتدقيقها بشدة عبر الطيف المستقطب من الإسلام التقليدى. 

وقد تأثرت كتاباته بشكل عميق بابن سينا، والأفلاطونية المحدثة والأرسطية، ومهدت الطريق في نهاية المطاف لمدرسة فكرية صوفية جديدة، وهى التنويرية.

جوهر فكرة "السهروردى" هى أن الواقع انما هو نور إلهى، هذا (النور) 

يضعف كلما ابتعدنا عن الله، وذلك البعد يؤدى إلى اننا نتوهم مظاهر مادية وغير مادية وغير حقيقية لله، بينما هو فى النهاية ليس سوى الواقع الوحيد. كما يطرح "السهروردى" هيكلًا هرميًا من التدرجات، تتراوح تلك التدرجات بدرجات متفاوتة من الظهور ومن الشدة.

 كما يؤكد على أهمية التفاعل بين الأبعاد  (الباطنية) و(الظاهرية) للواقع - أى بين ما يمكن رؤيته وما هو مخفى عن الإدراك. 

ويؤكد "السهروردى" على أهمية التجربة المباشرة والحدس، وتستند أفكاره إلى أسس غنوصية (عرفانية) قوية. 

كما تتوافق أفكاره مع مفهوم "ابن عربى" الشهير ولكن الغامض الخاص بوحدة الوجود، والذى يؤكد أن الله هو الواقع الشامل الوحيد، وأن الخلق عبارة عن شبكة معقدة سلسة من الترابط مع الله.

من ناحية أخرى ، ولد "ابن عربى" في القرن الثانى عشر الميلادى في شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا) تحت السيادة الإسلامية، ويعتبره البعض "الشيخ او الإمام الأكبر"، ويعتبره آخرون (المعلم الأعظم). 

وقد قام بتأسيس تفكيره الثورى من خلال مدرسته الفكرية الخاصة، مدرسة الأكبريين.

وعلى النقيض من "السهروردى"، لا يستخدم "ابن عربى" مفهوم "النور" الميتافيزيقى أو أى عنصر مادى أخر كتفسير قياسى. 

ان فكرة "ابن عربى" المركزية هى: "وحدة الوجود" والتى تتربع على قمة تفكيره الفلسفى.

وهذه الفكرة العميقة تذيب التناقض بين العالم المتصور وبين خالقه، فتشير إلى أن الكون والله ليسا كيانين منفصلين بل هما جوانب متشابكة من "كل موحد" غير مقسم، دونما تمييز أساسى ما بين الخلق والخالق. 

ومع ذلك، يتناول "ابن عربى" الفرق بين الماهية والوجود، إلى جانب الحفاظ على التمييز بين الواقع الأساسى وتلك الأشياء الموجودة في عالم المظاهر، أو الموجودات. 

وعلاوة على ذلك، يقدم "ابن عربى" مفهوم البرزخ، وهو عالم ميتافيزيقى تتفاعل فيه الوحدة والتعدد، وبالتالى يؤكد على أهمية الطبيعة العلائقية للوجود، وهي حالة سلسة من الترابط.  

وكثيرا ما يتم تفسير أفكاره خطأ باعتبارها هرطقة، على الرغم من أن "ابن عربى" كان واضحا فى الرد عن ذلك، قائلا أن البشر هم مظاهر لله، ولكنهم ليسوا متطابقين معه.

لقد أرست أفكار "ابن عربى" و"السهروردى" الأساس للتطور العقائدى للتصوف الإسلامى؛ وفي حين أن تفسيراتهم واسهامتهم العميقة لا تزال قيد نقاش مستفيض، إلا أنه يمكن اعتبارهما اثنين من أكثر الشخصيات تأثيرا فى الفكر الإسلامى في العصور الوسطى.


"موسى ممتاز" هو كاتب مقالات ومعلق سياسى يقيم فى لاهور، باكستان، ولديه شغف شديد بالكتابة والفلسفة من خلال كتابه المقالات والدراسات.


ليست هناك تعليقات: